فى شركة آل سليمان ....
تحمل قدح القهوة متوجهة ناحية مكتبه و داخلها ثورة من المشاعر المتناقضة، فجزء منها يتتوق لرؤيته، و جزء آخر يتظاهر باللامبالاة، و جزء ثالث ينهر ضعفها أمامه، و لكنها عزمت أمرها أن تتحلى بالثبات و أن تغلق قلبها حتى لا تقع فى المحظور .
وصلت إلى باب الغرفة و طرقت الباب فأذن للطارق بالدخول ومن ثم فتحت الباب و تقدمت للداخل، ففوجئت بصوت القرآن الكريم يصدح فى أجواء الغرفة مما أصابها ذلك الأمر بالدهشة، فهى قد نشأت و ترعرعت على أصوات الموسيقى و الغناء و لم يسبق لها من قبل أن سمعت كلام الله يُتلى على مسامعها إلا فى بعض وسائل المواصلات بصورة عابرة و سريعة. تسمرت فى مكانها و لم تعرف ماذا عليها أن تفعل ، فهو قد فاجئها مرة أخرى بعكس ما عرفت عنه ، فازدرت لعابها بصعوبة و حمحمت:
ـــ احم.. صباح الخير يا مستر يوسف .
رمقها بابتسامة لطلتها التى أشعرته براحة داخلية و استنبط سريعا أنها هى من أضفت على غرفته هذه الروح الجديدة و أجابها :
ـــ صباح النور يا زينة .
قضت تلك الابتسامة على البقية المتبقية من ثباتها أمامه، و شعرت بالخجل الذى انعكس على وجهها و أصبح واضحا له ، فابتسم مرة أخرى على خجلها و ارتباكها أمامه مردفا :
ـــ تعالى انتى هتفضلى واقفة عند الباب كدا ؟!
تمتمت بداخلها:
ـــ " لا كدا كتير .. انا هكمل كدا ازاى ؟ .. ، انا كدا هيغمى عليا "
رمقها باستغراب قائلا :
ـــ زينة ، ما تدخلى يا بنتى ، انتى مش سامعانى و لا ايه ؟
أجابته بخجل و ارتباك لا يليق بشخصيتها الجريئة :
ـــ ها .. ســـ سامعاك طبعا يا مستر .
ضيق عينيه باستفهام :
ـــ شكلك مش مركزة .. انتى منمتيش كويس ؟
اتسعت عينيها من الدهشة على إثر هذه الكلمات و جال بخاطرها ..
"من هذا الرجل؟؟.. و ما هذا السؤال؟!... طيلة الخمسة و عشرين عام الذين مروا من عمرها لم تسمع هذا السؤال و لم تجد هذا الاهتمام و لم تشعر بهذا الحنان الذى كان يملأ طيات كلماته.
انظر ماذا تفعل بى يا يوسف و ماذا سوف افعل انا بك ، ليت كان حديث علي عنك صحيحا حتى اشعر أنك تستحق أن أخدعك، و لكن ماذا لو كان حديثه عنك غير صحيح ؟! ، فماذا على أن أفعل ؟! .. ليتنى لم أقبل بذلك من البداية .. ليتنى لم أرك .. ليتنى لم أعرفك ، ففى كل لحظة أراك فيها ينقلب كيانى و تسكن وجدانى و يتمرد قلبى عليا، فلم أعد قادرة على إحكام زمامه و كبح جماح مشاعره ... رحماك يا رب" .
هز رأسه بأسف و استغراب :
ـــ لا لا دا انتى مش مركزة خالص .. لو تعبانة ممكن تروحى ، مفيش مشكلة .
شعرت بضيق من نفسها من كثرة شرودها :
ـــ احم .. انا اسفة اصلى متوترة شوية بس .. اول مرة اشتغل فى مكان نضيف زى دا و خايفة شغلى ميعجبش حضرتك .
قهقه من تلك الكلمات و أردف بود :
ـــ طب هاتى بس القهوة دى عشان اشربها قبل ما تبرد .
تقدمت زينة إليه بخطى سريعة، فهى قد نست أمر القهوة تماما و أجابته بأسف :
ـــ يا خبر ... دى زمانها بردت اصلا... انا متأسفة اوى يا مستر.
أمسكت القدح البارد تختبر مدى برودته، ثم أسترسلت حديثها بطريقة مثيرة للضحك :
ـــ اهوه جالك كلامى ؟ ... آدى أول القصيدة كفر . . . ثوانى هعمل لحضرتك غيرها... و همت بالمغادرة و لكنه استوقفها :
ـــ استنى يا زينة خلاص متتعبيش نفسك ، أنا هشربها باردة عادى ، لسة اليوم طويل و دا مش أخر فنجان هشربه يعنى .
رمقته بإعجاب شديد لحسن تعامله معها و رفقه بها، و أومأت مبتسمة دون أن تنطق، و ظلت محدقة به بلا وعى و بدون إرادة منها، فقرأ يوسف ما يدور بخلدها و استنبط أن استغرابها من حسن معاملته ربما يرجع لكونها قد حُرِمت من العطف و الاهتمام لذلك فهى دائما ما تقابل ردود افعاله بالدهشة و الاستغراب ، فأشفق عليها كثيرا و استطرد بمجاملة:
ـــ بالمناسبة شكرا على الورد و الروايح الجميلة دى .
رمقته بابتسامة بلهاء و فرحة تنطق بها عيناها :
ـــ بجد الورد عجب حضرتك ؟
أومأ مبتسما :
ـــ جدا .. بصراحة ذوقك حلو و مخلية للمكتب روح جديدة كدا .. بس ابقى ضيفى ع الروتين دا بقى تشغيل الشاشة على قناة القرآن الكريم .
تجهمت ملامحها على إثر هذه الكلمات فهى بعيدة كل البعد عن كتاب الله سواء بالقراءة أو الاستماع و ترى نفسها أنها أقل من أن تفعل ذلك و إلا رأت نفسها أكبر منافقة فى العالم.
" يا ويلى منك يا يوسف ، حتما ستدفعنى إلى الجحيم دون أن تدرى بأفعالك تلك" ... هكذا حدثت نفسها .
ازدرت لعابها بصعوبة لصعوبة هذا الطلب عليها و أجابته بتلعثم:
ـــ حـ حاضر يا مستر.. حاضر إن شاء الله .
تناول القهوة فى رشفة واحدة فهى كانت باردة و أعطاها القدح الفارغ و هو يسألها :
ـــ ها الـ سى فى بتاعك جاهز؟!
أومأت متحمسة:
ـــ أيوة جاهز يا فندم ، أروح أجيبه لحضرتك ؟؟
يوسف :
ـــ يا ريت .. عشان أشوفه قبل ما أبدأ فى مقابلات العملا و الاجتماعات .
ردت بايماءة :
ـــ حالا هيكون على مكتب حضرتك .
غادرت بخطوات سريعة نحو حقيبتها التى تركتها فى مقهى الشركة و فتحتها و أخرجت منها الملف المطلوب و ذهبت إليه سريعا و أعطته الملف :
ـــ اتفضل يا مستر الملف اهوه .
أمسك بالملف و أخذ يقرأ بياناتها بتمعن فرفع حاجبيه مردفا باعجاب زائف فقط.لرفع معنوياتها:
ـــ معاكى دبلوم تجارة !.. هايل جدا .
قطبت جبينها متعجبة :
هايل جدا ؟! .. اومال لو كان معايا بكالوريوس تجارة كنت قولت ايه ؟
ضحك يوسف و أردف بثقة و تحفيز :
ـــ إن شاء الله هتكونى احسن من إللى معاهم بكالوريوس؛ لو عندك إرادة و استعداد إنك تتعلمى .
تجهم وجهها ببلاهة و انكمشت ملامحها بعدم فهم :
ـــ أنا مش فاهمة حاجة !! ..
استطرد بجدية :
إسمعى يا زينة ، أنا بصراحة شايف ان الشغل ف بوفيه الشركة ما يناسبكيش ، أنا وافقت بس عشان شايفك محتاجة الشغل ، و كويس إن انتى معاكى شهادة تقدرى تطوريها و انا هساعدك فى كدا ..
سكت قليلا يقرأ تعابير وجهها ثم استرسل :
ـــ أنا هكلف استاذ ف المحاسبة شغال معانا هنا ف الشركة يديكى كورسات ف المحاسبة و انتى و همتك بقى .
سألته بتوجس :
ـــ و بعد ما اخلص الكورسات دى ؟!
يوسف بجدية:
ـــ هتدربى على شغل الحسابات لحد ما تتمكنى و بعدها هشغلك فى قسم الحسابات هنا أو فى أى فرع للمجموعة ... ها إيه رأيك ؟
قطبت جبينها باستفهام :
ـــ يعنى هبقى زيى زى أى موظف أو موظفة هنا ف الشركة؟!
أومأ بتأكيد:
ـــ اكيد طبعا ..
لقد أخذت اللعبة منحنى عكسى تماما ، فبدلا من أن تستدرجه لأسفل سافلين ، يستدرجها هو لأعلى عليين، أى ذنب إقترفتيه يا زينة حتى يسلط الله عليكى من يحملك من الآثام ما يؤدى بك إلى الهلاك لا محالة ، فلو لم تكن تلك لعبة زائفة أقحمت نفسها بها بمحض إرادتها ، لما كان حالها كل هذا التجهم و الشعور بتأنيب الضمير ، لكانت حاليا محلقة فى سماء الحرية و السعادة بحصولها على تلك الوظيفة التى لم يخطر على بالها يوما أن تحصل عليها و بهذه السهولة ..
لاحظ يوسف وجومها على عكس ما توقع ، فهو ظن أنها ستفرح لذلك العرض ، فتعجب لذلك و سألها مضيفا عينيه باستغراب :
ـــ شايفك مش مبسوطة من العرض دا .
نفت بابتسامة متكلفة :
ـــ لا أبدا يا يوسف بيه ، دا حضرتك فاجئتنى بصراحة ، مكنتش متوقعة إن حضرتك هتعرض عليا عرض زى دا ، دا كرم أخلاق منك و مش عارفة اشكرك ازاى .
أردف مبتسما :
ـــ مش عايز منك شكر .. عايز دعوة حلوة منك بس .
أشارت بسبابتها اليمنى على صدرها باستنكار :
ـــ منى أنا ؟!
أجابها بصدق :
ـــ أيوة منك انتى .. انتى مستقلية بنفسك ليه ؟
ضحكت ضحكة خافته :
ـــ المفروض أنا إللى أطلب من حضرتك الطلب دا .
أردف بمرح :
ـــ خلاص يا ستى متزعليش ، انتى تدعيلى و أنا أدعيلك . . إيه رأيك ؟
زينة :
ـــ هو فى رأى بعد رأيك يا يوسف بيه ؟
يوسف :
ـــ ما قولنا بلاش بيه دى ..
زينة :
ـــ لا مؤاخذة نسيت .
عادت ملامحه للجدية مردفا :
ـــ المهم إديني أسبوعين كدا أكون نسقت مع أستاذ المحاسبة و ظبت موضوع الكورسات لأن فى ضغط كبير ف الشغل اليومين دول .
تنفست زينة الصعداء فعلى الأقل ستبقى بجانبه طيلة هذه المدة ، و لتعيد حساباتها و تحسم أمرها بشأن هذه التمثيلية ..
فيوسف أشعرها بدنائتها و دنائة من تلعب لصالحه
، و لكن هى من ألقت بنفسها إلى التهلكة و عليها أن تكمل مسيرتها إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا ...
أنت تقرأ
تائهة بين جدران قلبه"كاملة"
Romantikألقت بنفسها فى طريقه بمحض إرادتها فى مقابل المال و لكنها وقعت فى حبه دون أن تحسب لذلك حساب ، و كيف ﻻ تحبه و هو أنقى و أطهر من رأت من الرجال ، و لكن من تكون هى لتعشق رجل مثله ؟ فهى مجرد فتاة ليل مجهولة النسب ؟ فهل ستجد السبيل إلى قلبه ؟ أم ستظل تائ...