على حب فاطِمة_١٤
لَطالما تعجّب من الروح القتاليّة التي كان يملكها زملاءه ، فأنّى لهم كل هذا الإصرار والعزم وهم لم يمسكوا بسِلاح طيلة حَياتهم !
فهذا هاشِم لايزال فتى يافعاً يعمل في أحد معامل النجاره وذاك الخبّاز أمير ، وهذا علي الذي يعمل صائِغاً للمجوهرات وقد تبرّع بمبلغ كبير لتجهيز زملاءه.
أما مهدي الذي لايزال طالباً في المرحلة الإعداديه فكان جيشاً لوحده، لقد كان يمزح معه هذا الصباح قائلاً:
_سمعت أن نتائج المرحلة الإعدادية ستُعلن اليوم، ألا تريد معرفة نتيجتك؟
_أعلم لكنني لاأريد معرفتها.ضحك محمد مع بقيّة الزملاء ليقول له:
_لماذا! يبدو انك متأكد من رسوبك أليس كذلك؟!أجابه بإبتسامةٍ يشوبها الحزن:
_بل أنا متأكد من تفوّقي ولهذا لاأريد معرفة درجاتي كيلا تغرني شهادة الدنيا فأتراجع عن شهادة الآخرة.وهاهو يتلقى نبأ استشهاده ، فيذهب ليرى نتيجته فإذا هو ناجح بمعدل يؤهله لدخول كُليّة الطب!
لله درّهم من فتية آثروا الآخرة على الدنيا واشتروا الجنّة بنفوسهم!
كانوا جالسين حول النار المُشتعلة بحزن ، وربّما سآلت دموع أحدهم بصمتٍ فقد فُجعوا بإستشهاد ثُلّة من رِفاق الجهاد .
حينها أقبل الملازم طارِق برفقة أحد المنتسبين الجُدد ليشاركهم الحزن وتبادل أطراف الذِكريات عن الراحِلين.
عندها صرخ الرفيق الجديد ، وكان اسمه حسين.
_بالله عليك ألست أنت الشيخ محمد؟
تفاجئ به الشيخ ، وعرّف نفسه الى الباقين اذ لم يكونوا يعرفون أنه طالب حوزوي الى تلك اللحظه.ثمّ طلب منه أن يقرأ له بعض الأبيات بصوته ، فأستسلم له الشيخ وبدأ يُنشد :
{يَحسين بضمايرنا ..صِحنا بيك آمنا
لاصيحة عواطِف هاي
لادعوى ومجرد رآي
هذي من عقايدنا
صحنه بيك آمنا}.لم يمرّ سوى يومان على تحرير إحدى المدن من بَراثن تنظيم داعِش ودخول قطعات الجيش والحَشد منتصرين اليها عندما فوجئوا بهجومٍ مُباغِت، لم يكن عدد الأعداء كبيراً فقد استطاع محمد الذي كان يقف على تلّة مرتفعه إصابة أحدهم ، أدار عينيه يبحث عن الآخر فقد انقطع صوت الرَصاص وفجأة رآهُ علي يسقط من أعلى التلّه هاوياً على وجهه، فهرع اليه راكضاً مع بقيّة الشباب .
قاموا بسحب محمد الذي يبدو أنه أُصيب إصابة بالِغة ، أما القنّاص الذي تسبب بإصابته فقد تمكّن منه أمير وأرداه قتيلاً قبل أن يتمكن من الفِرار.
كان كلّ شيءٍ حوله باللون الأبيض، وكأنه بعالم لاحدود ولانهاية له، رأى أنواراً ساطعة من بعيد ، تقدّم نحوها واذا به يرى الثُلّة التي استشهدت بالأمس.
كانوا يقفون في مايُشبه الصف ، تتقدمه تلك السيّدة الجَليلة وهي تشع نوراً تُمسك القُرآن بيدها وهم يُحيونها واحدا تلو الآخر ثم يقومون بتقبيل القرآن والمرور من تحته، مضوا جميعهم ، وحان دوره ، وصل اليها إبتسامتها شوّشت رؤيته وكأنها الشمس ، أراد ان يقبّل القرآن لكنّه سقط من مكان مرتفع واختفى كل شيء.
استيقظ على ألمٍ شديد في ساعد يده واستطاع ان يميّز وجوه زملاءه يتجمهرون حوله ثوانٍ قليلة ثم غاب عن الوعي.
نُقل محمد بواسطة احدى الطائرات التابعة للجيش العراقي والتي توّلت نقل الجرحى إذ لم يكُن بالإمكان نقلهم عن طريق البر، وتوجهوا به الى احدى مُستشفيات كربلاء.
كان الوقت قد اقترب من الفَجر عندما أدخلوه الى ردهة الطوارئ ، وأخذ هاشِم يصرخ بأعلى صوته "جريح ..جريح".
وتمّت تهيئة غرفة العمليّات بأسرع مايمكن بعد ان تم تشخيص حالته من قبل الدكتور ثامر.
كانت الدكتور زهراء هي الطبيبة الخَفَر في تلك الليلة وقد تم استدعائها لتدخل صالة العمليات برفقة الدكتور ثامر أيضاً.قام الدكتور بتمزيق قميصه وحقنه بأبرة التخدير ليُجري له عملية كُبرى استغرقت ساعتين لإستخراج الرصاصات التي اخترقت جسده.
بينما ترك هاشِم في الخارج يدفن رأسه بين رُكبتيه وهو ينتحب.
جفف الطبيب حَبّات العرق التي تشكّلت فوق جَبينه ليعلن انتهاء العمليه ونجاحها ، اما زهراء فقد انتبهت لوجود جُرحٍ نازفٍ عميق في جبهته :
_دكتور، لايزال هناك جرح في جبهته؟
وبعد معاينته يخبرها بضرورة تقطيبه وإيقاف النزيف.بقيت في صالة العمليات لوحدها بعد خروج الكادر الطبّي، تقدّمت تقطّب الجُرح وأخذت تتأمل ذلك الوجه الذابِل ، كان شاحِباً مُغمَض العينين.
بقيت تتأمله لدقائق، لقد كان يبتسم طوال وقت العمليه!
حدّثته بصوت أشبه بالهمس ، ماذا كنت ترى حتى تبسّمت هكذا؟
ياتُرى أين تذهب أرواح هؤلاء بينما يرقدون ها هُنا؟وبينما هي كذلك لمحَت قميصه المُمزق على الأرض ، رفعته لعلّها تجد شيئاً بداخله ، وفعلاً وجدت هويته الشخصيّه وخاتم من العَقيق الأحمر بالأضافه إلى ورقة صغيرة كُتِب عليها آية الكُرسي.
أخذت تقلّب الهوية ، وتمتمت ببعض المعلومات بهمس:
_محمد..٣١ سنة.