الفصل السابع عشر : حورية الجنة

33.2K 1.3K 1K
                                    

¹¹/⁰⁵/²⁰²¹ ¹¹:⁵⁰

"شَابَ طفلٌ لمّا شكوته همي .. فساوِرني و سامِرني حتى لا تشيب "
.
.
.
.
.
.

كم عشقا عجّت به ذاكرة هذه الأرض التي يقفان عليها ؟ كم نبضا وبُل و كم نفسا مشرئبة للحرية تاقت بعد الإعتراف للأسر ؟
كم جسدا محموما غسلته السماء بِوبلها ؟ و كم شخصا حولته هذه السكك الحديدية إلى طيف ؟ مجرد قشة يتعلق بها مشتاق على استحياء حين يجن به الليل السقيم .. متسائلا إن كانت ستصبح حقلا عندما يتنفس الصباح .. لكنها لا تفعل !
في إحدى مقابر العشاق حيث اندثرت باقات الورود تحت عجلات القطارات و أقدام المسافرين .. و دفنت بين السكك سلاسل فضية ذات أثمان زهيدة رحمتها تخفيضات أعياد حب لا تعد .. و قُتلت أحلام الكثيرين بالسرمدية .. فلا سرمدية ستصمد أمام بوابة الهجر .. حيث تشير عقارب الساعات المتوقفة إلى تمام الشوق .. و لا تتحرك سوى بحلول التقويم الجديد .. تقويم يحكمه ظهور هلال أولئك الذين تعلقت بهم قلوب المعذبين ..

بدا لها أن مائة قمر دخلت في المحاق منذ أن ضج السكون بغوغاء الإعتراف .. و عفت أزلية الشوق بحرارة اللقاء ..فقد كانت بين ذراعيه .. مجددا .. تائهة في بحره و مغمورة بموجه كسفينة بلا أشرعة و بلا مرساة .. كحورية لا حياة لها سوى في جوفه ..
استطاعت تذوق ابتسامته عندما منحته استجابة تائقة .. كانت أضعف من ألا تستجيب .. فقد كانت عليلة بعشق طاهر .. كطهارة عشق الأرض للماء و الغيم للسماء .. عشق العبد للحرية .. عشق المؤمن للعبادة و الجندي للشهادة .. عشق خالص يجعلها كارهة للبقاء بقدر اكتوائها من الرحيل .. يجعلها تتخذه "هو" مبتدأً لكل جُملها .. و يلزمها بأن تدفن ال"أنا" خلف قضبان الضمير المستتر ..

بالنسبة إليه .. الأمر كان أكبر من مجرد اعتراف أو قبلة .. كان يدرك أن عشقه الكامن في عينيه طيلة تلك الشهور كان مقروءا لعينيها .. لكن هذا العشق غير المعلن تحرر فجأة و بكلمتين صاخبتين مسحتا الغبار عن قمقم المارد ..
"- أنا أعشقك "
قالهما و حرر نفسه ..
تصخرت معدتها و لفحتها أدفاق من حرارة غزت برودة المطر .. و أغمضت عينيها لثوان قليلة لم تستطع عدها .. تنتشي بالإحساس بكلتا ذراعيه حولها فتملأ قفر روحها بإزدحامه .. و تصرع حناياها باقتحامه .. اقتحام لم يكن له من مثيل .. و قبلة لم يكن لها من توأم .. فقد كان يعترف .. يفتح عينيها على الحقيقة التي تحاشتها بأنانية تارة و بإيثار طورا .. ينسب كل نبضه إليها و يختم كل اختلاجاته بإسمها .. و ينصبها مكمن الداء و العلة كما يقلدها وسم الدواء الوحيد .. يمنحها سببا .. سببا لتعود و عذره هو ليستبقيها .. يهمس لها بوجعه الأكبر كما همست هي من قبل لإحدى اليراعات .. لكنها كانت أكثر هشاشة من اليراعة .. و حبه المعلن كان طوفانا .. مختلفا عن حبه الذي كان يستحي أن تكشفه اللمسات المسترقة ..
أجفل عندما أحس بجسدها يرتخي بين يديه فتراجع برأسه مذعورا ملتقطا خصرها بلهفة يتعلق بجسدها الذي اختلت موازينه و إنفرط تماسكه .. و ارتعش عندما التقت عيناه بعينيها اللتين كانتا تمطران دمعا تماهى مع جَود السماء .. و أدرك في تلك اللحظة أنه نجح بتحويل قشة الأمل التي تعلق بها طيلة الطريق إلى حقل ..
"- ماذا تفعل ؟"
بالكاد استطاعت أذناه التقاط الحروف التي تراقص بها لسانها .. فإنقشعت الوحشية من عينيه .. وحشية لم تكن غضبا منها بقدر ما كانت غضبا من أجلها .. ألمّ به منذ أن جعّد رسالتها الغبية بين أصابعه .. و اشتعل فيه عندما فاته قطار المحطة الأولى .. و ألهبه أكثر عندما أسرّت له آيسيل بالحقيقة !!
"-أمنحك ما تريدينه "
هدر متمسكا بخصرها فاشتدت أصابعها حول تحفتها الفخارية و تشابكت حبالها الصوتية كما تشابك حاجباها و توسعت نظراتها ترمق وجهه بذعر كما لو أنه ضبطها بجرمها .. جرمها بأنها أحبته بقدر ما أحبت حبه لها ..
"-و هل هذا ما أريده ؟"
أن يقتطع طريق رحلتها و ينتشلها من محطة القطارات الخالية و يقبلها بنعومة تحت الأمطار معترفا بحبه ؟ كان هذا كل ما قد تريده يوما ! في الواقع كان هذا ما أرادته و انتظرته طيلة حياتها دون أن تدري .. طيلة سنوات كانت تلاحق نقصا بداخلها لتسده .. لم تحتضن وسادتها يوما متخيلة أوصاف رجل أحلامها او شكل زوجها المستقبلي بذقنه الكثيفة المنمقة و منكبيه العريضين و طوله الفارع .. لم تر نفسها في أحلامها عروسا بفستان الزفاف الأبيض جالسة إلى طاولة عقد القران لتصرخ بنعم عندما تُسأل عن موافقتها .. مما يعني أن السبب الوحيد الذي جعلها تتحسر عند استيقاظها كل يوم هو أنها استيقظت في العشيرة مجددا .. أما أهدافها فقد كانت أبعد مما تكون عن الرجال .. كل ما ظنت أنها تريده هو العيش بكرامة .. لم تكن تدري أن الكرامة تشترى بالقوة .. و أن القوة من دون حب كأرض براح لا تمر فوقها السحب .. مآلها القفر و الجفاف و النضوب .. ربما هي وقعت في حبه لهذا .. لأنه كان حلما جميلا لم يتسع له نومها المليئ بالكوابيس .. لأن الحنين إليه أشبه بالحنين لذكرى لا تملكها .. لأنه كان منبع الغيث الذي تشربت منه قوة لا تنضب .. يمنحها القوة بكل ما للكلمة من معنى .. و أكبر دليل على ذلك هو ما آلت إليه حالتها منذ قليل قبل حلوله و بعده .. من مجرد طيف هائم في القفر هارب من أشباح الخوف .. إلى أنثى اجتمعت بأنوثتها و سكينتها و أمنها و مأمنها و كل ما افتقدته يوما ..
"- و هل حقا الطلاق هو ما تريدينه ؟"
برقت عيناها بشرخ خاطف .. إن كانت روحها تتشرب من ينابيعه القوة .. فقلبها لا يملك في حضرته سوى أن يضعف !
"- أجل "
قالتها و هي تذكر نفسها بسبب رحيلها في المقام الأول .. قالتها و نحرت عنقها بيدها و سكينها ..
"- كاذبة ! "
أجفلت من عنف الكلمة التي صفعت وجهها فرمشت بعينيها تناظر وجهه المغمور بزخات المطر و شعره الملتصق بجبينه الذي زاده همجية و هو يهدر بينما يهز جسدها عله يحررها من أوهامها :
"- تكذبين ! لأنني أعلم سبب رحيلك !! "
سُحِبت الحياة من عينيها .. و بدا لها أن ركبتيها ستنفرطان في أية لحظة .. و سافرت بها الظنون .. ماذا لو خانتها أصابعها و هي تكتب الرسالة ؟ ماذا لو تسرب حبرها و كتبت له أحبك بدل طلقني ؟ لكنها راجعت ما كتبت .. قرأتها عشرات المرات تنتقم له من نفسها بأن تجلدها كما سيُجلد هو من بعدها .. على أساس أنها بصقت رفضها في وجهه و قالت له لن آتيك ما سجع الحمام .. اذا .. لما يقف الآن أمامها و يعترف بحبه ؟ أليست له كرامة ؟ ثم طفقت تتخيل لو أنه عاملها بالمثل .. لو أنه غادر بعد أن ترك لها رسالة بكلمات منمقة تستر وقاحة معانيها .. هي لم تكن لتلحقه معترفة بحبها أبدا .. كانت لتبكي .. تبكي كثيرا .. لكنها لم تكن لتركض خلفه ! كيف يركض هو خلفها اذا بعد أن حرصت على طعنه و تقييده بخيانتها و هجرها ؟
"- ترحلين لأنك غبية ! آيسيل أخبرتني بكل شيء ! "
اهتزت و اعتل نبضها .. آيسيل أخبرته ! خانتها ! لكن لم تكن تدري ان كانت تستطيع ان تعتبرها خيانة .. فهي كانت الوحيدة الشاهدة على معاناتها طيلة الأسابيع المنصرمة بعد أن باحت لها ريان بما يؤرقها.. ربما ظنت أنها قدمت لها معروفا بعد أن فشلت بإثنائها عن تصديق اللعنة و العرافة .. كان ليكون معروفا لو ان رحيلها كان منوطا بدلال أو مجرد عناد .. لا مسألة حياة الرجل الذي تحبه .. أو موته !
كتمت شهقاتها المعذبة .. أن تكون أمامه و كل شيء يحثها على الاقتراب في حين أن عقلها يصرخ بها بأن تبتعد هي القسوة بعينها ..
"- لا أعلم مالذي أخبرتك به آيسيل و لا أهتم .. أتركني فقط .. و لا تقبلني مجددا !! "
صرخت لينكتم صدى صوتها بصوت صفعات الأمطار للأرض محاولة التملص منه بأي طريقة قبل أن يتصدع سد مكابرتها و ينفجر توقها فتتهور و تقبله بنفسها هذه المرة .. لكنه كان أقوى .. أو ربما هي من كبحت قوتها حتى لا تسمح له بتركها .. ربما تريده أن ينطق الآن فيقول لها بغطرسة بأنهما عائدان للبيت و أنه سيحاسبها على فعلتها هناك .. أن يخبرها مثلا بأن مخاوفها مجرد خرافة .. أو يتلو عليها بضعة آيات من تلك التي يحفظها .. مستخلصا من كتاب الله دليلا على أن كلام العرافة ما هو سوى محض دجل و شعوذة .. و أن بقاءها لن يقتله بل سيحييه كما سيحييها ! فكرت بشيء من الأنانية .. آملة أن يمنحها سببا مقنعا لتبقى .. فتبقى !

لعنة الغجرية (مكتملة)|| The Curse Of The Gypsyحيث تعيش القصص. اكتشف الآن