لن أسامح نفسي..!

2.5K 59 13
                                    

ينحني الشجر خجلا مما فعلته بكِ ، و يبكي البحر إعتذاراً لكِ ، و تتجمع الورد معا لأجلكِ ، و تبقى كلماتي عاجزة أمام دموع عينيكِ
أشعر بأن نار إعتذاري تحرق قلبي ، إعلمي يا حبيبتي أنكِ ذاتي و أنكِ الحاضر و المستقبل و الماضي...أنتِ جوهرتي الثمينة التي لطالما أسكنتها داخل قبضة يدي لحمايتها من ذرات الغبار المحمولة في الهواء الطلق و لكنني لم أتخيل يوماً أن يدي ستتشد قبضتها و تحطمها أنا أعتذر لكِ بشدة و بكل لغات العالم حتى الصامتة منها يا حبيبتي

و بعد إنتظار طويل مر كأنه دهراً كاملاً من العذاب المميت خرج الطبيب من غرفة العمليات منهكاً و يمكن ترجمة تعابير وجهه بأنها تنذر بكارثة...اسوأ كارثة على الإطلاق
- سيد عمر أنا آسف جداً حيال ذلك و لكن زوجتك كانت مُعرضة للإجهاض...لقد كان نزيفاً حاداً و كان من الضروري جداً مجيئها إلى المستشفى فور حدوث النزيف حتى لا يحدث مضاعفات خطيرة لها أو للجنين...و لكن للاسف الشديد هذا لم يحدث
بهت وجه من الرعب الذي تغلغل في روحه من أثر كلمات ذلك الطبيب متهكم الوجه
ما الذي سليه تلك المقدمة البائسة ؟...هل سيخبره بفقدانه لأميراته ؟ هل سيخبره كم تخاذل في حمايتها حتى رمى بها في منطقة الخطر - حتى ولو من دون أدنى تعمد -
يشعر بالذنب بشأنها و كأنه هو من إختطفها...مئات الأفكار السلبية و الذكريات المؤلمة تدفقت إلى علقه في تلك اللحظة
تلك المشفى و ذاك الطبيب ذكرته بذكرى مشابهة ألمته في الماضي و مازالت تفعل حتى الآن... تلك الليلة منذ ثلاثة عشر عاماً حينما كان يقف أمام إحدى الغرف المماثلة
في مستشفى أخرى يقف مستنداً إلى الحائط و الخوف سيؤدي بحياته..والدته في الداخل
طال إنتظاره...طال كثيراً...كم تمنى خروجها و ليته لم يفعل فهي لم تخرج مفتوحة العينين مبتسمة بحنان بل خرجت مُعلنة إستسلامها لمرض السرطان... خرجت مُعلنة هزيمة قاسية لبطلة حياته على يد ذلك الوحش الكاسر...خرجت محملة على سرير صغير مغطاة تماماً و محاطة بالممرضات المكتئبات إلى أن تشجعت إحدهن و ألقت الخبر المفجع إلى والده
- آسفون جداً يا سيدي و لكن قد كان تمكن المرض منها...لم نستطع فعل شيء.. لقد توفاها الله
تلك الكلمات التي تمكنت من تمزيقه أرباً حتى الممات فأنحنى باكياً يقبلها من جبينها للمرة الأخيرة و كم تمنى أن ترحل روحه بدلاً منها و تعود هي للحياة
و رحلت إمينة إبيليكيجي عن عالمه تماماً
و الآن و بعد ثلاثة عشر عاماً ها هو على وشك فقدان روحه مرة أخرى...أمينة إبيليكيجي أخرى على وشك الرحيل... و لكن هذه المرة ليس بسبب مرض مميت...بسببه هو...بسبب كونه عمر إبيليكيجي...بسبب أن تلك المسكينة إبنته...هو من يعرض إبنته للخطر
و عند هذه النقطة صرخ عقله غاضباً عليه و لائماً له
حينها لن تسامحك دفنة أبداً...أبداً يا عمر
إختنق صوته بالبكاء و تحشرج صوته ليخرج متقطعاً و ضعيف يملأه الحرقة و الفزع
- و...و م‍...ماذا ‍س‍...سيحدث لهما الآن ؟
إستشعر الطبيب فزع الزوج على زوجته الحامل و طفله فقرر إستكمال حديثه عله يخفف من رعب الرجل قليلاً
- لقد تمت العملية بنجاح...زوجتك و طفلتك بخير حالياً و لكن...ستبقى هنا تحت الملاحظة الطبية ليومان حتى نطمئن تماماً على سلامة الأم و الجنين
بدأت ذرات بسيطة من الراحة تتشكل على ملامح وجهه الأسمر و إرتسمت تباشير إبتسامة ضعيفة يشوبها الخوف...فهي بخير، أميرته بخير طفلته الصغيرة بخير...هي تحت رعايته الآن...فقط يومان و بعدها كل شيء سيكون بخير
سرد عقل الرجل تلك الجمل المشجعة محاولاً بها بناء سد هش أمام موجات تسونامي اللوامة
- أرجوك أريد رؤيتها...
همس عمر مترجياً ليؤمى الطبيب بهدوء و لكنها لم تكن موافقة بالمعنى الحرفي للكلمة
لأنه بعد تلك الإيماءة تكلم موضحاً
- ستخرج بعد عدة دقائق من غرفة العمليات و سيتم نقلها إلى غرفة عادية...سأمنحك لرؤيتها بضع دقائق فقط لأنها ستحتاج إلى الراحة و أنا أريدك في مكتبي أيضاً...يجب عليك إتباع بعض النصائح لضمان سلامتها بعد خروجها من هنا
أومئ السينيور إيماءة خائفة و كأن تلك الكلمات لم تزيل خوفه و لم تخمد لومه لنفسه على كل ما يحدث الآن...فتلك الكلمات لن تزيل الذنب من على عاتقه...مازال مذنباً لازال مسئولاً عما حل بعائلته الصغيرة
و كما كانت دفنة هل مسكن الألامه و مهدئ ثورات عقله فأن خروجها من غرفة العمليات أخرس أفكار عمر الجارحة و أسرع بالإلتفات لزوجته الحامل النائمة على السرير المتحرك و التعب و الشحوب و الخوف - حتى بعد غيابها عن الوعي - يرقدان بملامحها البريئة و الطاهرة فأسرع ليقف بجانبها و من دون تردد مال على جبهتها مُقبلها بحنان و قبل أن يتكلم سبقته الجدة الباكية توركان متكلمة بصوتها المرتجف الخافت و هي تُقبل جبهتها عدة قبل متلهفة
- إبنتي، صغيرتي الجميلة ، أرجوكِ كوني بخير...من أجلي...من أجلنا جميعاً
ثم دفعت الممرضة السرير لتجبر الجدة العجوز على الإبتعاد عن حفيدتها الحمراء لترتمي في إحضان سرادار باكية كما لم تبكي من قبل أما السينيور فأكمل طريقه بجانب السرير ركضاً ليجاري سرعته ممسكاً بيدها الضعيفة و لأول مرة لا تضغط على يده
لا تنظر إلى عينيه...لا تحادثه...أو بالأحرى لأول مرة لا تبالي لوجوده
و فور دخولهم تلك الغرفة البيضاء بالكامل بدأ الممرضين عملهم بنقلها إلى سرير الغرفة و أحاطتها بالأحهزة الطبية اللازمة
- سأتركك معها قليلاً...و لكن لا تطيل... في الأساس ستسعيد وعيها في غصون ساعة بالأكثر
بعد ذلك خرج طاقم الطبي من الغرفة تاركين خلفهم قلوب باكية معتذرة خائفة مشتاقة و متألمة و في الحال خرجت دموع عيون شاه السمر و هو يقبل يدها و يطيل القُبلة حتى بللت دموعه ظهر يدها
- أنا آسف جداً يا حبيبتي...آسف مئات المرات
أرجوكِ دفنتي تحملي...لا تتركيني و تذهبي
فأن حدث لكِ شيء لن أسامح نفسي أبداً
لا أريد العودة إلى الوحدة...لن أعيش بدونكِ
حاربي لنرحل من هنا أرجوكِ فهذا المكان يخنقني و حالتك تلك سلبت روحي مني
أرجوكِ دفنة عودي إليّ
بقى يحدق بوجهها النائم طويلاً تحت تأثير المخدر و مع ذلك مازال الخوف يعتليه و الكدمات و الجروح التي سببها ذلك الحقير مازالت واضحة المعالم
فرفع رأسه ليقبل جبينها المتورم بهدوء و بعد هذا أطل الطبيب معتذراً مطالباً عمر بالإنصراف و التوجه إلى مكتبه
- هيا يا سيد عمر لنتركها ترتاح قليلاً و نتحادث قليلاً في مكتبي.
رحل الطبيب عن الأنظار تزامناً مع إنطلاق تنهيدة طويلة الأمد حاملة في طياتها الكثير من الألم ثم تكلم و هو يقبل جبينها مرة أخرى
- سأذهب الآن يا حبيبتي...و لكنني سأعود مجدداً أعدك
و بعد إلقاء نظرة أخيرة عليها أدار ظهره ليخرج من الغرفة متوجهاً نحو مكتب الطبيب.
- حضرة الطبيب ، هل هنالك شيء يدعو للقلق حيال زوجتي أو إبنتي ؟
تسائل عمر بقلق فور دخوله للمكتب حتى أنه لم يبالي لسؤال الطبيب عما يريد أن يشرب او طلبه له بالجلوس و حينما رأى صاحب الرداء الأبيض ذلك القلق و التوتر على وجه الزوج إبتسم مطمئناً
- إجلس و إرتح يا سيد عمر...زوجتك و طفلتك بخير... و لكنني رأيت أنه من اللازم لفت إنتباهك لعدة أمور ستساعد زوجتك كثيراً في التعافي...في بادئ الأمر يستلزم عليها الحرص التام على التغذية الصحية و علاجاتها و الحفاظ على حالتها النفسية الجيدة...يجب عليك إبعادها عن أي شيء سيحزنها و تجنيبها نوبات البكاء و الغضب
فإذا تعرضت لأي ضغط نفسي مجدداً ستكون العواقب وخيمة
صمت الطبيب المعالج لزوجته الحامل قليلاً ليصبح الصمت سيد المجلس لعدة دقائق ثم إستأنف المداوي حديثه بهدوء تام
- كما أنه يجب عليك تفهم أي تخبطات نفسية قد تحدث لها عند إفاقتها...فمن الممكن أن تكون خائفة أو غاضبة منك...و ربما تكون متعلّقة بك بشكل زائد
رسم الأسمر إبتسامة متفهمة قبل أن يهمس بصوت خفيف
- Tahmin etmiştim...
" توقعت هذا..."
و بعد ذلك حرك الطبيب أنظاره إلى ساعة يده السوداء ليرى إن موعد إفاقة ذات الشعر الأحمر قد إقترب فتكلم بآخر الطلبات التي على الزوج إتباعها و التي كان يجب عليه إخباره بها مسبقاً و لكنه لم يفعل ذلك و ها هو تذكر ذلك الآن
-...و هناك شيء آخر...لا تسألها عن أي شيء عاشته في تلك الفترة...دعها هي تخبرك في الوقت الذي تراه هي مناسباً...لأن تذكيرها بالأمر قد يؤذيها نفسياً
وقد كانت نتيجة تلك الجملة الأخيرة ظهور ملامح الحزن و التألم مرة آخرى على تقاسيم وجهه الأسمر فرنين كلمات الطبيب بأن هذا قد يؤذيها نفسياً أزعجته حقاً فهو يتحمل أي شيء سوى تتضر حمرائه و لكنه تظاهر بالتفهم و الثبات مومئاً برأسه بسكون تام و أقدم على الخروج بعد ذلك بخطوات ثابتة ذاهباً إلى غرفة حبيبته ليشبع رغبته القوية في رؤية حبيبته حتى لو نائمة و لكن فور
خروجه من مكتب الطبيب لاحظ حركة خطوات سريعة نسيباً بالنسبة لذاك الرجل العجوز الذي يتحرك تجاهه راسماً إبتسامة أبوية حنية و ما أن إتضحت ملامح وجهه حتى بات الوجوم هو المسيطر الأول و الأخير على وجه السينيور...لا يستطيع فهم تلك المشاعر التي تدور بداخله بتاتاً
هل هو غاضب ؟ لا، هو لا يشعر بالغضب تجاهه
هل هو سعيد بذلك اللقاء الغير مرتب ؟ لا، ليس هذا أيضاً
إذاً هل هي مشاعر التعود على الخصام مثلاً ؟
الأمر ليس واضحاً إذا تم وضعه على هذا النحو و لكن ربما هذا أنسب وصف لما يشعر به الآن
أسئلة عديدة و إجابات مشوشة دارت في عقل الملك الأسمر و لم يخرجه من تلك الدوامة سوى لمسة أصابع يد جده الهادئة على كتفه و هو ينادي أسمه بلطف
- عمر...حفيدي العزيز...كيف حال دفنة ؟
رفع عينيه المشوشة ليقابل أعين هولوصي الحانية القلقة...وصلة نظرات طويلة مزيج غير متجانس بين الحنان و الصدمة...القلق و البرود...الخوف و التظاهر بالقوة
- كيف عملت بما حدث لها ؟
تسائل الشاب الأسمر بصوت هادئ خالي من المشاعر تماماً و عندما سمع جده سؤاله أمسك يده و بدأ يتحرك تجاه باب الخروج من المستشفى متوجهاً نحو تلك الكافتيريا الملحقة بالمستشفى و بكل هدوء جلس على الكرسي المقابل لعمر
- أجلس يا عمر سنشرب شيئاً و نتحدث
أزاح الأسمر الكرسي ليجلس أمامه و لكنه لم يتراجع أبداً عن إبداء عدم رغبته في البقاء هنا بينما زوجته نائمة في غرفة المشفى ولا يعلم عنها شيئاً
- لست في مزاج يسمح لي بشرب القهوة و التحدث ولا أرغب البتة في الإبتعاد عن دفنة أيضاً فما الفائدة في الحديث هنا ؟
ظهر إنزعاجه الشديد و قلقه بشأن زوجته بشكل واضح كالشمس و بالإضافة إلى ذلك الشعور الغير مفهوم داخله إزاء جده و الذي لا يساعده أبداً في الشعور بالراحة أو الرغبة في الحديث حول أي شيء و لكن صوت هولوصي الذي تنحنح ليبدأ بعدها الإجابة عن سؤال السينيور كان المنبه الذي أجبره على التركيز على ما سيُقال
- لقد كنت أسأل عن حالكما بشكل مستمر من نجمي ، ناريمان ، و سنان...و عندما تعرضت دفنة لذلك الحادث المؤسف لم يخبرني سنان سوى عندما أعدتها و تم نقلها إلى المشفى حينها تأكدت أن من الواجب عليّ أن أكون هنا لا يمكنني تركك في موقف كهذا أبداً ليس بعدما تصالحنا ، و لهذا جئت إليك ركضاً
أنهى تبريراته التي سعى بها إيضاح سبب وجوده و الذي إستطاع فهم من تعابيرات وجه الحفيد الأسمر إنه لم يكن مرغوباً فيه أو بالأحرى لم يكن منتظراً و لكن الشاب لم يعلق على أي شيء مما قاله صاحب الشعر الأبيض بل و على ما يبدو أنه لم يسمعه من الإساس فبرتقالته الجميلة تستحوذ على كل تفكيره و قلقه عليها يأكل قلبه حتى كاد يمتنع عن النبض و حينما إستشعر هولوصي ذلك التوتر زحف بيده من فوق الطاولة حتى أمسك بخاصة حفيده السمراء و تكلم بعدها بنبرة فخورة للغاية لم يفهم السينيور من أين أتت في هذه اللحظة و هذا الحال
- أرى أن دفنة تستحوذ على عقلك تماماً ستكون بخير لا تقلق!...أنا فخور بك جداً لولاك لـ...
و قبل أن يكمل الجد جملته التشجعية و التي كانت في نظر السينيور عديمة الفائدة قرر التفوه بتلك الحقيقة المُره التي هرب منها طويلاً و لكن رؤية نزيف دفنة و كلمات الطبيب المعالج لها و آثار صفعات و ضربات ذلك الوغد أجبرته على التفوه بتلك الكلمات القاسية
- لولاي لما كانت هنا الآن...لولاي لم تكن لتتعرض لكل هذا من الأساس...
...............................................................

أميري  العاشق.  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن