الخاتمة. في قلبي وطن

50 6 4
                                    



تراقصت ندفٌ من السحاب في صفحة السماء الزرقاء الزاهية وهي تعكس ضوء الشمس الذي بدأ يزداد دفئاً مع قدوم الربيع.. كانت حرارة الجبال مع انتصاف النهار قد ارتفعت ارتفاعاً ملحوظاً عما كانت عليه قبل شهر، لكنها تظل أشد برودةً مما عهده سكان أرض الملاذ.. ورغم أن الثلج قد ذاب عن جوانب كثيرة من الجبال، لكن القمم احتفظت بأكوامٍ منه قلما تتعرض للذوبان طوال أيام السنة..

حلق نسرٌ أبيض الرأس عريض الجناحين ذهبي العين قرب أعلى القمم الثلجية يراقب الأرض ويدور في مسارٍ معروف اعتاد عليه صاحبه منذ عدة سنين.. مرق فوق ذلك الجانب من الجبل الذي انهار قبل شهور قليلة، والذي تغيّرت معه معالم المنطقة تغيّراً ملحوظاً، ثم أكمل تحليقه حتى تجاوز السلسلة الجبلية وحلق نحو السهول الخضراء التي تمتد على مساحةٍ متوسطة خلفها..

هبط النسر على جانبٍ مرتفع من الجبل، وحدق ببصره الحاد في السهول الخضراء التي بدأت الجداول تجري فيها وازدادت أنهارها غزارةً مع ذوبان ثلوج هذه الجبال.. وبدأت بعض الألوان الربيعية الجميلة تغزو جوانب عدة منها حتى اختلفت اختلافاً كبيراً عما كانت عليه قبل الشتاء..

بعد أن اطمأن النسر لسكون المنطقة من أي حركة، حلّق من جديد بحركاتٍ سلسة عائداً عبر المسار ذاته متجاوزاً السلسلة الجبلية بسهولة ويسر.. لم يستغرق منه الأمر إلا ساعتين أو يزيد لتجاوز الجبال عائداً من حيث أتى.. عائداً للقلعة الوحيدة التي تنتصب بين الجبال كمأوىً للبشر.. عائداً لجسده الذي استرخى على كرسيٍ خشبي قرب نافذةٍ في الطابق الأول منها.. وحالما حط النسر على فرع شجرةٍ قريبةً من المبنى، فتح شاسار عينيه في اللحظة التالية زافراً بعمق دون أن يتحرك من موقعه لبعض الوقت..

تعالت زقزقات بعض العصافير من موقعٍ قريب، وهذا كان الصوت الوحيد الذي يتردد في هذا الجانب من الجبال بعد أن ساد الصمت التام شهور الشتاء الماضية.. الآن، مع عودة الربيع، أصبحت المنطقة أكثر حيوية من السابق.. لكن العصافير وبعض الحيوانات هو أقصى ما يمكن للمرء أن يحلم بسماعه..

الآن، بعد كل الوقت الذي مضى، وطّن شاسار نفسه على تقبل واقعه الحالي.. لا يدري ما الذي سيجري له في الأيام القادمة.. ربما يرمي كل ما على كاهله ويرحل بعيداً.. ربما.... لكنه في الوقت الحالي مستسلمٌ لما هو فيه وقد تقبّل حياته الحالية على سوئها.. من يرى استسلامه قد يظنه نسيَ كل ما أمضى سنواته السابقة يعمل لأجله ويحلم به.. لكنه لم ينسَ قط.. فقط قرر مواراة كل ما عجز عن الحصول عليه بعيداً في عقله.. وحاول جاهداً تناسيه.. لم يكن حلم شاسار بالتفاهة التي قد يتخيلها المرء.. فهو قد أمضى عشرين سنةً من عمره يحلم بذات الحلم، يتخيله بكافة الأشكال، وكل يوم يمضي يضيف له جانباً جديداً أو يصقل واجهته ويزيدها لمعاناً.. الحلم الذي يتطاول في نفوس البشر لعقدين كاملين قد يبهت بمضيّ السنوات ويفقد مذاقه.. لكن بالنسبة لشاسار فإنه ازداد بريقاً وجمالاً مع كل سنةٍ تمضي.. وهل لشخصٍ مثله قضى حياته في عزلة مقيتةٍ وصمتٍ دائم أن يجد لنفسه حلماً أكبر من دفءٍ يضفي حياةً وحيويةً على حياته البائسة؟..

العين الثالثةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن