الفصل الحادي عشر : طائران بجناح واحد

29.3K 1.2K 191
                                    

¹⁸/⁰¹/²⁰²¹  ¹¹:⁰⁷

"كالقلب أنتِ تتقلبين .. كباب الجنة أنتِ .. لا تفتحين أبوابك إلا للصابرين "


أطبق جفنيه يستشعر لذة اللحظة .. لحظة محلاة بطعم المشاعر الأولى .. طعم الحضن الأول .. النداء الأول .. و العشق الأول !
تسارعت أنفاسها تصارع عدوا وهميا أطبق على صدرها ككماشة من حديد .. أهو خوف .. أهي رهبة .. أم هي عاطفة مجهولة اعترتها فاستلمت مقاييد القيادة بدل عقلها الذي غاب على ما يبدو خلف سحابات الدخان الأسود ..
اهتز عالمه باهتزازها بين يديه .. كانت تسعل .. أو لعله أطبق على أنفاسها بحضنه العارم فكاد يزهقها !
انتشلها منه كالغريقة يناظرها برعب مستعدا ليمنحها من أنفاسه لو احتاجت
"-ريان .. ريان أنظري إلي يا جميلتي"
"-آه "
تأوهت فإختض .. و ارتعشت أنامله فوق ذراعها ليدرك برعب أنها مصابة !
"لقد احترقتِ ! رباه لقد احترقتِ !"
و احترق هو معها !
"-تعالي .. سآخذك الى المشفى"
و أطبق ذراعيه حول جسدها الهش يلتقطها عن الأرض دافنا اياها في أحضانه مهرولا بها بعيدا عن ألسنة الدخان و اللهب .. لكن لمسة .. و همسة أحبطت ثورته حينما تشبثت أناملها بقميصه و همست بضعف من بين سعلاتها :
"- أنا بخير "
ناظر رأسها المتكوم على صدره بلهفة نضحت من عينيه تتابع صراعها المستميت مع أنفاسها هامسة برجاء :
"- لا داعي للمشفى .. أنا بخير .. أرجوك "
وهنت ساقاه للضعف في صوتها .. لكنه زفر بلوعة و حاد بطريقه نحو الأعلى .. حيث جناحهما..
ولج بها الى الداخل و هو يكاد يجزم أن باستطاعتها سماع دقات قلبه المتقافز تحت رأسها .. لكنه لم يكن ليهتم .. ان شاء قلبه ليتوقف .. ليتوقف خوفا و عشقا .. يكفي ألا يعايش مرة أخرى تهديدا بفقدانها !!
وضعها على السرير برفق و هب يجلب لها كأسا من الماء لترطب به حلقها الذي خدِش من السعال ..
ناظرته بعينين غائمتين بالدموع ...لوهلة عندما وقفت تناديه وسط اللهيب ظنت بأنه احترق و تفحّم .. و لا زال قلبها يرتجف تأثرا بظنونها تلك و الى حد هذه اللحظة !
"-اشربي .. بهدوء "
همس بلهفة و هو يقرب الكأس من فمها فتجرعت منه قدرا يسيرا لتفاجأ به يرفع أنامله يمسح بها تلك القطرات التي بللت شفتيها بينما يضع الكأس جانبا قبل أن يبعد شعرها عن كتفها و يهتف بقلق:
"-حرقك .. يجب أن أرى حرقك"
كانت روحه تحترق في كل مرة يدرك أن بشرتها حُرِقت !
اقترب منها بحذر فتعثرت دقات قلبها .. عيناه كانتا تتلكآن ما بين ذراعها و عينيها .. يقرأ من نظراتهما استجابتها و اختلاجات روحها
"-هل تسمحين ؟"
ارتجفت لنبرة صوته الأجش المتهدج .. و احتقن وجهها بمشاعر جديدة عليها جعلت انفاسها تتسابق للاحتشاد في حلقها بشكل سلبها القدرة على النطق .. لكنها أومأت له برأسها .. و لم تخطئ الوهج اللامع الذي تهللت بها نظراته !
أحضر حقيبة الاسعافات من الخزانة و عاد .. وقف أمامها لثانية عاجزا عن معرفة السبيل إليها .. تائها كأنه جاهل أمّيّ و ليس طبيبا مختصا .. لكنه تنحنح بتوتر عندما رفعت له عينين مترقبتين .. ثم استجمع أشلاء روحه التي تساقطت على أعتابها و اتخذ جلسته على السرير خلفها .. يغرق في عبق أمواج شعرها الأسود كمسكين لا يجيد السباحة ..
أغمضت عينيها و هي تحس بشعرها ينزاح عن ظهرها و يوضع على كتفها الآخر بلمسة أرق من الرقة .. فتقتحم بشرة رقبتها أنفاس ثائرة .. دافئة رقيقة تناقضت مع قسوة الألم الساخن الذي ألمّ بذراعها ..
وضع أنامله على أزرار ثوبها يفكها ببطئ .. زرا وراء زر .. فيسرق منها مع كل زر نفسا ..
انكشف له ظهرها الرخامي .. كالعادة لم تكن ترتدي تحت أثوابها شيئا ! كانت برية حتى في لباسها .. و وقع هو أسيرا لبريتها ! في الواقع هو أسير منذ اللحظة الأولى .. لكنه أدرك هذا متأخرا !!
نفض عن رأسه نفس الذكرى المحرمة التي رسمت لعينيه الثوب شفافا .. كان قد حفظ تفاصيلها عن ظهر قلب و من نظرة واحدة .. ربما هي قدرة خارقة اكتسبها من كلية الطب .. او ربما هي لعنة تسلطت عليه بتعاويذ جمالها فحرّمت عليه نعمة النسيان ..
أزاح ثوبها عن كتفها أخيرا فرفعت يديها المرتجفتين تمنعه من الإنزياح من الأمام .. مستكينة مستسلمة للصمت الصاخب الذي عم على المكان .. و ملقية بنفسها لنهر الأحاسيس سابحة مع التيار هذه المرة .. فقد أنهكت روحها من السباحة ضده
"-الحمد لله .. انه حرق سطحي .. سيشفى تماما في غضون أيام"
همس بتهدج و توهان .. قبل ان يتنحنح و يلتقط مرهم الحروق من الحقيبة مغالبا شعورا شنيعا باللوعة .. لقد حُرقت بسببه ! من أجله !!
"- يا الله "
همس لنفسه بتضرع مقاوما رغبة بزرعها بين ضلوعه .. ليرتدي قفازا معقما ثم يشرع بوضع المرهم على حرقها بحذر منتظرا أن تشهق بألم .. لكنها لم تفعل !!
"- ألا تتألمين ؟ "
انكمشت ملامحها بألم مكبوت و همست :
"- قليلا "
نسمات باردة أحست بها تهب فوق حرقها .. كانت تلك أنفاسه !!
نفخ على مكمن علتها و علته برقة جعلتها تتساءل ان كان يعامل كل مريضاته هكذا !! قبل ان تشعر بالضماد يلتف حول ذراعها برفق ثم بثوبها يعود لوضعيته و بأنامله تغلق أزراره بحركات خرقاء بعد أن تخلص من قفازه .. زفرت انفاسها التي احتبستها أخيرا .. لكنها عادت لتضطرب مع تساؤله الأجش :
"- لماذا فعلتِ هذا ؟ "
التفتت اليه فالتقت عيناها بعينيه المضطربتين بينما يقول :
"-لماذا ألقيتِ بنفسكِ الى النيران ؟"
ارتبكت اكثر و تفاقم شعورها بالضياع فهمست بتلجلج :
"-أخبرتك .. ظننت أنك بالداخل"
و الحال أنه كان في المكتبة .. ألقى بنفسه بين كتب الطب النفسي مستقصيا علاجا لعقدتها بعد أن عجز عن النوم و هو يفكر بما باح له سيزار به اليوم !
"-أجل و هذا ما أتساءل عنه .. لماذا يا ريان ؟؟ لماذا ألقيت بنفسك الى النار من أجلي ؟"
هتف بيأس مقتحما بعينيه غموض عينيها الملتهبتين بأضواء الشموع ..
تلجلجت و ارتجفت أوصالها عاجزة عن تكوين كلمات للإجابة التي كان يطلبها فقاطعها بلوعة :
"-أنا لا أفهمك يا ريان .. لا أفهم بماذا تفكرين .. لا أستطيع توقع ما قد تفعلين .. تارة تطعنينني و تارة تنقذينني من الطعن .. تارة تحرقينني بمكائدك و تارة تنقذينني من الحرق .. أخبريني يا ريان .. كيف السبيل لفهمك ؟"
غامت عيناها بالدموع و هو يذكرها بأفعالها .. طعنت جسده .. طعنت شرفه .. و في المقابل كان هو من يداوي دائما .. يداوي جروحه حتى يكون قادرا على مداواة جروحها هي .. هي من تطعنه في كل مرة !!!
"أنا .. أنا عندما رأيت النيران .. أنا .."
تلعثمت بالكلمات و هي تكاد تبكي .. منذ متى أصبحت هكذا ؟ منذ متى تحولت لأنثى ضعيفة هشة سهلة الكسر و الجبر ؟
استرعته ارتجافتها .. كانت خائفة .. لا منه بل من نفسها .. خائفة من الضعف الذي تسلل لقلبها .. ناظرها بأمل .. كان يراها تتفتح كوردة ربيعية احتمت بحصن بتلاتها طول الشتاء .. ليرحم تشتتها أخيرا و يهمس بعاطفة :
"-حسنا .. هذا ليس الوقت المناسب .. اغتسلي أولا و ارتاحي .. سنتحدث لاحقا "
ثم أعاد حقيبته لمكانها و غادر تاركا اياها تتلوى على جمر من مشاعر لم تكن تستطيع فك شفرتها .. لكن الكره لم يكن من ضمنها حتما !

لعنة الغجرية (مكتملة)|| The Curse Of The Gypsyحيث تعيش القصص. اكتشف الآن