الفصل التاسع والأربعون:

25.3K 669 15
                                        




منذ أكثر من ربع ساعة وهو ساجد، نعم ربع ساعة كاملة لم يرد فيها للحظة أن يرفع رأسه حتى لا يذهب ذاك الشعور الجميل. شعورٌ بالأنس، والسلام الداخلي طغى عليه. شعورٌ بالراحة والطمأنينة اكتسح مجال قلبه، وأراح صدره من الداخل، ونقاه.
فمنذ أن عادا للمنزل وذهب كلٌ منهما إلى غرفته الخاصة، شعر هو برغبةٍ مُلحة في الصلاة، فلم يمنع نفسه مع أنه قد أدى فروض اليوم بأكملها.. صحيح أنها ذكرته بمعظمها إلا أنه يحاول عدم النسيان. لذلك كان أول ما فعله أن توضأ ثم بدأ يصلي، وككل مرة يتوجه فيها للصلاة يشعر فيها بالسكينة، نفس الشعور كَساه، وتخلل فؤاده. وخاصة أنه بات يعلم أن لديه فرصة أخرى، فقد يعفوا الله عنه إذا ما تاب.
هو يحتاج التوبة..
يحتاج مرضاة الله..
يحتاج هذا.. نعم يحتاج هذا كثيرًا.

رفع رأسه معتدلاً من سجوده، فإذا به يبكي وكأنه لم يبكِ يومًا! عيناه كانتا غارقتان بعبراته، ولم يحاول أبدًا إيقاف نزيف عينيه. يمكن للشخص أن يشعر بالحرج إن بكى أمام أيٍ من الناس، لكن لا يمكنه أن يشعر بالحرج إن بكى أمام رب الناس. نحن ضعفاء.. لا حيلة لنا، ولا قوة لنا إلا برب الناس.

استمرت صلاته لوقتٍ طويل، كلما أنهى ركعتين أتى بغيرهما. تجاوز الليل منتصفه، وبدى عليه الشعور بالإرهاق وهو يسلم آخر مرة لينهي الصلاة.
اعتاد دومًا على إرهاق العمل، فكان يعود متعبًا وقد ينسى أحيانًا تبديل ثيابه لكي يستيقظ اليوم الثاني مرتديًا إياها. لكن إرهاق السهر لأجل العبادة! لأول مرة يجربه، وبحق رب السماء شعر أن له لذة وحلاوة غير الذي من غيره كان. اعتدل واقفًا، ومسح دموعه وهو يتجه نحو الفراش، لم يعد لديه قدرة على التفكير في أي شيء، فقط النوم. فاستلقى على الفراش ومدد يديه، وقبل أن يغفل تمامًا تذكر..

"نظر لها وسألها باهتمام:
-وإنتي؟
أخذت نفسًا مطولاً قبل أن تجيبه بسكون:
-كنت بصلي."
حينها ابتسم عفويًا وهو يغفوا.

................

في اليوم التالي..

اصطفت السيارتان سويًا أمام ذاك المبنى الضخم. ثم ترجلت هي من السيارة وقبل أن تودع أخيها، ترجل هو من السيارة الأخرى ممسكًا بيد ابنته، و..
-احم احم..
استدارت سريعًا حين سمعت صوته الهادئ، فرفع هو يده ليحيي أخيها الجالس في السيارة ويردف بحفاوة:
-السلام عليكم، كويس إني شوفتكم الوقت.
نظروا له وأجابوه بهدوء:
-وعليكم السلام
تابع هو بجدية:
-فيروز، سهيل، كان فيه موضوع عاوز نتكلم فيه.
ثم مسح على شعر ابنته وهو يكمل باسمًا:
-بس لما تخلصوا شغل، ولما تالا تخلص حضانة.
نظرت له فيروز وهي لا تفهم ما يعنيه، فابتسم مطمئنًا لها ولأخيها، حينها قال سهيل بحيرة بعد أن خرج من سيارته:
-موضوع إيه يا معتصم!
أجاب بغموض:
-هتعرفوا النهاردة، بس ادوني ميعاد مناسب أجيلكم فيه.
اقترب منه سهيل، ثم رفع تالا وهو يجيبه بمرح:
-متقولش كدة، تنور في أي وقت، وعامةً حظك النهاردة هرجع البيت بدري.
ضحكت تالا وهو يحملها، وترك معتصم يدها وهو ينظر إليهما بحنو، واطمئنان. أخرج سهيل من جيبه مصاصة وهمس في أذن الصغيرة ببضع كلمات، فنظرت لفيروز وضحكت ثم أخذت منه المصاصة.
وبدى أن فيروز خمنت ما أخبره بها، فنظرت له بوعيد.
أردف معتصم بنبرة طبيعية:
-خلاص هاجي على الساعة ٦ كدة.
أومأت فيروز رأسها، وأجابته باسمة:
-تشرفنا
أومأ رأسه لهما هو الآخر، ثم ودعهما وانصرف تاركًا إياهم جميعًا.
حينها نظرت فيروز لتالا وسألتها بغضب مصطنع:
-الولا دة كان بيقولك إيه؟
ضحكت تالا مجددًا، ونظرت لسهيل الذي بدوره ظل يهز رأسه نافيًا، لكنها وبعد أن أخرجت المصاصة من فمها أجابت بمرح:
-كان بيقولى آآآ..
وضع سهيل يده فوق فمها لكي يمنعها من الحديث وهو يصطنع الخوف، لكنها نزعت يده ضاحكة وأخرجت لسانها وهي تردف بسرعة:
-كان بيقول المصاصة دي كانت بتاعتك، وإنك طفلة، واخلي بالي عشان مش تاخديها مني.
ضيقت عيناها وهي تنظر له، فأنزل سهيل الطفلة سريعًا، وركب السيارة وهو يضحك، ويتظاهر بالخوف منها
-ماشي يا سهيل لينا بيت نتحاسب فيه.
قالتها فيروز بعد أن ركب هو، فأجابها وهو يتحرك بالسيارة:
-معلش بقى، المسامح كريم
ثم أخرج يده من خلال النافذة وأشار مودعًا وهو ينصرف مرددًا بضحك:
-يلا السلام عليكم.
نظرت فيروز لتالا، ثم وضعت يدها في خصرها وهي تسألها بحدة مصطنعة:
-بتتريقي عليا يا تالا، ماشي! أنا هوريكي
ضحكت الفتاة وحاولت الهرب، إلا أنها أمسكتها وحملتها سريعًا وهي تتابع:
-تعالي يا مغلباني ندخل لحسن نترفد بسبب التأخير دة
ثم دلفتا سويًا بعدها..

عصفورة تحدت صقر.......للكاتبه فاطمه رزقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن