على حب فاطِمه_٢
وفي صباح اليوم التالي كان محمد يقف أمام المرآة ، وبعد أن انتهى من تمشيط شعره قام بأرتداء عبائتهِ ثم حوّل نظره الى العِمامة البيضاء الموضوعه أمامه ،مدّ يده اليها وقام بتثبيتِها على رأسه لَكأنه يضع تاجاً من ذهب.ركّز نظره في المرآة وظل يُحدّق فيها ملياً وكأنه يتحدث الى إنعكاس صورته عليها "أرجو أن أكون أهلاً لكِ ياعِمامة رسول الله".
في تلك الأثناء دخلت والدته وهي تحمل بيدها "المبخرة" جالت بها في أنحاء الغرفة ثم تقدّمت اليه وأخذت تدور بها حوله وهي تُتمتم بـ" قُل أعوذُ برب الفلَق"
قال لها بأبتسامة فقد شرحَت رؤيتها صدّره:
_غاليَتي، لاتنسيني من الدعاء.رفعت كفيها الى السماء بعد أن وضعت المَبخرة جانباً:
_فليحفظك الله من كل شَرّ..أدعو الله أن أراك عريساً قبل أن أموت.تبسّم من دعائها فهي كما كل الأمهات وكأنهنّ لايعرفن دعاءاً غير هذا.
_أطال الله بعمركِ أماه.
ثم قبّل جَبينها وانصرف من الغرفه، فألفى والده لدى الباب._صبّحك الله بالخير ياحاج.
_صباح الخير، الى أين أنت ذاهب في هذا الصباح؟_خير إن شاء الله، بالأمس أتصل بي الشيخ حسن وطلب مني الحضور عنده.
_عرفت أنه سيطلب منك ذلك،لكن أخبرني ألاتزال تعرف الطريق الى الكاظميّة؟
لم يستطع إخفاء ابتسامته بعد جملة والده تلك
_بالتأكيد ياأبي ، لم أفقد ذاكرتي تماماً._هه حسناً ، فليرافقك التوفيق يابُني.
ظلّ الحاج يراقب ابنه وهو يمشي مُبتعداً عن المنزل الى أن خرج من الزُقاق، ورُبّما دعا له من صميم قلبه وهو يرى ولده يسير بكل ذلك الوِقار.فُتح باب سيّارة الأجرة ليترجّل الشيخ محمد منها ويدخل الى أحد أزقة مدينة الكاظميّة قاصداً بيت الشيخ حسن ، كان حيّاً قديماً جداً من أحياء هذه المدينة العريقه، شوارعها الضيّقة المتميّزة بأبنيتها القديمة وأبوابها الخشبيّة ذكّرته الى حدّ ما بشوارع النجف الأشرف القديمة،حدّث نفسه وهو يلتفت الى أحد الأفرع الجانبيّة الضيّقة:
" أنا مُتأكد أن السيّارات لايمكنها المرور من هنا نهائياً"
وصل الى أحد الأزقه ، حسناً، حسب ما يتذكر فأن منزل الشيخ يقع في نهاية هذا "العَگد" كما يُسمى باللهجة البغدادية..قرر أن يتصل به ليتأكد، ولحُسن الحظ اتضح أنه كان يقف على مسافة قريبة من دار الشيخ، طرق الباب فخرج أحد أولاده ،ورحب به ودعاه للدخول:
_أهلاً وسهلاً ،تفضّل الوالد ينتظرك في الداخِل.
وبعد أن دخل ضمّه الشيخ الى صدّره وكأنه أحد أولاده، كان محمد يُحدّق في وجه الشيخ طوال جلوسه مُتأملاً ذلك الوجه النوراني الذي زادته التجاعيد وهالة الشَيب التي أحاطت به جمالاً،كل ماوصل اليه يعود الفضل فيّه الى هذا الجَبل الماثل أمامه فقد احتضنه منذ طفولته ووجهه توجيهاً دينياً وفكرياً صحيحاً جعل منه روحاً سامية تتطلع نحو الأعلى دائماً.
قطع عليه تأمله سؤال الشيخ:
_إذن أنت جالس في المنزل الآن بدون أي نشاط أليس كذلك؟_أي والله ياشيخ فأنت تعلم، لم يمضِ على عودتي من النجف سوى شهر واحد.
أدار الشيخ المحبَس الذي كانت في أصبعه وأخذ يحدّق في شذرته ، وهو يقول له:
_هناك أمر يشغل بالي مُنذ فترة، فكّرت في الكثيرين لكن في النهاية وقع الإختيار عليك ، فلم أجد أحداً أجدرُ بهذه المَهمة منك.ثم رفع الشيخ حسن رأسه مُنتظراً مايقول
_كم أنا مسرور لثقتك بي ياشيخي، سمعاً وطاعة ماالأمر؟_في الحقيقة هناك مسجد في منطقة (...) وهو متروك ومهجور منذ زمن الإحتلال الأميركي ، وقد رأيت أهل المنطقة بحاجة ماسة الى مسجد وإمام مسجد لكي يوجههم ويكون لهم عوناً.
سكت قليلاً ثم واصل:
_أنا متأكد من أنك ستكون أهلاً لها، لكن لاتتوقع أن المهمة ستكون سهلة ، فالمسجد مُغلق كل تلك الفترة ولم يعترِض أحدٌ منهم على ذلك أبداً.
تعجّب محمد ممايقوله الشيخ فتسائَل مستفسراً:_أكاد لاأُصدق، كيف تخلو مدينة من المسجد في هذا الزمان، أوليسوا مُسلمين؟!
يتنهّد الشيخ حسن بحسرة وهو يجيبه:
_بل صدّق يابُني، إن انشغال الناس بالماديّات أنساهم ذكر ربّهم وظنوا بأنهم مُستغنين عن المساجد ، فقد أصبح سماع الأذان عبر هواتفهم المحمولة كافياً بالنِسبة لهم.المهم يامحمد ستكون أنت إمام المسجد والمبلّغ في تلك المنطقة ، لا أُخفيك أن الأمر لن يكون سهلاً لكنّ أنت لها ان شاء الله.
استمر نقاشهما لفترة قصيرة واتفقا ان الشيخ سيتصل به فور حصوله على رخصة لفتح المسجد من وزارة الأوقاف ويمكنه ان يباشر عمله قريباً.
خرج محمد من منزل الشيخ حسن وهو يُطرق برأسه الى الأرض يفكر فيما آل اليه حال بعض الناس ، أحقاً لايملكون مسجداً ؟
كيف يعيشون حياتهم اذن، أي حياة تلك التي تكون خاليه من ذكر الله لازال عقله لايستوعب ماسمعه لقد أخبره الشيخ انهم اكتفوا بسماع الأذان من مكبّرات المسجد البعيد.
تمتم مع نفسه بهمس لايسمعه سوى الله:_سأكون أهلاً لذلك ، أعدك يامولاي أنا فِداء لك يابقيّة الله لن أتراجع ولن أخذلك أبداً.