19

268 42 4
                                    

على حب فاطِمة_١٩

وحضر الشيخ محمد الى منزلها برغم الآلام التي كان يشعر بها ورغم شحوب وجهه ، إلا انه أراد أن تكون شريكة تلك الآلام ورفيقة روحه الجِهاديّة فمن أفضل من غُفران التي كان شاهداً على تحولها، وصدّق روحها ونقاء سريرتها.

وتمّ العقد بحضور الشيخ حسن ، وإعتلت أصوات الزغاريد مع إعتلاء صوت الرادود الكربلائي "عَساه اسعيد وامبارَك...ويضل دوم ابفرَح دارَك".

فتحت غُفران المصحف الكبير الذي كان موضوعاً على الطاولة امامهما لتقول له:
_لقد وضعت شاهده على سورة يس ، هيّا لِنقرأها سوياً وانطَلقا يقرآن السورة المُباركه، قرأتها بصوت أشبه بالهمس أما هو فراح يُرتلها بصوتٍ عالٍ جعل جميع الحاضرين يُنصِتون اليه.

_مُبارك لكِ سيدتي.
ردّت بحياء :
_مُبارك لكَ أيضاً.

قبلتها فاطِمة وباركت لها ثم استَدارت نحو أخيها الحبيب ، قبّلت رأسه ثم مازحتهُ قائِله:آمل أنك لم تنسَ نذرك ياشَيخ.
فضحك موجهاً نظره نحو والدته التي رفعت حاجبها مُستغربه مماتقول فاطِمة ، ثم قال وهو يُمرر يده على لِحيَته:

_لقد نذرت أن أصوم لوجه الله إسبوعاً كامِلاً اذا رَضيَت غُفران.

وبعد مرور ثلاثة أشهر كان محمد في غرفة المُعالِج الفيزيائي ، قام بشدّ قبضته على مَلاءة السرير ثم فكّها لعدّة مرات، ثم فتح مقبَض الباب وكرر العملية أيضاً، وأخيراً أمسك بالقلم وراح يكتب مايُمليه عليه الطبيب.

صافحه قائِلاً ، لقد شُفيَت يدك تماماً ، انت الآن بألف خير.
سجد لله شكراً ، فهاهو يستطيع تحريك يده بشكل كامل بعد مرور ستة أشهر من إصابته.

وهاهي غُفران تنتظر قدومه وعائلته الى كربَلاء ، لكنّه كان مُختلفاً هذه المرة فقد عادت العمامة تُزيّن رأسه وإنسدلت العباءة السَوداء من على كتفيه بوِقار ، وصبغت لحيته بعض الخيوط البيضاء التي زادته هيّبة، تلمّست أثر الجُرح بجبهته بأصابعِها:
_ليتهُ أصابَ وجهي .

أجابتها والدته:
_سأفخر به أمام فاطِمة الزهراء يوم القِيامة .

ابتسمت لها لتحضنها بحنان ، لقد انستها هذه المرأة الجليلة الآم السنين وعوضتها عن حنان والدتها التي طالما افتقدَته.

أما هو فتحدّث بشيءٍ من الجدّية:
_غُفران ، سأذهب لضريح أبا عبد الله بعد قليل ، هل تأتين؟

وهُناك كانا يجلِسان بين الحَرَمين المُطهرين ، فلم يجد بُدّاً من اخبارِها _غُفران ، لقد وجدت روحي في تلك الجَبهة ، هناك أسمع نداء الحُسين يوم العاشِر يرن في أذني ، وأشعر بأنفاس صاحب الزمان.

هُناك عرفت من أنا ، ولمَ خُلِقت، والآن وقد تعافيت فأنا أريد العَودة لمقاتلة تنظيم داعش الإرهابي.

رفع رأسها ليرى ردّة فعلها ، كانت غارقة بدموعها:
_ولكن ماذا لو..

_أستُشهدت؟، انها أمنية حَياتي ياغُفران.
كفكفت دموعها لتقول له بحزم:
حسناً أنا لن أمنعك ، لكن عِدني أنك ستشفع لي لأرحل معك ، عِدني بذلك أمام الإمام الحُسين.
أمسك بيديها:
_لو كان الأمر بأختياري فاأنا أعدكِ ، لكن مادام الأمر ليس بأيدينا فتعالي لنطلب من الله بحضرة أبي الفضل أن يرزُقَنا الشهادة معاً .

لكن قبل ذلك عديني أنتِ أيضاً.
_بأي شيء؟

_أتعلمين منذ طفولتي وأنا أحلم بدراسة الهندسة المِعماريّة، الا أنني لم أوفق لذلك، والآن اطلب منكِ تحقيق ذلك الحلم ، عودي لدراستكِ الجامعيّة ، أنا أقاتل في الجبهة وأنتِ مهدّي لصاحب الأمر من خلال دراستكِ.

اجابته بأستفهام ، فقد نسيَت أمر جامعتها بالكامِل ، ولم تعد تتذكر شيئاً من دِراستها:
_أنا أعتقد انني أقوم بواجبي تِجاهه من خلال دراستي للمسائل الدينيّة وتدريس الفتيات ، أليس هذا أفضل من الذهاب الى الجامعه؟
أجابها:
_صحيح ، ولكن الإمام روحي فِداه بحاجة الى كادِر مُتكامل ، ألا تحبين ان تُشاركي في بِناء وعُمران دولته المُباركه؟

وعاد الشيخ محمد الى محراب الجِهاد ثانية برغم مُعارَضة والدته الشَديدة إلا أنه أصرّ على ذلك ، وغادر من كربلاء الى حيث مَصارِع المجد ، وهناك احتضنه هاشِم ثم الملازم طارق وبقيّة الشَباب ، كانوا يحتفلون بعودته طِوال الليل ، ولم تمُر تلك الليلة دون ان يقرأ لهم شيئاً من رِثاء أبي عبد الله تارةً وشيئاً من رِثاء الشهداء الراحلين تارةً أخرى.

كانت الاوضاع لاتزال خطِرة حتى في المناطِق المُحررة، فقد تزيّنت الشوارع بصور الشُهداء ، ولم يبق منزل إلا داهمه ألم الفَقد وملأت الأزِقة رائحة الرَحيل ، لَكأن الأرض أبت إلا أن تُروى من دِماء شيعة أمير المؤمنين.

كانت والدة محمد تفقد وعيَها كلّما سمعت صوت جَنازة لشَهيد في الحَي.

ومحمد الذي تهدّمت أجزاء قلبه كلما شاهد الموت يختطف أحد رِفاقه أمام عينيه ، لايَزال يَثأر لأرض العِراق ومُقدّساته.

على حُب فاطِمة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن