عندما يصبح للقلب عينان تبصران لاتخف فكما قال مولانا جلال الدين الرومي (والنور الذي في العين ليس إلا أثراً من نور القلب وأما النور الذي في القلب فهو من نور الله) .. وأكثر مانحتاج إليه في هذا العالم هو صدق البصيرة حتى وإن كفت أعيننا عن البصر.. ويكون حب أحدهم بين ثنايا الروح كالضوء ليؤكد لنا أن الظلام لم يعد خانقاً والحياة بدونه صحراء قاحلة لازرع فيها ولا مطر لأنه سيصبح سقياك وغذاؤك وماسيبقيك واقفاً على قدميك رغم إنهزامك والذكرى ستتسرب بين شقوق الجروح لتضمد ندوب أرواحنا وترمم تلك النتوءات التي ستتكون بلا أدنى جهد فوق أضلعنا وتنادي على من رحل دون وداع ...
دعوني أخبركم يا أصدقائي من أكون .. أنا ريان سعد زين الدين الإبن الأول والوحيد لرجل الأعمال سعد زين الدين ، وسيدة المجتمع الراقي رويدا عيسى الشناوي ، ووريث مؤسسة الريان للإستثمار العقاري والمشاريع السياحية.. أمتلك كل شيء ، المال والأعمال والمظهر الإجتماعي المرموق بالإضافة لمظهري الشخصي الجيد وبنيتي الرياضية.. كل تلك الصفات جعلت مني محطاً لأنظار الفتيات داخل الطبقة المخملية فجميعهن يقعن في غرام العينين العسليتين والشعر الفاتح المسترسل ولا تنسوا أموال والدي بالمقام الاول.. ولسوء حظهن وحسن حظي أنني لم أكن مهتم بتفاهاتهن التي لا تروق لي فما أبحث عنه غير متاح داخل مجتمعهن الزائف ..المزين بالقصور والمجوهرات والسيارات الفارهة وأقف وحدي في مواجهة الخوف والإرتباك كلما أجبرتني الظروف على الإحتكاك بحياة لا أنتمي إليها وأنعزل قدر المستطاع تجنباً لرؤية أقنعة بشرية بائسة تنخر الروح بمجرد التعامل معها.. ولن أنكر أن تأثير تربية جدي وجدتي مازال مترسخاً بمبادئي وأسير وفقاً لما تلقيته من تعاليم ووصايا كوََّنت شخصيتي المغايرة تماما لنمط حياة الأثرياء مما يغضب والدتي كثيراً ويجعلها تناصبني العداء عندما تلتقط قرون إستشعارها رائحة جدي أثناء الحديث وتكره صفاته التي ورثتها منه رغماً عني وكأن قوانين مِندل وُضِعَت من أجل إشعال فتيل غيرتها وغضبها الدائم ..لكن لماذا تلومني وهي التي سلمته عبأ تربيتي وتخلت عن وجودها بجانبي متخذة من سفرها برفقة والدي حجة لتتركني إبن ثلاث سنوات في بيته ليتحمل مسئوليتي حتى أصبحت مهندساً معمارياً ناجحاً تتفاخر به أمام صديقاتها ، وكأنني خاتم" سوليتير " يكمل مظهرها الإجتماعي وللأسف علاقتنا متوترة دائماً ونقف على محك القطيعة بسبب إختلافنا الواضح ، وأحمد الله وأشكره أن والدي يعوضني عن قسوتها ويحاول تقليل الفجوة الكبيرة التي تتسع يوماً تلو الآخر بيننا .. أبي هو معطف أماني وظل حمايتي من مغبة ثوراتها المستنكرة لإلتزامي ، وكتفا قوياً أتكأ عليه في أوقات ضعفي .. نتشارك سوياً عاداتنا وعباداتنا كالصلاة وإخراج التبرعات الخيرية و نذهب سراً لزيارة بيت جدي ، وأحيانا نمارس الرياضة معاً ونظراً لتقدمه بالعمر أصبحت ممارسة الركض فالمضمار الملحق بالڤيلا غير مناسبة لصحته .. معذرةً يارفاق غفلت عن إخباركم أنني أسكن الآن في ڤيلا فاخرة تتوسط أرقى أحياء القاهرة .. لا أستطيع وصفها بالمنزل لأنها تفتقد دفء المنازل وإحتواء جدرانها ..تسيطر على أرجائها برودة منفرة بالرغم من مظاهر الترف والرفاهية الطاغية المتمثلة بالأثاث الفاخر والمساحة الواسعة والغرف الكثيرة المفروشة على أحدث طراز ورغم كل هذا لا أشعر بالراحة سوى في المطبخ حيث "نجاة " مُربيتي الحنونة .. جابرة كسر خاطري وعوض ربي الغالي عن حضن أمي بعيد المنال .. ترتب غرفتي وتهتم بأحوالي ..وتطعمني بكفيها أشهى الأكلات التي تعدها خصيصاً من أجلي ، وتشاركني تفاصيل ، وأسراري .. لا تنام قبل الإطمئنان على إنتظام أنفاسي في فراشي ، وتدثرني جيداً صيفاً وشتاء وتطبع قبلة عميقة فوق جبيني يعقبها تمتمات بدعوات كثيرة تتضرع بها إلى الله كي يريح قلبي ويهدي لي نفسي .. أمنيات لم تخرج مرة ولو صدفة من شفتي والدتي الحقيقية.. لتصبح نجاة طوق نجاتي من الفتور الذي أعيشه بين جدران هذا المكان ، وذكرى بيت جدي التي رفضت أن تتركني وحيداً وأحتل مكانة إبنها الذي لم تستطع إنجابه بملأ إرادتها .. دعوني أشارككم يا أصدقائي سراً أو بالمعنى الأوقع هاجس يؤرقني من حين لآخر فبالرغم من بلوغي السادسة والعشرون من عمري إلا أنني لم أقابل فتاة أحلامي.. ولم يباغتني أي شعور نحو إحداهن ولو بالخطأ .. ولم يضم قلبي إسماً بين طيات مناجاتي لأدعو اللهم صاحبته وكفى.. وأحتاج من تعطي المعنى الحقيقي لعالمي وتعيد السلام لروحي.. أريد أن أجد تلك اليد التي ستلون دفتر حياتي المعتم بأناملها وتشكل حدودها داخل خريطة عمري لتسكن تلك الجزيرة المهجورة في شقي الأيسر.. لكن الحظ السيئ يضرب كتفي ويبتسم قائلاً (أنا لست مثلهم ولن أتركك أبداً) ، فأكبر مشكلة أواجهها مع والدتي هي رغبتها الملحة في زواجي من إبنة أختها المصونة والجوهرة المكنونة " چيسي " أكثر فتاة مغرورة تعيش على كوكب الأرض.. غارقة في بحر مساحيق التجميل ، ولا ترتدي إلا الملابس الفاضحة..حريصة دوماً على التواجد في محيطي ظناً منها أنها ستلفت إنتباهي لكنها لا تعلم مدى تقززي وشعوري بالغثيان لمجرد التفكير بها كزوجة.. فكيف سأئتمن تلك البضاعة الفاسدة المحاطة بأعين الرجال كالذباب حول صندوق النفايات على إسمي وشرفي وأختارها لأعلق مصيري ومصير تربية أبنائي فيما بعد برقبتها المغطاة بقلادات الألماس الباهظة ، وكما قال رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) ولا أعتقد إطلاقاً أن الآخرة والإيمان معنيان بالأمر لديها فهي كما أعتبرها تماماً .. سلعة رخيصة الثمن ، عالية القيمة تستمد قوتها من نفوذ والدها رجل الأعمال المعروف " محمود الصراف "
أغلق ريان دفتر مذكراته عندما سمع طرقاً خفيفاً علي باب غرفته .. نهض من مكانه ليرى من الطارق في هذا الوقت المبكر فالساعة الآن الخامسة صباحاً وجد المربية نجاة تقف أمامه بوجهها البشوش وضحكتها الصبوحة قائلة (صباح الخير ياحبيبي)
أنت تقرأ
عيون الريان (مكتملة)
عاطفيةكانت في حبها ملاكاً وأنا لم أكن افلاطوناً كي لا أحلم بها بين ذراعيَّ