الفصل الواحد والعشرون
لم تتوصل إلى قرار حتى بعد ذهابها للطبيب، اعتقدت أنها ستحسم أمرها عندما تتحدث معه، لكنها لم تفعل، بالعكس زادت حيرة؛ هي متأكدة من شيء واحد أنها لن تسامح نفسها إذا حدث شيء لوالدتها دون أن تراها، صحيح أنها تجنبتها منذ زواجها، في الحقيقة البعد كان اتفاق غير معلن بين الأم وابنتها، حتى عند إعلان مرض سارة لم تأتي لزيارتها أبدًا بحجة أنها لا تحب السفر لمسافات طويلة وسارة لم تلح عليها كي تأتي، قد تجزم بأنها سعيدة بذلك، آخر ما تريد تأنيب أمها لها، بأنها تنهك زوجها بمرضها!
هل تستشير غسق؟
لا، لا، غسق دائمًا تنظر إلى الجهة الايجابية، النصف الممتلئ كما تقول، ستجد مليون عذر لوالدتها، كما أنها لا تريد أن تخبرها بالقصة كاملة، في الواقع لا تقدر على ذلك.
بما أنها لم تصل إلى حل قررت أن تسال طبيبها المعالج إذا كان بإمكانها السفر قبل أن تكمل جرعات العلاج أم لا، استقامت من مكانها لتغير ملابسها، فلديها تحقيق صحفي تحتاج أن تنهيه، فهي لم تبتعد عن عملها الصحفي تمامًا، بعض المقالات والتحقيقات تقوم بإرسالها لصحيفتها القديمة وكذلك تنشر بصحيفة إلكترونية، أما الصفحة الخاصة بالسيدات تلك فهي تعتبرها تسلية ليس إلا؛ رأت سجادة الصلاة على الكرسي أمامها، فكرت في صلاة الاستخارة ثم عدلت عن قرارها، لتجعل الأمر متروك في يد الطبيب أفضل، ليكون حجة مقنعة لها.
********
رغم أن العمل يخص عائلة غريمه؛ إلا أنه قرر استغلال كل دقيقة بقربها، لم يقضي معها وقتًا طويلًا بمفردهما من قبل، دائمًا معهما أحد أو يقوم أحدهم بمقاطعتهما، منذ أن عادت من سفرتهما تلك وهي تعامله بجفاء شديد، تتعمد وضع الحواجز بينهما، كأنها تخاف قربه، ربما لأنها بدأت في تكوين مشاعر اتجاهه؟ عند هذه الفكرة زادت دقات قلبه وارتسمت ابتسامة رائعة على وجهه وهو يحدق بها، منذ مدة وهي منغمسة في عملها، أصابعها تتحرك على لوحة الجهاز اللوحي، فقط تحرك قدميها وتمسد يديها أحيانًا، لاحظ أن يدها بها شيء غريب كذلك فمها فهي لا تشرب إلا من الشفاطة فقط وهذه ليست عادتها، لم يرد أن يضايقها بسؤاله، يعرف أنها لا تحب التحدث في ما حدث خصوصًا معه، لا يهم المهم أن علاقتها بساجي انتهت رسميًا، حتى الحمل لن يهتم له واضح أن ساجي لا يريده، يأمل أن تنجب فتاة تشبهها، سيحبها كابتنه تمامًا، فهو يعشق والدتها، ربما يقنعها بعد الزواج بأن تحمل كنيته فلا يعود هناك رابط بذلك الساجي.
انتفض على صوت غسق العالي واضح أنها تحادثه منذ مدة وهو غارق في أفكاره:
- آدم، أين شردت؟ أسالك هل انتهيت؟ هل وصلت للمصدر؟ ومسحت تسجيل سراج، كما وجدت عدة تسجيلات لمروان مع سيدات متزوجات طلب مني إياد أن أرسلها له وقد فعلت، ماذا حدث معك؟
ظل ينظر لها لثواني ثم أجابها بصوت حاول أن يجعله عادي بعيدًا عن تفكيره بالعائلة التي سيكونان عليها:
- قمت بمسح معظم التسجيل من مواقع التواصل، وأضفت فيروس للبقية في حال فتحها حتى لا يستطيعون مشاهدته أو تحميله على أجهزتهم.
بابتسامته أذابت المتبقي من قلبه:
- رائع، إذًا انتهى عملنا أخيرًا، يجب أن أذهب الآن لقد تعبت كثيرًا كما أني جائعة جدًا
أغلقت جهازها اللوحي ووضعته في حقيبته، وهمت بالمغادرة عندما أوقفها قائلًا:
- أنا أيضًا جائع، أعرف مطعم يقدم شطائر لحم شهية، هيا بنا لنذهب بسيارتي.
لم يعطيها الفرصة لترفض، قرر ونفذ، وهي كانت متعبة وجائعة فعلًا، لا داعي للمكابرة إذن.
المكان لم يكن بعيدًا عن شقة عمل آدم حيث كانا ينهيان المهمة، كما أن الطعام شهي جدًا أو ربما هي جائعة! وصحبة آدم لطالما كانت ممتعة، فهو لا يكف عن إضحاكها بقصصه عن مقالبه أيام الدراسة وحتى العمل، تعترف أنه مرح جدًا، كان دائمًا قادر على تغيير مزاجها منذ أن عرفته وهو لا يكف عن محاولة جعلها سعيدة، حتى عندما استنكرت طلبه أول مرة بالارتباط به، وقتها كانت متزوجة صوريًا من ساجي، لكنها اعتبرتها خيانة، نهرت آدم بشدة على محاولته التقرب بتلك الطريقة رغم معرفته بزواجها، نعم هو لم يتعدى يومًا حدوده معها، لكن نظراته تكفي، تلميحاته، لا تستطيع أن تلومه، تعرف أن لا سلطان على القلوب.
ها قد وصلنا إلى منزلك قبل منتصف اليل.
قالها بمرح، لتبتسم له دون تعليق، فتابع:
- غسق ألم تفكري في تغير شقتك إنها صغيرة جدًا خصوصًا بعد أن تنجبني، لن تجدي مكان لتضعي به مهد الطفل.
رغم أن السؤال فاجأها، فهذه أول مرة يتحدث فيها آدم عن طفلها لكنها أجابت بهدوء:
-عرض عليَّ عُمر أن اشتري منزل، لكني أجلت الموضوع حاليًا.
بابتسامة منتصر:
- إذن أنتَ قررتِ أن تقيمي هنا، ممتاز.
ركزت فيه وهي تعقد حاجبها، هذا هو الغرض من السؤال، معرفة إذا كانت ستظل هنا
أو تعود إلى الوطن وبالتالي إلى ساجي.
نزلت من السيارة دون أن تتفوه بكلمة حتى تحية وداع بسيطة، ليتبعها وهو يصرخ:
- انتظري قليلًا.
التفتت له، لتجده يحمل في يده نبتة صبار به زهرة بنفسجية، لا تذكر بأنها رأته يحضرها معه، متى؟ كيف؟ لقد تذكر طلبها وأحضره، رغم أنها عاملته بفظاظة متعمدة، رغمًا عنها دق قلبها بسعادة لتلك الهدية.
قالت بحرج واضح:
- متى أحضرتها وكيف عرفت أني أرغب في هذا النوع بالتحديد؟
اتسعت ابتسامته ليجيب في حب واضح من نظرة عينيه:
- أحضرتها منذ البارحة وضعتها في سيارتي، كنت أفكر كيف أمررها عليك منزلك؟ ولحسن الحظ أتيتِ معي.
ركز عينيه على خاصتها وهو يتابع:
- كنتِ تنظرين دائمًا إلى زهرة الصبار التي تضعها إيما مديرة مكتبي، عرفت وقتها أنكِ فعلًا تحبين زهرة الصبار ولم تكن جملة منك كي تتهربي من هديتي.
لم تعرف بما تجيبه، لن تنكر أن اهتمامه بما تحبه أرضى غرورها، شعرت بقليل من الذنب، لكنها نفضت تلك الأفكار من رأسها وابتسمت له مودعة.
انتهت من الروتين اليومي وجلست تتأمل شقتها الصغيرة، اكتشفت فجأة أنها تحبها، فهي المكان الوحيد الذي اعتبرته منزلها، منذ أن فقدت منزلها الأصلي بموت والديها، منزل المزرعة كان سجن وتعذيب نفسي لها، منذ أن وطئت قدميها ذلك المنزل وهي في دوامة لم تنتهي إلا بخروجها مطرودة، مكسورة القلب.
تذكر عندما دخلت منزل ساجي في العاصمة أول مرة، كم كانت سعيدة، استغربت كثيرًا تفصيل المنزل وأثاثه، فهو لا يتماشى مع ذوق ساجي أبدًا، لكنها لم تهتم كثيرًا، كانت ترسم أحلام لطريقة تغيير المنزل وجعله مناسب لذوقها وذوق ساجي، حتى صدمها بكلامه بأنه جهز المنزل لزوجته وأولاده!
كان يقصد روبين طبعًا، وقتها أحست بخنجر يمزق قلبها، ألم لا يزول، وما زاده أنه تركها تذهب في نفس اليوم دون اعتذار أو حتى إعطاء تفسير كاذب يحفظ كرامتها؛ ففكرت في الطلاق وتركه لأول مرة، لكنها بالطبع ضعفت بعد أن قام بالاعتذار منها بطريقة غير مباشرة، كم هي غبية، كيف رضيت بأن تكون مجرد بديل مؤقت، شيء يصبره حتى تعود حبيبته، كيف لم ترى الإشارات كلها، لم تصدق بأنه جهز منزل وفرشه لغيرها، رغم أن زوجة خالها أخبرتها بذلك مرارًا، لكنها فضلت أن تصدق قلبها الغبي، حتى رمت غريمتها الحقيقة في وجهها أمام الكل.
كم شعرت بالإهانة والدنو، تمنت أن تختفي من على وجه الأرض، تلومه أم تلوم نفسها على تسليمه قلبها دون شروط؟
وكزه من طفلها أخرجتها من حالة الحزن التي تملكتها، كأنها يخبرها بأن تدع الماضي، فالقادم حتمًا أفضل، ربتتّ على بطنها وأخذت تقص عليه ما جرى في يومها بكل حب، فقط وكزه أزاحت حزنها وأبدلته بعاطفة جياشة لم تجربها سابقًا.
*****
المسافة لم تكن طويلة بين العاصمة ومنزل المزرعة لكن وجود القطبين فرح وروبين معه جعله يشعر بأنه سافر إلى أقصى الكرة الأرضية.
لم تكف فرح عن رمي روبين بالكلمات اللاذعة والألقاب المضحكة، هو نفسه كتم ضحكته أكثر من مرة، لا يعرف من أين تأتي بتلك التشبيهات؟ طبعًا روبين لم تستطع مجاراتها فقط علقت على وزنها وهو شيء لا يضايق فرح أبدًا، ذلك جعلها تشيط غيظا، وتنفجر في بكاء حار مطالبة من ساجي أن يسكت فرح، طبعًا لم يفعل؛ فلا يريد أن يتدخل في شجار نسائي بأي طريقة، حمد ربه عند وصوله للمزرعة، نزلت روبين مسرعة إلى مُنى تشتكي فرح، وعند نزول فرح استوقفها ساجي، التفت لتقابله، لم يتحدث فورًا، هي لا تعرف في ماذا يفكر؟ فقد ظلت نظارته الشمسية على عينيه.
نظف حلقه وسألها بصوت صارم نوعًا ما:
- ماذا عنيتِ بأن آدم لا يترك غسق أبدًا؟ هل هما دائمًا معًا؟
عقدت ذراعيها ونظرت له في استفزاز:
- أنت طلقت غسق ما دخلك بها إذا كانت مع آدم أو غيره؟ ألست أنت مع رأس المقشة!
خلع نظارته في غضب واضح:
- فرح أنا لست روبي، لا تقومي باختبار صبري، حتى وإن طلقت غسق هي لازالت في فترة العدة، لا يجوز أن يقترب منها ذلك التافه بأي طريقه.
لم تتأثر على الإطلاق، فقد اتسعت ابتسامتها وبصوت أكثر استفزازًا أشعلت به النيران بقولها:
- ذلك التافه يعشقها منذ رآها أول مرة، لا يهمه ماضي والديها، لم يحاسبها على شيء، لم يبعدها عنه من أول يوم ورماها بعيدًا كأنها ستقوم بتلوِيثه، ذلك التافه لا يفوت يوم إلا ويسأل عنها ويفعل المستحيل لترضى عنه، يغرقها حب واهتمام لم تذقه من غيره، لو رأيت كيف ملأ منزلها زهور فقط لأنها أصبحت بخير، صدقني لا يوجد مقارنه بينه... نظرت له من أعلى إلى أسفل:
- وبينك.
تركته يحترق في مكانه ودخلت إلى المنزل.
شعر بدمه يغلي في عروقه، هل تكذب عليه لكي تغيظه؟ يعرف أسلوب فرح المستفز، لكنه يعرف أيضًا آدم و هيامه بغسق منذ زمن، نعم لازال يعشقها، رأى ذلك في عينيه بوضوح، لن يستغرب إذا مالت له غسق أخيرًا، ربما في السابق كانت متمسكة به لأن لديها أمل بأن يبادلها الحب، أما الآن بعد كل ما حدث وقيل؛ ففرصة آدم قوية جدًا.
دخلت فرح إلى جناحها، لم تجد سراج في البداية، غيرت ملابسها ثم جلست على أريكتها المفضلة، حاولت الاتصال بإياد لمعرفة آخر الاخبار، أخبرها بأنه تحدث مع غسق وهي لازالت تعمل، سألته عن سابين فتهرب منها وأغلق الخط بسرعة، تأففت، لا يريحها كون إياد يرغب في حماية سابين، لماذا يحميها؟ منذ متى يلعب دور الشهم؟
قلبت هاتفها تفكر بالاتصال بغسق، لابد أن الوقت مبكر عندها، لكن إياد أخبرها بأنها تعمل إذن هي ليست متفرغه لها الآن، حسنًا ستنام الآن فهي متعبة جدًا ولا تريد مواجهة سراج الآن.
*********
لا يعرف لماذا يتعاطف معها؟ هذا ليس طبعه، وهي ليست الملاك الذي يستحق الشفقة! تركها في الشقة وذهب كي يحضر الطعام، يحتاج إلى الخروج قليلًا، عاد مسرعًا رغم أنه قرر أن يقضي وقت أطول بالخارج، وجدها تجلس على الأريكة تضم ركبتيها، شاردة حتى لم تنتبه لدخوله، إلى أن اقترب منها، يخبرها بوصول الطعام، رفعت عينيها المحتقنه من كثرة البكاء دون أن تجيبه، سحب كرسي ليجلس عليه أمامها، نظر لها دون أن يتكلم في البداية ثم سحب هواء لصدره وأخرجه وبصوت ذو نبرة حادة نوعًا ما سألها:
- لماذا البكاء الآن؟ هل أنتِ حزينة على مروان أم على سراج؟
هزت رأسها بشدة في نفي:
لا لست نادمة عليهما.
ابتلعت ريقها لتكمل:
- أنا أصلًا لم أحب مروان يومًا في حياتي، ربما قررت في البداية أن ابني معه أسرة، لكن سرعان ما غيرت رأيي بعد أن كثرت خيانته لي واكتشفت بأنه لا يصلح أن يكون أب لأطفالي.
قاطعها بحدة وهو يضع ساقًا فوق الأخرى:
- فقررتِ أن تخونيه في المقابل!
صرخت بحدة بعد أن أنزلت قدميها:
- لم أخنه، لم أفكر في ذلك يومًا، نعم فكرت في سراج، فقد كنت معجبة به من كلام روبي، لكني لست خائنة، رغبت في الزواج من سراج وليس علاقة عابرة، أنا لم أقم في حياتي بعلاقات عابرة، تعلمت من ما حدث لي على يد صديقتي المقربة.
لم يستوعب كل ما قالته، فقط كانت تصرخ وهناك بعض الجمل التي قالتها بالفرنسية التي لا يتقنها، كل ما فهمه بأنه تريد الزواج من سراج، وذلك جعل الدماء تغلي بداخله، ليس لأنه زوج شقيقته، بل لسبب آخر لا يريد أن يفسره.
تظاهر باللامبالاة وهو يتجه ناحيه المطبخ:
- تعالي ساعديني لنصنع الطعام أنا جائع.
عقدت حاجبيها في غير تصديق، هل يملك زر يغير به مزاجه، ألم يكن غاضب ويتهمها بالخيانة منذ قليل، قامت تلحق به دون أن تحاول فهمه.
بعد فترة كان إياد يقوم بتنظيف الصحون ووضعها في غسالة الصحون، وسابين انتهت من ترتيب الطاولة كما كانت، حاولت مساعدته في المطبخ لكنه لاحظ أن مهارتها في التنظيف أسوأ من مهارة غسق في الطبخ، فتولى هو المهمة، كما كان يفعل مع ساجي أيام دراستهما بالخارج، من يصدق أن اثنان من أهم رجال الأعمال أحدهما يطبخ لزوجته والآخر ينظف المطبخ لعشيقة زوج شقيقته؛ لم يرق له ذلك الوصف على سابين، رغم الحقًائق لا يستطيع أن يراها خائنه أو مذنبة، هو حتى لا يضعها في خانة واحده مع روبين.
- تشرب شاي معي أم تفضل قهوة؟
انتفض على صوتها الرقيق وهي تقف على مسافة منه كأنها تخشى قربه.
أجابها في هدوء:
- شاي أخضر إذا أمكن.
سارعت بتحضيره وبعد قليل كانا في الشرفة كل منهما ممسك بكوبه ولا ينظر إلى الآخر.
قرر أن يكسر الصمت بينهما:
- ألم يتصل بكِ أحد من أفراد أسرتك؟
بنفس هدوءه:
- لا لم يفعلوا، أنا قمت بإرسال رسالة إلى أبي أخبره عن تغيبي عن العمل لأني متعبة فقط.
ارتفع حاجبه في دهشة ظهرت جلية في صوته:
- ألم يعرفوا ماذا حدث لكِ؟ كيف لم يأتِ أحد للاطمئنان عليكِ؟!
بابتسامة ساخرة:
- المهم عند عائلتي أن لا تلوث سمعتهم، وما حدث لي يعتبر عقاب لأني لم أحافظ عليها.
رأت الصدمة والاستنكار في عينيه، لتتابع موضحة، عائلتي ليست سيئة كما تظن، هم فقط لديهم أولويات، من ضمنها المحافظة على اسمنا وسمعتنا نظيفة، صدقني أعرف بأن أبي يحبني كثيرًا، تعرف هو لم يتزوج بعد موت أمي، بل ظل على ذكراها، وحتى لا يجلب لي زوجة أب تسيء معاملتي، ما يفعله الآن هو عقاب لي وأنا أستحقه هذه المرة.
سأل بتوجس:
- هذه المرة؟
لم تجبه، لا تريد أن تذكر ما حدث سابقًا وجعلها تصل لما وصلت إليه الآن، لن ترمي أخطائها على والدها، هي راشدة عاقلة، وسوف تدفع ثمن أخطائها، أولًا يجب أن تكفر عنها، لقد استمعت لإحدى الواعظات على القنوات التلفزيونية، وقررت أن تتطهر من ما فعلته، ربما وقتها تستطيع أن تكمل حياتها بطريقة صحيحة.
نهضت بعد أن وضعت كوب الشاي الذي فرغت منه: تصبح على خير إياد.
تركته دون أن تجيب عن أسئلته، وظل هو يفكر في ما قالته وما حدث دون أن يبارح مكانه.
********
منذ مجادلته مع فرح وهو يحبس نفسه في الغرفة، لم يستطع أن يخرج كلامها من رأسه، حاول أن يستخدم طريقة الاسترخاء في حوض الاستحمام لكنها لم تنجح، يبدو أن السر في غسق وليس في الطريقة؛ فمنذ أن بدأ تلك الطريقة معها وهي الوحيدة التي تزيل أي توتر يصيبه، تساعده في حل معظم مشاكل العمل، يعترف عندما فعلها أول مرة كانت نيته ليست سليمة، زوجة نائمة في حمام من الرغوة منظر مغري لأي رجل، كل الرغبة تبخرت عندما وضع رأسه على صدرها وقامت هي بتدليكه، يذكره أنه نام في مكانة من شدة الاسترخاء، وتوالت المرات على نفس الموال، هو يسترخي وهي تقوم بإخراج ما به من تعب، تجبره بطريقة سحرية على الحديث عما يضايقه أو يشغل تفكيره، ماهره في استخراج الحديث منه بطريقة سلسلة جدًا، قص عليها أشياء لا يعلمها عنه أحد، أسرار كان نسِيَ أنه يدفنها، رحلته بعد الخروج من عباءة جده وتنقله عبر الدول لينال أفضل دراسة بأقل سعر ممكن، مغامراته مع إياد، اضطراره للعودة وتولي أمور العائلة، حتى عشقة للخيول الذي تخلى عنه، لكنه لم يخبرها السبب؛ لم تكن تلح عليه عندما يرفض أن يخوض في موضوع معين، فقط تغير الموضوع إلى شيء آخر، كم هي بارعه كان يجب أن تعمل مع الشرطة لسحب المعلومات من المجرمين.
ابتسم وهو يفكر فيها كمحققة في الشرطة؛ نعم هي تجيد الاصغاء والمشاركة في حل معظم مشاكل العمل منذ أن كانت لازالت تدرس في العاصمة، ربما لا يستطيع أن يجزم بحبه لها أو لا، لكنها حتمًا شريكته، رفيقته، قد تكون أهم امرأة دخلت حياته منذ كانت في السادسة عشر.
******
كانت تظن بأنها من ستعاقبه، لكن هو من ابتعد عنها ولم يحاول حتى أن يتحدث معها، مرت الأيام بل الاسابيع، استطاع آدم وغسق الانتهاء من مشكلة الفيديو كأنه لم يكن له وجود من الأساس، مع بعض الأخبار الأخرى التي غطت عليه؛ كما نالت سابين الطلاق دون أي خسائر بفضل ما وجدته غسق لدى مروان وقام إياد بمساومته إما الطلاق أو يعطي التسجيلات لأزواج النساء وهم قادرون على أخذ حقهم بنفسهم.
أما سراج فقد ذبل، ابتعد عنها، يغيظها ذلك لماذا؟ أليس من المفروض أن تعاقبه هي، تنبذه، يعتذر لها وترفض ذلك، بل تطالب بحريتها ماذا يحدث هنا؟ كيف انقلبت الأدوار فجأة؟
بنبرة منفعلة:
- لا أصدق ما يفعله بي، يقضي طول النهار في المزرعة وعندما يعود ليلًا ينام في الصالة، كأنه هو الضحية، يا إلهي أكاد أنفجر من الغيظ.
في محاولة لتهدئتها فهي تتصل بها كل يوم لتخبرها نفس الكلام تقريبًا:
- اهدئي قليلًا، ربما يشعر بالخجل منك، تعرفين سراج، لم يفعلها وهو مراهق، بالطبع لن يجادلك، لماذا لا تتحدثي معه أنتِ؟
صرخت بها:
- أنا هل جننتِ؟ هذا ما كان ينقص لماذا لا أعتذر منه بالمرة، لا أصدق أنكِ في صفه؟ أنتِ التي ذقتِ طعم الخيانة جيدًا وعشتِ ما أعانيه!
أغلقت غسق عينيها تحاول أن تبتلع الألم الذي أصابها من كلمات فرح، لعقت شفتيها ونظفت حلقها، وبهدوء أجابتها:
- معكِ حق أنا أعرف وأعاني، الفرق أن سراج يحبك وأنتِ متأكدة من ذلك، استطاع أن يتوقف في الوقت المناسب، رغم أني لا أغفر له فعلته، لكني أعرف ومتأكدة بأنه نادم، لذلك أطالبك بأن تعطيه فرصة أخرى.
تابعت بغصة كي لا تعيد عليها فرح نفس الجمل مرة أخرى، فقد كررتها كثيرًا مؤخرًا:
- أما أنا وضعي مختلف ساجي لم يحبني يومًا ولم يقدرني أو يعتبرني زوجة، عندما واجهته بخطبته في حفل الشركة ماذا فعل؟ هل تذكرين؟ أنا أذكر جيدًا قام بتكذيبي أمام الجميع، وقال بأن روبين هي خطيبته والوحيدة التي ستحمل اسم حرم ساجي القاسم. رغمًا عنها تحشرج صوتها بشدة ونزلت الدموع تغرق وجهها.
- أعرف جيدًا معنى أن يُغدر بكِ، ما حدث لكِ هفوة، لا تضيعي من يديكِ رجلًا يحبك مثل سراج يا فرح.
شعرت فرح بتأنيب الضمير فهي ترمي الكلام دون أن تقدر مشاعر صديقتها وأختها الروحية، فعلًا غسق لم تشتكي يومًا مما حدث لها، رغم أنه يفوق خيانة سراج
-هذا إن أسمتها كذلك- مئات المرات، يا إلهي كيف لم تراعي وضعها، كم هي أنانية؛ في محاوله منها لتغيير الموضوع، فقالت بمرح مصطنع:
- أتعرفين؟ قليلة الأخلاق تقيم في أحد منازل إياد! يخفيها عني حتى لا أنتف شعرها شعرة شعرة.
ارتفع أحد حاجبي غسق متسائلة:
- قليلة الأخلاق؟
مطت شفتيها:
-أقصد صديقة المقشة.
- فرح من تعنين من مقشة؟ ومن قليلة الأخلاق تلك؟
- سابين طبعًا عن من تعتقدين أني أتحدث؟
انفجرت غسق في الضحك، حتى تبدلت دموعها من حزن على نفسها إلى دموع ضحك
حاولت أن تمسك ضحكاتها وهي تهتف:
- يا إلهي فرح لن تكفي عن أسلوبك ذلك أبدًا، أعتقد أن إياد محق، يجب أن تختفي قليلًا، فضيحتها أسوأ من سراج، تعرفين الوضع الراجل لن يلام كثيرًا، أما المرأة يجب أن يقام عليها الحد.
بسخرية واضحة:
- من يسمعك يقول أنها بريئة عفيفة، وليست هي من راودته عن نفسه؟
أجابتها بدهشة مستنكرة:
- راودته عن نفسه؟! نتحدث عن سراج وليس سيدنا يوسف عليه السلام، ثم أنا لم أقل بريئة، كلاهما أخطأ لكنها ستحمل ثمن الخطأ أكثر منه، أنتِ وأنا نعرف ذلك جيدًا.
لم تفقد نبرتها الساخرة:
- تدافعين عنها! ماذا ينقص الآن! آه عرفت أنتِ تدافعين عن من سرقت منك زوجك وجعلتك تهاجرين من جديد، للهروب من ألمك الذي تنكرينه.
للمرة الثانية توجعها بدون أن تلاحظ، ربما هذه المرة أسوأ من السابق، حسنًا رصيد فرح يسمح لها بذلك، لن تقلب عليها الوضع الآن.
رغم محاولتها إلا أن صوتها خرج مهتزًا:
- أولًا، أنا لا أدافع عن سابين، أنا أشرح الوضع فقط، ثانيًا، روبين لم تسرق أحد، هو ليس شيء ليسرق، هو من قرر أن يتزوجها بكامل قواه العقلية، لن أدعي العكس، ثم أنا سافرت لأنه ليس لدي مكان عندكِ، زوجة خالي محقة، منزل المزرعة ليس منزلي، ربما لو امتلكت مكان آخر لبقيت فيه أفضل، أما عن حملي فهذا موضوع خاص لا أستطيع الخوض به الآن.
سكتت قليلًا تهدئ من أنفاسها المتسارعة:
- فرح حاولي حل مشكلتك مع سراج هو يحبك وأنتِ كذلك، لا تضيعيه من يديك، أنا
لديَّ موعد يجب أن أذهب إلى اللقاء.
أغلقت دون أن تسمع إجابة من فرح، ذلك جعلها تغتاظ أكثر وقررت حسم الأمر مع سراج الليلة.
*****
دخلت عليه بل بمعنى أدق اقتحمت مكتبه، دون حتى أن تستأذن، رفع رأسه عن ما كان يعمله، رفع عينيه لتلتقي بخاصتها اللتان اشتعلتا غضبًا، كما هو ظاهر على وجهها،
بعثرت الأوراق التي أمامه وهي تهتف في غضب:
- هل لك أن تخبرني ما هذه المهزلة بالضبط؟
لم يواجه عيناها! فقد أراح ظهره على الكرسي وهو يلعب بقلم الحبر بيده وأجاب ببرود: - أي مهزلة تقصدين؟ أنتِ لازلتِ على ذمتي!
لا تختبر صبري ساجي، هل رأيت المقال الذي نشر على أكثر من صفحة الكترونيه نقلًا عن مجله متخصصة في الاقتصاد؟ لقد أرسلته لك، يجب أن ترفع قضية على الموقع، من أين أتوا بتلك السخافات؟
رفع حاجبه في براءة مصطنعة:
- قرأته! حقًا، جيد بأنكِ قررتِ أن تزيدي من ثقافتك.
ضربت بيدها بقوة على سطح المكتب وقد نفذ صبرها:
- ساجي لا تقم باستفزازي، مكتوب في المقال بأن غسق تملك أصول شركة الالكترونيات كلها بيعًا وشراء، من أين لها بالمال اللازم لذلك؟ هي حتى لم تأخذ ميراثها من والدها وطبعًا ليس لها ميراث من جدك! كما أنها باعت أسهم من الشركة تساوي أكثر من خمسة عشر في المئة، كيف وهي حتى ليست موظفة بعقد؟ منذ متى تملك أسهم فيها؟ أنا متأكدة بأنها لا تملك فيها شيء!
لم يفقد وجهه جموده:
- كنت أظن أنكِ غاضبة لأنه لم يذكركِ وذكر غسق فقط وفترة زواجي منها!
تراجعت وقد فقدت القليل من حدتها، فقد أصابها في مقتل، حاولت أن تبدو مقنعة وهي تجيب:
- تلك شكليات، كما أن المقال ذكر بأنك طلقتها بسبب دخول امرأة أخرى في حياتك وهي أنا، لذلك لم أهتم.
- اهتممتِ فقط بما تملكه غسق، ومن أين لها ذلك؟ حسنًا، ربما أخذته في تسويه الطلاق.
- أتريد التسبب في فقداني لعقلي؟ أي تسوية تلك؟ هي ليس لها مؤخر من الأساس وكما أنكما لم تتزوجا في السفارة ليكون لها تسوية، أصلًا زواجكما غير مقيد، إذن هي حتى لن ترثك في حال لا زالت على ذمتك.
ارتفع حاجبه في صدمة حقيقية:
- ترثني؟!
وقع قلبها بين قدميها! هل باحت بالكثير، اقتربت منه تضم رأسه لصدرها:
- بعد عُمرٍ طويل حبيبي، تعرف ما أقصد.
أبعدها عنها دون أن يعلق عليها بحرف.
جلست على حافة المكتب مقابلة له ويدها تعبث في ربطة عنقه:
- حبيبي ساجي أرجوك لا تغضب مني، فقد انفعلت، من الواضح أن أحدهم يلعب من وراء ظهرك، ليثبت أنك لست المالك لشركات القاسم، وأن لك شركاء آخرون.
- ومن أخبرك بأني المالك الوحيد؟
هزت رأسها في حركة تأكيد:
- أعرف أنك تملك الحصة الأكبر.
عاد إلى عمله متجاهلًا وجودها وهو يجيب ببساطة:
- معلوماتك خاطئة، أو قديمة بالأحرى.
انقبض قلبها وشحب لون وجهها:
- ماذا تعني ساجي؟
لم يجب فورًا بل تركها تتخبط في أفكارها أولًا:
- اذهبي لزيارة والدك، فأنتِ لم ترِيه منذ فترة طويلة.
فهمت بأنه يطردها من مكتبه، فخرجت بعد أن أكدت على كلامه بأنها ستذهب لزيارة والدها، بمجرد خروجها من المكتب رفعت هاتفها لتطلب شريكها، وتبلغه بالأخبار الأخيرة، إذا كانت صحيحة فعلًا فتلك كارثة بكل المقاييس!
**********
قررت أن تنفذ كلام غسق وتواجهه، انتظرته حتى عاد، لم تدعي النوم بل جلست في الصالة، عندما دخل جفل من رؤيتها تجلس في الظلام فقط ضوء التلفاز.
- ماذا بك هل رأيت عفريت؟
كانت هذه أول كلمة توجهها له منذ أسابيع وربما شهر كامل، لم يجبها، فقد أنار الضوء ليملي عينيه بالنظر لها، كم يشتاق لها؟!
حاول أن يبعد عينيه عنها ولم يستطع فخرجت كلماته مهتزة رغما عنه:
- فرح، أعتذر، لم أقصد، فقط لم أتوقع وجودك هنا في هذه الساعة المتأخرة.
عقدت ذراعيها لتجيب في غضب مستتر:
- جيد أنك تعرف كم هي الساعة الآن، ظننت أنك فقدت القدرة على الإحساس بالوقت.
اقترب منها يود ضمها إليه، وتبعده الخطيئة، أصبح بينهما جدار بناه هو بسبب شعوره بالذنب، وهي ببعدها المتعمد عنه.
تنهد وهو يجيبها:
- معكِ حق، أنا فقط أعرف بعدم رغبتك في رؤيتي، ففضلت أن أقضي وقتي خارج البيت.
رفعت حاجبها:
- وهكذا تحل المشكلة بأن تغيب عن نظري، كي لا أتذكر ما فعلته بدلًا من مواجهة
خطئك
جلس على أقرب كرسي، خلل شعره من أول رأسه إلى آخره، لعله ينفض عنه همومه.
- لا أعرف ماذا أفعل فرح؟ كيف أكفر عن ذنبي؟ أعرف أني أخطأت، لكنها جرتني لذلك..
قاطعته وهي تستعيد مكالمتها مع غسق:
- لا تدعي البراءة سراج، أنت من ذهبت إلى منزلها وقبلها سمحت لها بالتجاوز معك، لا تلقي باللوم عليه، في النهاية هي من دفعت الثمن وشهر بها وأنت لم يمسسك شيء، لا استغرب ذلك منك، ولا منكم عمومًا، فقد نفيتم عمتكم وحكمتم عليها بالموت وهي حية، بل حملتم ابنتها الذنب، ولم تفعلوا ذلك مع قريب والدتك فقط لأنه رجل.
صدم من كلامها، هل حقًا تراه ظالمًا مثل جده؟ بل هل هو فعلًا ظالم؟ يحمل سابين انزلاقه معها، نعم هو ذهب بكامل إرادته رغم معرفته بنواياها، لماذا يكذب ويدعي بأنه كان مغيب؟
بصوت هادئ بدرجة أرعبتها:
- معكِ حق فرح، سابين هي من دفعت الثمن لوحدها، يجب أن اعيد لها كرامتها بأسرع وقت ممكن.
انتفض قلبها بين ضلوعها:
- ماذا تعني؟ كيف ستعيد لها كرامتها؟
ظل ينظر إليها مطولًا قبل أن يقترب منها ويميل على خدها الناعم، كم اشتاق إلى تقبيل وجهها بكامله والذوبان معها، لا يصدق بأنه ابتعد عنها كل تلك المدة، لكنه أصبح ملوث وهي نقية، فرخته الصغيرة التي دخلت إلى منزلهم وإلى قلبه مباشرًة ولم تدع مكان لغيرها، لا يستطِع تلويثها الآن، يجب أن يظهر نفسه ويصلح غلطته أولًا، اقترب يرغب في تقبليها بقوة لكنه توقف قبل أن يفعل، تركها واقفة في مكانها ليستدير ويخرج من الجناح بل من المنزل بأكمله دون أن ينطق بحرف، فقد عرف ما عليه فعله، المشكلة أن المقدم عليه قد يكلفه حياته مع فرح، أخرج هاتفه وطلب رقمًا عند إجابته له:
اسمعني جيدًا، كم بقى على عدة سابين، أريد أن أعرف لأني قررت أن أتزوجها بعد انتهاء عدتها فورًا.******
يتبع