عالم السجون ... إنه عالم إختلفت فيه المعايير وتغيرت المقاييس .. لم يعد السجن هو مصير المجرمين والسفاحين فقط , بل أصبح السجن مصير المتدينين وأصحاب الرأى أيضا وكل حر يأبى أن يضع رأسه فى التراب ويدفنها بين حبات الرمل.
دُفع ثلاثتهم بقوة داخل العنبر وأُغلق الباب الحديدى خلفهم ليصدر صريراً مزعجاً أيقظ على أثره النيام داخل العنبر ...وقف ثلاثتهم ينظرون إلى بعضهم البعض وأعينهم تفيض بسؤال واحد فقط ..وماذا بعد ... وقعت أعينهم على رجل ملتحف ببطانية سوداء فى أحد الاركان على أرض العنبر فاقترب بلال منه بقلب مقبوض وكأنه يشعر لماذا هذا الجسد قد سُجى هكذا وقبل أن يلمسه , هتف أحد الرجال الآخرين من زملاء العنبر :
- سيبوا ده ميت
أصابتهم غصة فى حلوقهم وهم يتبادلون النظرات ..أنحنى بلال لينظر فى وجهه فوجد ما كان يعتقده ..شاب صغير فى السن له لحية صغيرة واضح عليه اثار التعذيب بشدة , أغمض بلال عينيه بألم وهو يقول :
- إنا لله وإنا إليه راجعون
غادر أربعة مسجونين سرائرهم واقتربوا منهم متسائلين :
- أنتوا جايين فى ايه.. مفيش مظاهرات الأيام دى..
قال الرجل الاخر :
- بس حظكوا حلو والله أنكوا جايين فى الوقت ده.. لو كنتوا جيتوا الصبح كنتوا حضرتوا حفلة الاستقبال
عقد فارس بين حاجبيه وقال :
- حفلة استقبال أيه
قال الرجل :
- حفلة الاستقبال دى يا سيدى بيستقبلوا بيها كل عربية ترحيلات بتوصل السجن بالكلاب البوليسية وانت وحظك .. وبعد ما تنزل وانت بتجرى من الكلاب قبل ما تتعض يستقبلوك العساكر بالعصاية الكهربا والكرابيج ساعة ساعتين لحد ما كله يقع على الارض ويستسلم للضرب .. بعدها بقى يوزعوهم على العنابر .. دى بقى حفلة الاستقبالأومأ بلال برأسه وهو يربط على كتفهم مطمئناً ونظر لهم نظرات مطمئنة أنهم قد عبروا تلك المرحلة بأمان فمن الواضح أن صديق فارس كان يعلم هذا أيضا لذلك أمر بترحيلهم فى هذا الوقت من الليل ..شعر فارس بغصة فى قلبة وهو يرى بلاده لأول مرة بصورة حقيقية غير التى كان يراها فى الخارج .. فى خارج ذلك العالم .. عالم السجون والمعتقلات .. أخذهم زملاء العنبر إلى أفرشتهم كل واحد منهم على سرير صغير عليه بطانية خشنة ..
جلس عمرو على طرف فراشه مشدوهاً لما رأى فى تلك الأيام, أولا فى أمن الدولة وثانيا هنا فى السجن .. وقال بغضب وعصبية موجهاً كلامه لفارس :
- وبعدين يا فارس هنفضل كده لحد أمتى حتى منعرفش تهمتنا ايه
جلس أحد الرجال على السرير بجواره قائلا:
- لا لازم تهدى وطى صوتك اللى بيعلى صوته هنا بيتسحب على عنبر التأديب
ألتفت عمرو إليه وحدق به قائلا :
- ايه عنبر التأديب ده كمان
أبتسم الرجل وقال :
- اه معلش كان المفروض أشرحلكم من الاول .. النظام هنا ... السجن متقسم كذا عنبر ..عنبر التأديب وده متقسم زنازين صغيره مترين فى مترين وده بيبقى أنفرادى ..
وعنبر الجنائى ودول بقى تجار المخدرات وقتالين القتله وغيرهم وعنبر التخابر وده بقى مخصص للجواسيس وده بقى أنضف عنبر هو وعنبر القضاة وافراد الشرطة اللى بيجى هنا متهم فى قضية رشوة ولا فساد والمعاملة فيهم معاملة خمس نجوم ..
وهنا بقى العنبر السياسى وده كل اللى بيقول رايه فى البلد دى ومعظمه مشايخ زى ما أنت شايف ..أبتسم بلال وهو يومىء برأسه
وقال :
- ونسيت عنبر الاخوان
ضحك الرجل بصوت خفيض وقال لـ بلال :
- اظاهر انك جيت هنا قبل كده يا شيخ
قال بلال بجمود :
- جيت مرة واحدة بس عرفت كتير
كتم عمرو غضبه وقال :
- برضه محدش جاوبنى هنفضل كتير ومن غير ما نعرف تهمتنا ايه ؟
ربت الرجل على كتفه قائلا :
- طالما محدش حقق معاكوا يبقى مفيش تهمة وبما أنكوا جايين دلوقتى يبقى انتوا مش معتقلين رسمي
قال فارس بإقتضاب :
- يعنى أيه مش رسمي
تكفل بلال بالرد عليه قائلا :
- يعنى زي ما صاحبك قالك .. متوصى علينا
أقترب عمرو من فراش بلال وجلس على طرفه قائلا :
- مين اللى هيوصى علينا يتعمل فينا كده مين
قال بلال وهو ينظر أمامه بشرود :
- مش عارف يا عمرو بس الموضوع ده شكله هيطول ولازم نحاول نهدى علشان نعرف نفكر..
قال كلمته الأخيرة ثم نهض قائلا:
- تعالوا نصلى على الأخ اللى مات ده
قال الرجل الذى يحدثهم :
- هيجوا يخدوا جثته الفجر مع انهم عارفين ان فى واحد ميت هنا من بعد العشاء
أنت تقرأ
"مع وقف التنفيذ"
Mystery / Thrillerجميع حقوق الملكية والفكرية للكاتبة الدكتورة "دعاء عبدالرحمن "