الفصل التاسع عشر

6.8K 169 26
                                    

فى شركة أل سليمان ...
عندما وصلت زينة الى الشركة انتابتها رغبة شديدة فى رؤية يوسف، فهى قد اشتاقت اليه منذ آخر لقاء بينهما عندما تركها و ركب سيارته و انصرف، ظلت تفكر بحجة لكى تراه عن طريقها.
خطرت ببالها فكرة أن تذهب لعمها إبراهيم لكى تراه و تطمئن على صحته و أن تساعده، و ربما تسنح لها الفرصة بتقديم القهوة ليوسف بدلا عنه.
بالفعل دخلت لعمها ابراهيم و ألقت عليه السلام و جلسا سويا يتحدثان..
أدارت دفة الحديث بذكاء لتصل لمبتغاها بعد قليل من المقدمات، مردفة:
صحتك عاملة ايه يا عم إبراهيم؟!
هز رأسه بابتسامة ممتنة:
رضا يا بنتى الحمد لله، و أقل من كدا رضا.
زينة:
ربنا يديم عليك نعمة الصحة و العافية يا رب،
إبراهيم:
تعيشى يا بنتى.
سكتت لبرهة ثم باغتته تسأله بتحمس و لهفة:
تحب أساعدك يا عم إبراهيم؟!
إبراهيم:
متشكر يا بنتى مش عايز اتعبك.
زينة:
تعبك راحة، أؤمر انت بس.
إبراهيم:
ربنا يسعدك يا بنتى.. هقولك على فكرة حلوة.
اقتربت منه و أجابته بابتسامة متحمسة:
قول.
إبراهيم:
ايه رأيك تودى القهوة للأستاذ يوسف و بالمرة تباركيله.
قطبت ما بين حاجبيها متعجبة :
أباركله على ايه؟!
رفع حاجبيه باستغراب مردفا:
انتى متعرفيش انه هيخطب و لا ايه؟!
اتسعت عيناها على آخرها، زادت وتيرة تنفسها، و تحجرت الدموع بمقلتيها من الصدمة، لا تصدق ما أُلقى الآن على مسامعها، فقالت بصوت متحشرج خرج منها بصعوبة:
هيخطب مين؟!
تعجب من تغير حالتها،لكنه لم يبالى و أجابها بعدم إكتراث:
الانسة سهيلة بنت عمه.
هذا ما كانت تخشى سماعه، أحست بانسحاب روحها، و انهارت أحلامها و أمانيها التى بنتها فى مخيلتها،  فنهضت منتفضة كمن لدغها عقرب و هرولت الى مكتبه.
لم تنتظر أن تأخذ الاذن من رامز بالدخول و إنما فتحت الباب مباشرة، و دخلت اليه بوجه متجهم من الصدمة.
بينما يوسف تفاجأ من دخولها بهذه الطريقة و نهض سريعا من مقعده، و تكهن من ملامحها المصدومة أنها قد علمت بأمر خطبته، و لكن عليه أن يتحلى بالجدية و أن يصمد أمام حالتها المذرية المثيرة للشفقة، فهذه اللحظة ستكون حاسمة فى انهاء طريقهما الذى لم يبدأ من الأساس.
يوسف بحدة:
انتى ازاى تدخلى كدا يا انسة؟!
ردت بملامح جامدة وشفتيها ترتجف من الصدمة المفجعة:
زينة...، رفعت حاجبيها وهى تسأله باستخفاف:
و لا نسيت اسمى؟!
حاول ان يتحلى بالصرامة، احتدت نبرته يصيح بها: عايزة ايه.. انا ورايا شغل كتير؟!
سألته و هى تستجديه أن يُكذّب ما سمعت:
انت صحيح هتخطب؟!
أجابها بصرامة زائفة :
اسمها حضرتك؟!
تقدمت خطوتين حتى وصلت لمكتبه الحائل بينهما و استندت بيديها عليه و مالت اليه قليلا و سألته بحزم و عينيها متسعة على آخرهما :
رد عليا يا يوسف.. انت صحيح هتخطب؟!
تعجب يوسف من القوة و الجرأة التى تتحدث بها، ولكنه يعلم أنها مجروحة و الجريح يهذى بما لا يدرى فأجابها بعصبية أشد ربما تستفيق من هذيانها:
الزمى حدودك.. انا مديرك و مسمحلكيش ترفعى الالقاب.
سألته و كأنها لم تسمعه:
ليه؟! .. انت بتحبنى أنا.. ليه تعذب نفسك و تعذبنى معاك؟!
أجابها بحدة مصطنعة:
ايه التخاريف اللى بتقوليها دى؟!
طرقت على المكتب بكفها الأيمن بعصبية زائدة :
دى مش تخاريف.. دى حقيقة.
قطب جبينه متعجبا من العصبية التى لم يعدها فيها من قبل، لكنه سكت قليلا ينظم أنفاسه المتلاحقة حتى يستطيع الصمود أمامها بقناع البرود و الجمود الذى تَقنّع به.
لاحظت صمته فدب بداخلها أمل جديد فى امكانية استعادة حبها الذى أصبح على حافة الهاوية،  اقتربت منه بشدة و نظرت بعينيه بعمق و قالت بخفوت و عاطفة جياشة :
أنا بحبك.
أغمض عينيه بألم و أحس بانهيار قلبه و كيانه، فبم سيرد عليها بعد هذه الكلمة التى أصابته بما يصعب عليه تحمله بعد ذلك، لم يعد قادرا على خداعها أكثر من ذلك، فأولاها ظهره عله يستعيد رباطة جأشه قليلا و يستطيع أن يستمر فى التحلى بالجمود و الصرامة فقال لها و نياط قلبه تتمزق:
امشى.. امشى دلوقتى يا زينة.
وقفت خلفه و أمسكت ذراعه بكفيها و أخذت تهزه و تصيح و هى تبكى و شلال الدموع ينهمر من مقلتيها: انت كمان بتحبنى... انا بحبك.. و انت بتحبنى.. صح؟! .. انت بتحبنى يا يوسف.. قول ان انت بتحبنى.
كان يوسف مستسلما للمستها،  يستمع لها بقلب يبكى دما، فقال بصوت متحشرج و ملامح منكمشة من فرط الألم:
امشى.. عشان خاطرى امشى دلوقتى.
أجابته و هى تشهق من البكاء بعدما استحال لون جفنيها الى الأحمر الداكن و تحشرج صوتها:
همشى.. بس قولى انك بتحبنى، انا مش عايزة منك حاجه، انا عشمانة بس ف كلمة حب منك، عارفة ان انا مش من مقامك و عندك حق ف اللى بتعمله معايا، عارفة ان احنا مننفعش لبعض او بمعنى أصح، أنا منفعكش و ان انت تستاهل واحدة زى بنت عمك مش زيى، بس ريح قلبى... أوعدك همشى و مش هتشوفتى تانى بس قولها... قول ان انت كمان بتحبنى زى ما بحبك.
استدار فى مواجهتها و أجابها بنبرة منكسرة و ملامح منكمشة من الحزن و الألم الذى فاق احتماله:
اللى انتى عايزة تسمعيه مش هيغير فى واقعنا حاجة...طرقنا مختلفة يا زينة، و عمرها ما هتتقابل.
أجابته برجاء و استجداء:
اللى بيحب بيضحى عشان يوصل لحبيبه.
هز رأسه يمنة و يسرة بنفى و أجابها بحسرة و هو يؤكد على كلماته:
تمن تضحيتى غالى اوى، مش هقدر عليه.
قطبت جبينها باستنكار و أجابته بمزيد من الحسرة و الالم :
ياااه... للدرجادى؟!
أجابها بصدق و تأكيد:
انتى مش عارفه حاجة يا زينة، و عمرك ما هتقَدَّرى الدوامة اللى انا فيها، عشان كدا بقولك امشى و مش عايز أشوفك تانى.
كانت تستمع اليه بقلب جريح و الدموع تنهمر من مقلتيها فى صمت، لا تصدق أنها خسرته للأبد.
أشفق عليها و لكنه استرسل حديثه بجدية:
استمرى ف شغلك عادى،بس حاولى تتجنبينى، لو شوفتينى، كملى طريقك و متبصليش... كأنى مش موجود.
لم تعد تتحمل الوقوف أمامه و سماع كلماته اللاذعة فغادرت سريعا و تركته ينظر فى أثرها بقلب قد مات لتوه من كثرة الألم، اختنق صدره و أصبحت وتيرة تنفسه عالية فنزع ربطة عنقه و خلع سترته و ارتمى على الأريكة دافنا وجهه بين كفيه ينعى حبيبته بحسرة و يتألم لألمها و فراقها الأبدى.
بعد فترة ليست بالقليلة قام من مكانه و التقط هاتفه و اتصل على شقيقه..
يوسف بصوت متحشرج:
انت فين يا يحيى؟!
يحيى:
ف البيت... مال صوتك متغير كدا ليه؟!
يوسف بضيق و عصبية:
مخنوق... مخنوق و مش قادر أقعد ف الشركة دقيقة واحدة كمان.
يحيى:
خلاص هجيلك بعربيتى نخرج شوية، مسافة السكة هتلاقينى عندك.
يوسف:
هستناك ف الكافيه اللى قدام الشركة.. متتأخرش.
يحيى:
اوكى يا حبيبى مسافة السكة.

تائهة بين جدران قلبه"كاملة"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن