على حب فاطِمة_٢١
وفي الصباح الباكِر كان محمد قد انتهى من توضيب حقيبته استعداداً للعودة الى بغداد، فلم يبقَ الا القليل على موعد الزَفاف، وغُفران في منزله منذ ثلاثة أيام لإستكمال اجراءات عودتها الى الجامعه، وقف يودّع رِفاقه واحداً واحداً وكأنه يراهم للمرة الأخيرة.
سأله هاشِم الذي رأى شيئاً من الحزن في عينيه ، فأجابه :
_لا أعلم ولكنّي أشعر ان فراقكم سيطول هذه المرة.عندها نهض الملازم طارق من مكانه وكان يتناول كوباً من الشاي،
_هيّا، سأوصلك الى الشارع الرئيسي بسيارتي.
_لاداعي لذلك ، سأذهب بمفردي.لم يرد عليه بشيء ، وانطلق باتجاه السيّاره ، فنطق هاشِم:
_وأنا سآتي معكما ايضاً.واتجه الى السيارة هو الآخر.
كانوا يستمعون الى ترتيل محمد طوال الطريق:{ من المؤمنين رِجالٌ صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نَحبه ومِنهم مَن يَنتظِر ومابَدلوا تَبديلاً}.ومع انتهاءه من الآية الكريمة، توقفت السيّارة فجأة ليعلن طارق الذي نزل وقام بفتح غِطاء المحرّك عن عُطل بسيط سيستغرِق بعض الوقت لإصلاحه.
أخذ محمد يتمشى في أرجاء المَكان، ينظر بحزن الى تلك الصَحراء ، آه لَكم تروّت من الدماء، وكم حُصِدَت أرواح الأبرياء في هذه الأرض .
عندما وصل إليه هاشِم ليخبره بأن السيّارة أصبحت جاهزة للإنطلاق كان محمد قد تسمّر في مكانه، فقال له دون أن يستدير ناحيته:
_تراجع الى الوراء ، أنا أدوس فوق لُغم أرضي.
تراجع الى الوراء بسرعة وهو غير مُصدّق لما يقوله رفيقه، لكن ألم تُحرر هذه المنطقة بالكامل بدماء الأبطال من أين جاء هذا الآن؟قال لطارق الذي وصل مُهروِلاً:
_عودوا أدراجَكم بسرعه ولاتبقوا هنا مهما حدث، المكان لايزال خطراً، وقد يهجم أولئك الأوغاد في أية لحظة.رد طارق الذي وضع يداه على رأسه من هول الصدمة:
_حباً بالله لاتقُل هكذا، ستعود معنا ياشيخ ألم تقُل أن خطيبتُك بإنتظارَك؟أجابه بصوت مكسور:
_جميعنا يعلم اني لن أعود، هاشِم خذ الحقيبة وأوصلها الى أبي، إنها أمانة.جلس طارق على الأرض وهو يتوسل اليه:
_أرجوك يامحمد إسمعني فقط، حاول أن تنزل على الأرض ببطء وهدوء ، ثم مدد جسدك وقُم برفع قدمك وهكذا ستفقد جزءاً من قدمك فقط ، وستخرج حيّاً، لازال لدينا أمل أرجوك.نظر محمد الى قدمه ، ثم قال بإبتسامة:
_في المرة السابِقه فقدت الشعور بذراعي اليُسرى ، واليوم أنا معرض لفقدان قدمي اليُسرى، يبدو أن على الجِهة التي تحمل القَلب أن تُعاني كثيراً.رد عليه بتوسل:
_أرجوك ياأخي، من أجل والدتك، ومن أجل خطيبتك ، فقط ثق بي وافعل ماأخبرتك .هزّ رأسه بالإيجاب ، وتنفس بعُمق استعداداً للتنفيذ ، لكنّه اشترط عليه أن يبتعد عنه ، أما هاشِم فقد ركض الى السيّارة واحتضن حقيبة محمد وبدأ بالبكاء بصمت ، فلايزال جرح فقد أخيه في مجزرة سپايكَر طرياً، وهاهو يُشاهد رفيقه يُصارع الموت أمامه.
إبتعد طارِق ، وبدأ محمد بتحريك جسده ببطء ، رفع رأسه فرآها واقِفه ، نور وجهها شغله عمّا هو فيه ، ابتسمت ومدت يدها له، تمتم بهمسٍ:
_مولاتي، أرضيتِ؟
كان طارق يرى رَفيقه ينظر الى شيء لايراه هو ، وشفتيه تتحركان بكلام غير مسموع.ثوانٍ مضت خيّم بعدها الغُبار على المَكان، أُصيب طارِق بجروح طفيفة، وتكسّر زُجاج السيّارة فوق هاشِم الذي حضن الحقيبة أكثر وأعتلى صوت نحيبه.
أما محمد الذي وُجدت ساعة يده وهاتفه فقط ، فقد غادَر سجن الدُنيا إلى الأبد وقبّل القرآن ومضى.
وفي الجامعه ، خرجت غُفران ووالدة زهراء ومصطفى الذي كان بصحبتهما متوجهين نحو الباب الرئيسي ، توقفت غُفران عندما تذكرت انها نسيَت هويتها في مكتب المُديرة، قال مصطفى:
_عودي واجلبيها، لكننا سننتظرك في مرآب السيارات في الخارج ، فالمكان مزدحم هنا ولايمكننا الوقوف أكثر.دخلت لتجلبها بسرعه ثم عادت، يكتنف وجهها نور غامض ، أحس الجميع بوجوده منذ الصباح الباكِر ، وعندما مرّت بجانب الحديقة، شاهدته يقف هناك، نادته بدهشه:
_محمد ؟ أهذا أنت؟ مالذي تفعله هُنا؟لم يردّ عليها، بل فرش سجادته ، ورفع يديه وبدأ بالأذان
صاحت:
_بالله عليك لاتُصلِ بدوني، إنتظرني أنا قادمة.عندما وصلت اليه كان قد انتهى من الأذان.
رمت حقيبتها أرضاً ووقفت خَلفه، وشرعا بالصَلاة.كان عَصف الإنفجار قد أسقط سور الجامعه الخارجي على الحديقه، إحترَقت الأزهار، ورُفع صوت أذان الظُهر ممزوجاً بالبُكاء.
أما هُما فلم يكونا يُباليان بالمشهد، فقد أتمت غُفران الصلاة خلفه بكل سرور، لاتعلم أي صلاةٍ تلك التي أدتها خَلفه، لكن كان طعمها مُختلفاً جداً.
كبّرا ثلاث تكبيرات ، ثم إلتفَت ناحيَتها:
_أوفيتُ بوعدي؟إبتسمت له وأمسكت بيده وانطلَقا الى ذلك العالم الأبيض.
تمّت ٢٥/ محرّم الحرام /١٤٤١ هــ.
ز.م