الفصل الرابع عشر : لعنة الغجرية

29.9K 1.2K 392
                                    

²³/⁰²/²⁰²¹ ⁰²:²⁰

" أحادث القمر فيخبرني ..
عن سهاد البحر و تعب الجبال
أحادث عينيك فتخبرانني ..
عن جمال الوعود و غبطة عاشق تمناك فنال "

.
.
.
.
.
.
"- من تكونين ؟ "
من تكون ؟ ماذا تحتاج حتى تكون ؟ هل تحتاج اسما ثلاثيا ؟
أم مرآة تنظر فيها كل صباح فتريها انعكاس وجهها بالمقلوب ؟
من تكون ؟ من كانت بالأمس و ماذا تكون اليوم ؟ أي السؤالين تجيب ؟

"- أنا ريان"
"- من هي ريان ؟"
تساءل بلوعة ..
مالذي يجعلها ريان ؟ أهو جسمها .. هو ناقص .. أهي روحها ؟ فهي هائمة مبعثرة .. أهي ذكرياتها ؟؟ و أوّاه من مرّ ذكريات لا يمُرّ !!

ناظرته و هو يسألها من تكون .. متلاعبة بشرود بخاتم اللؤلؤة الذي التف حول بنصرها الأيسر فالتقطته عيناه و تلألأت نظراته بأمل خفق له خافقه مستجيبا ..
أخفضت عينيها نحو مركز نظراته .. و تلجلجت روحها عندما رزح عليها بظله إثر تلك الخطوات التي مسح بها المسافة الصغيرة التي فصلتهما فجعلها أصغر ..
أسقطت يديها .. و رفعت له رأسها تستقبل أدفاق نظراتٍ نسجتها عيناه بحرير العاطفة .. نظرات تدفقت كأنهار الربيع في قنوات روحها الظامئة التي جففها الخريف .. تجري بداخلها غامرة خرابها بالحياة و الخصب ..
"- أنا ريان .. ريان شاد أوغلو"
بدا و كأن البرق اشتعل بعينيه .. كما لو أن الشمس بزغت و سقف الغرفة رُفِع من فوقهما و نُصِب مكانه سقف الخيمة التي عقد فيها قرانه عليها .. الخيمة حيث عرِف بإسمها عندما هتفت به بشموخ و هيبة من خلف خمارها الأبيض ..
بدا الأمر كما لو أن الزّمن عاد به لساعة الصفر .. و ها هي ثانية .. ثم ثانيتان .. تمرّان فتشهدان على حقيقته الجديدة .. حقيقة أن هناك في جعبة حبيبته جوانب أخرى تستحق أن يعشقها من أجلها !
اهتاجت أنفاسه .. "ريان شاد أوغلو" .. تردد الإسم بلسان عقله مرارا و كأنه يتذوقه ..
"- لماذا لم تخبريني ؟؟ لماذا أخفيْتِ عنّي هويّتك ؟ "
"-أنتَ لم تسأل ! "
أخفَت يدها اليسرى خلف طيّات تنورتها المشمشية فتوارت اللؤلؤة عن أنظاره .. أخفَت عنه حقه باستجوابها كما أخفت حقيقتها .. لكنه لم يكن ليسمح !
"- هل كنتِ لتبوحي لو سألت ؟"
"-بوحي من عدمه لن يغيّر حقيقة أنّك لم تسأل "

لم يسأل .. لأنه خُدِع بهيأتها .. خُدِع ببريتها .. لم يكن ليظن لوهلة أن فتاة جامحة حرة بقدرها قد تتسع لها مقاعد العلم المكبِّلة..
"-خُدِعت بمظهري و ظروف عيشي .. غجريّة مثلي تعيش تحت سقف خيمة آيل للسقوط .. زوّجها جدها ممن ظنه مغتصبها تطبيقا لعرفٍ جاهل بعد أن جعل نساء عشيرتها تنتهكن حرمة جسدها المنتهك أساسا ..لم تكن لتفكر للحظة بأنني قد أكون متعلمة مثلك في حين أنني ترعرعت في بيئة مظلمة كهذه .. أليس كذلك ؟؟"
احتقن وجهه بألم هادر .. لم تكن تلومه .. بل كانت تقص الحقيقة على أسماعه .. حقيقة أنّه غفِل هذه المرة عن خديعة المظاهر .. حقيقة أنه كان أحد السطحيين !
"-هل تعلم ماذا سألتني دجلة في أوّل حديث دار بيننا ؟؟ سألتني ان كنت أجيد السحر "
توشحت عيناه ببريق الصدمة .. و استرجع عقله لمحات بعيدة من ذكرى باهتة كبهتان حياته قبل أن تقتحمها :
"سمعت أنهن تجدن السحر"
هذا ما قالته دجلة .. و بالفعل هي كانت تجيد السحر .. لكن سحرها كان سحرا مختلفا ..
"-أخذتني لتجوّلني في القصر .. و عندما وقفت بي أمام المكتبة قالت بكل براءة بأن هذه الغرفة لا تهمني .. "
انكمشت ملامحه استجابة للألم الذي شاب تقاسيم وجهها فاستطردت :
"-دجلة لم تقصد جرحي .. على العكس .. قلبها من أنقى القلوب التي رأيتها في حياتي .. قلبها .. قلبها كقلبك "
تسللت بكلماتها الى قلبه و تسلمت مقاييده !
"- لكنّكما مثال عن الناس الذين يقعون في فخ المظاهر .. فقط لأن بعض الصحف الصفراء كتبت عن همجيّة الغجر وُصِمتُ أنا بالجهل و القيد المكتوم أمام نساء قصرك .. أصبحتُ أدعى بالقرباطية النورية الهمجية .. لم يسألني أحد إن كنت أجيد كتابة اسمي على الأقل .. لم يشك أحد لوهلة بأنني من قمت بحل المسألة الرياضية و بأن نيفين كاذبة .. أنت حتى اختطفت لائحة الطعام من يد النادل قبل أن يتسنى لي اختيار طعامي بنفسي "
ها هي تبوح بتكسرات روحها .. ها هي تشتكي .. تشتكي منه إليه .. أليس هذا ما لقنها إياه ؟؟
كانت تشتكي له عماه عن بعضها و هو الذي أبصر كلّها .. كشف شيفراتها واحدة تلو الأخرى و فتح السبل إليها .. فلِم أعجزه هذا السبيل ؟؟
"-لكنّك أخفيتِ السر يا ريان .. أنتِ من أخفيته .. عندما سألك شيخ عقد قراننا عن اسمك قلتِه مجردا دون كنية .. أعاد السؤال فأصررتِ على نفس الإجابة .. عندما اختطفت لائحة الطعام من يد النادل لم تكن نيتي إلغاء اختيارك .. بل فكرت بحماقة بأنني أراعيكِ .. ظننت أنك قد تحرجين أمام النادل و حتى أمامي .. و كنت لأقتلع عينيه من محجريهما لو أنه تسبب بنظرة منهما بإحراجك !! "
ارتعشت للدفاعية الشرسة التي حملتها كلماته .. و تصدعت دروعها و اهتز كيانها بمطارق نظراته التي تخبره حقا أنه يهتم !! يهتم بها و بمشاعرها و بكل ما فيها !
تلجلجت أمام حصاره .. كانت مشتتة أساسا و هي لا تزال تحت تأثير ما حدث بالأسفل .. انكمشت يدها التي ازدانت بخاتم اللؤلؤة .. ثم حادت بعينيها بنظرة خاطفة نحو تحفة شقوق الذهب قبل أن تلسع الدموع عينيها فتسارع بالإنسحاب خاسرة معركة النظرات .. لكنه لم يسمح .. بل أطبق على رسغها يسحبها نحوه مجددا هامسا لعينيها :
"-لا هرب بعد اليوم !"
تمكن منها إحساس بالإنتماء أضرمه هو بنعومة كلماته عندما رفع يدها بينهما مداعبا خاتم اللؤلؤة برقة هامسا ببهجة غلفت نبرته :
"- منحتني حقّ اختراقك بإرتدائه"
زفرت بحرارة و ارتعاش فاستطرد بعاطفة :
"-منحتني حق الأخذ بيدك و السير معك في طريق جديد"
و أحست ببرودة يدها تختفي وسط حرارة قبضتيه ..
أطبقت جفنيها تختبئ عن سحر اللهب الأخضر و أردفت بتوهان :
"-ماذا تريد مني ؟"
اشتدت يداه حول يدها الرقيقة و أردف ببساطة و عمق :
"- أريد أن أعرف من تكونين .. أريد الغوص بين صفحات ماضيكِ حتى أضمن لك مستقبلا مشرقا سأحرص على كتابته بنفسي"
الماضي .. لم يجمعها مع الماضي سوى علاقة مسمومة .. هي كانت تطمسه بداخلها .. و هو كان ينبثق من تصداعتها بين الفينة و الأخرى محدثا تصدعات أكبر ..
"-صدقني .. ماضيّي ليس بشيء قد تريد معرفته"
و الحال أنه كان يعرف منه ما يكفي ليرتجف قلبه لوعة في كل مرة يرى فيها رياح الماضي تهب بهباتها على صفحة وجهها الحزين ..
"- جربيني"
رفعت له نجلاوتيها المترددتين فأسرهما بابتسامة عطوفة .. و منحته قِلْد أمرها ..
أحسّت به يسيّرها خلفه نحو الشرفة المفتوحة التي توشحت بأضواء القصر الهادئة بعد أن نامت الشمس و تلألأت السماء بالنجوم .. استند بها على الحاجز الحديدي .. يطلاّن على أفق المدينة المستكينة لضوء الزبرقان ..
"-هيّا .."
همس بلطف ساندا ذقنه على يده التي ارتكز بمرفقها على الحاجز فناظرته بتلجلج و ارتعاش بينما يتابع بهدوء :
"- اروي لي كل شيء من البداية .. أخبريني عن ريان التي لا أعرفها .. و حتى .. أخبريني عن ريان التي لا يعرفها أحد غيرك "
اشتدت أصابعها حول الحاجز و احتبست أنفاسها طويلا .. كانت على الشفير .. كوردة ربيعية تاقت جذورها للتحرر من صلابة الأصيص .. و كان هو تربة خصبة ..
"- أنا .. أنا ريان شاد أوغلو "
استهلّت بإسمها .. فساورته رغبة بمقاطعتها .. بأن يهتف بأنها "ريان أصلان بيه" منذ اللحظة التي بصمت فيها على قسيمة الزواج الشرعي .. لكنّه آثر الصمت .. فانتماؤها إليه لا يبرر طمس هويّة رجل حياتها الأول و إنكار فضله .. فهو الرجل الذي أنجبها للحياة ..
"- أمّي .. كينثيا .. و والدي .. والدي أحمد شاد أوغلو .. معلّم بسيط"
أحمد !! والدها مسلم من المتحضرين .. و هذا يكشف له أخيرا عن غموض اسمها .. فلطالما تساءل عن غرابة اسم ريّان الديني بالنسبة لفتاة ولدت في عشيرة للغجر .. "ميريلا" مثلا كان ليكون اسما منطقيا .. فكر بعمق و صورة وشم أثير ترتسم لعينيه بوضوح !
امتلأت عيناها بالشجن و انفلتت من قيود التردد .. و تابعت تقص قصتها الحزينة له و للنجوم :
"- إلتقى أبي بأمي في إحدى زيارات المعلمين التطوعية لمخيم الغجر في حيّنا القصديري القديم .. والدي كان أحد المعلمين الذين يستغلون العطل المدرسية ليشرفوا على تدريس أطفال الغجر و تعليمهم أساسيات القراءة و الكتابة .. رأى أمّي هناك .. و وقع في حبها و من النظرة الأولى"
همست بالجملة الأخيرة و هي تحيد بعينيها عن النجوم لتركزهما على عينيه .. و تلجلجت نظراته ..
"- وقعت هي بدورها في حبّه .. فتزوّجها .. طبعا لا أحتاج أن أروي لك عن موقف سيزار من هذا الزواج .. رفض فهربت .. و تزوّجت بوالدي رغم كل الأعراف .. واضعة الجميع أمام الأمر الواقع"
ابتسم ميران للابتسامة الحزينة التي ارتسمت على ثغرها .. تلتها تنهيدة عميقة .. ثم لمسة أناملها لخاتم اللؤلؤة بينما تقول بنبرة مشروخة :
"- ثم ولدت أنا .. جئت الى هذه الدنيا .. ثمرة لعشق عنيف جمع الغجرية بالمعلّم"
اعتدل بوقفته و تلألأت عيناه ببريق العشق .. هذا هو جزؤه المفضل من القصة ..
"- متى ؟؟ متى وُلِدتِ ؟"
أجفلت من اللهفة التي شابت نبرته فرفعت عينيها تناظر القمر المنير معيدة خصلات من شعرها الى الخلف بعد أن تمردت بنسمات المساء و قالت بحالمية :
"- فجر اليوم التاسع من شهر ديسمبر .. سنة ****"
توسّعت ابتسامته أكثر و استنفر قلبه و كأنها بثّت فيه حياة جديدة .. غاص فيها أخيرا .. غاص فيها لدرجة أن كل غموضها الذي كان من قبل حسرة لقلبه بدأ ينحسر شيئا فشيئا .. كان الأمر أشبه بمعجزة .. فهو بالكاد كان يعرف اسمها حين تزوجها .. و وقع في حبها رغم ذلك .. أما الآن .. فها هو يقع في الحب من جديد .. لا في حب ريان الغجرية فقط .. بل في حب زوجته .. زوجته التي يكبرها بإحدى عشر عاما .. ابنة المعلّم ذات الاثنين و العشرين ربيعا التي ستحتفل بربيعها الثالث و العشرين بعد شهرين من الآن !
كان الأمر أشبه بمعرفة الوصفة السرية لطعامك المفضل .. كان مفضلا .. و ضل مفضلا حتى بعد اكتشافك لكن مع قليل من الانبهار ..
تنحنحت تجلي توترها العاطفي من البهجة الغريبة التي شابت وجهه .. كانت ترتجف .. و كأنها تقود عربة مجنونة دون مكابح في منحدر مميت .. تحكي و تحكي و هي تعرف إلى أين ستؤول القصة في النهاية .. فنهاية المنحدر كان جدارا منيعا .. و ارتطامها وشيك ..
"-عندما وُلِدت و عرف والدي بي .. ضمّني و والدتي إليه و منحني اسمه .. ثم ميراثه الذي درستُ بفضله .."
استطردت تخترق الصمت برعشة صوتها .. شابك ميران حاجبيه بتوجس و حيرة و أردف بتوهان :
"- ماذا تعنين بعندما عرف بكِ ؟"
"-تلك قصة أخرى .. فعندما حملت أمي بي لم يكن والدي يعرف بحملها .. افترقا لسنة كاملة قضت فيها أمي فترة حملها في العشيرة .. و وضعتني هناك .. وُلِدتُ في المخيم على يد سيليا "
امتقعت عيناها بسواد الألم و عبس هو بوجهه .. سيليا .. المرأة التي انتشلتها للحياة هي نفسها من قتلت انوثتها !
"-لماذا ؟ "
همس متسائلا و قصتها تتخذ بعدها السوداوي شيئا فشيئا
"- لست أدري .. سيزار لم يكن يقبل الخوض في هذا الموضوع قط .. لكنني أذكر عندما كنت صغيرة أنني سمعت مرة خالتي تقول بأن عائلة والدي لم تكن على وفاق مع والدتي و لم يباركوا زواجه بها .. لعلّهم كانوا سببا في انفصالهما لمدة سنة .. فأنا لا أعرف عنهم شيئا .. أو لعلّها .. لعلّها .."
انقطعت كلماتها و ناظرته بتردد و شيء من الخوف فهمس باهتمام :
"-لعلها ماذا ؟"
احتقن وجهها بحرج و خزي مما ستقوله .. لكنها أردفت رغم ذلك :
"-لعلّها لعنة الغجرية "
"-لعنة الغجرية ؟"
برطم بنبرة حائرة فزفرت بتلجلج قبل أن تقول بكلمات أخفت بين طياتها قلقا .. و حتى خوفا :
"- عندما تضع الغجرية مولودها و تكون فتاةً .. و قبل أن ترضِع طفلتها للمرة الأولى .. يجعلونها تأكل ثلاثة ثمرات تمر ملطخة كل منها بقطرة من دمائها : تمرة الحياة .. تمرة النسل .. و تمرة الموت !
ثم ترضع طفلتها من حليبها الملعون .. حتى تربط قدرها بالعشيرة كما ربط قدر والدتها .. تفنى حياتها للعشيرة .. و تمنح نسلها للعشيرة .. و تموت .. في العشيرة ! "
أحس ببشرته تستنفر أشواكا أشواكا و بثقل مظلم يرزح على صدره بينما تتابع :
"- لُعِنَت أمي بحليب جدتي .. و بالفعل وضعت نسلها في العشيرة مثلها على الرغم من ان زوجها كان من المتحضرين .. و ماتت بعد خمس سنوات .. و في العشيرة أيضا !! كما ماتت والدتها و جدتها و أسلافها .. "
اختنق بغصة مؤلمة احتكمت في حلقه و أحس بغربان الشؤم تحوم حوله لتلقي هي برصاصتها الأخيرة مع كلماتها الهازئة التي أخفت وراءها خوفا أهوجا :
"- و لُعِنْتُ أنا بحليب أمي .. ارتبط قدري بالعشيرة على الرغم من هويتي و اسمي .. تشاركت معها قدرا واحدا .. حتى أنني .."
اشتدت يده حول الحاجز الحديدي حتى اختفى لون الدماء من أصابعه لتستطرد هي بغموض و سوداوية :
"- حتى أنني تزوجت مثلها رجلا من المتحضرين "
"-هذا يكفي !! "
هدر بإندفاع و قلبه يخفق جازعا خوفا من لمحات صورها لها عقله و هو يرى تاريخ الغجرية و المعلّم يعيد نفسه معهما .. لكنّه نفض أفكاره السوداوية عن رأسه و أردف بجزع :
"- أستغفر الله العظيم .. هذا دجل و شعوذة ! "
"-إنّه سحر .. و السحر موجود "
انطفأت عيناه و اكتسى جبينه بعرق بارد عندما ترددت في عقله تلك الآية التي تؤكد كلامها

لعنة الغجرية (مكتملة)|| The Curse Of The Gypsyحيث تعيش القصص. اكتشف الآن