الفصل الثاني والخمسون
بخطوات متثاقلة توجهت سارة برفقتها عُمر إلى داخل المبنى، استقلت المصعد دون أن تضغط على الزر لينظر لها الرجل بالداخل باستغراب؛ فأخبره عُمر عن رقم الطابق المطلوب، عند وصولها للطابق استدارت لعُمر تهمس في خوف:
-عُمر لا أستطِيع فعلها، لا تجبرني أرجوك، ثم ماذا لو لم تكن هي، أنا متأكدة أنه خطأ لا يمكن أن تكون هي.
ربت على يدها بحنان وقادها باتجاه الممر؛ حيث وجد أحد المحققين ربما أو ربما طيب لا يعلم بالضبط، فهيئته عادية لا يميزه سوى البطاقة المعلقة في رقبته والتي لم يقدر على قراءتها بوضوح.
مد الرجل يديه يصافح عُمر وسارة في رسمية قبل أن يقول:
- سيدة سارة تفضلي كي تتعرفِي على الجثة من فضلك.
تشبثت في ذراع عُمر كما يتشبث الغريق بقشة وهي تحرك رأسها في نفي واضح:
- لا،لا، لا، عُمر يجب أن يدخل معي، لن أجرؤ على الدخول لوحدي.
ربت عُمر على يديها في حنان، دون أن يزيح عينيه عنها قال للرجل المرافق لهما:
- يمكنني التعرف على الجثة بدل زوجتي؛ لقد سبق وتعاملت مع السيدة مودة وأستطِيع تمييز شكلها بوضوح.
إيماءة صغيرة من رأس الرجل، جعلت عُمر يتنفس الصعداء؛ فأجلس سارة على الكرسي الموازي لباب المشرحة ليدخل هو مع الرجل.
رغم قوة عُمر وقدرته على التحمل؛ فقد هيئ نفسه منذ مرض سارة على مواجهة الأصعب حتى موت سارة بين ذراعيه؛ إلا أن الموقف الذي وضع فيه كان فوق أي قوة احتمال يملكها، لقد تعرف على جثة مودة، للأسف كانت هي رغم كل الشكوك التي راودته حول حقيقة شخصيتها عندما وردهم ذاك الاتصال الذي طالب من سارة التوجه إلى المشرحة كي تتعرف عليها.استغرق بضعة دقائق قبل أن يقدر على لم شتات نفسه والخروج لسارة؛ التي لم تحتاج لكلمة منه كي تتأكد من حقيقة أن الجثة خاصة بمودة!
انهارت في بكاء عالي الصوت لدرجة جعلتهم يطلبون لها مهدئ كي تكف عن النواح.
قام عُمر بإنهاء إجراءات نقل الجثمان للوطن بعد أن اتصل بأبنائها الذين كانوا مع
والدهم!
ليسافروا للوطن كي يدفنوا مودة هناك بناءً على رغبتها، حيث أنها تركت رسالة لسارة
وأخرى لأبنائها؛ طلبت منهم أن يتم دفنها في بلدها بجوار والدها.
أما رسالة سارة فكانت سببًا لعذابها فهي لم تنم بعد قراءتها لعدة أيام متتالية حتى انتفخت عينيها من كثرة البكاء وظهرت الهالات السوداء أسفلها بوضوح؛ وما زاد الامر سوءً هو أن طبيبها كان في مؤتمر خارج المدينة، ولم يعد الطبيب إلا بعد أسبوع من حادثة مودة؛ على الفور أخذ عُمر سارة له فحالتها النفسية لم تكن تسمح لها بأن تذهب بمفردها لها.
استقبلها الطبيب فقد أرسل له عُمر الكثير من الرسائل عن حالتها ولمعرفته الشخصية بقصة مودة، توقع الأسوأ وخاف عليها أن تواجهه نفس المصير!
جلست على كرسيها المعتاد وفي يدها رسالة مودة التي قرأتها كثيرًا حتى لم تعد تعرف عدد المرات وبكت عليها حتى مُسحت بعض الحروف بفعل دموعها.
يعرف بأنها لن تتكلم فشرع هو في الحديث أولًا:
- ما فعلته مودة متوقع، حالتها كانت متأخرة جدًا، كما أنها لم تتلقى العلاج الصحيح.
لم ترد سارة أو حتى يظهر عليها التأثر بكلامه،
- ليتابع وهو يضع ساقًا فوق الأخرى ويعيد ظهره للخلف مسلطًا نظره عليها ليقرأ ما بداخلها:
- لا يمكنكِ لوم نفسك على ما أقدمت هي على فعله.
رفعت عينيها الذابلتين لتقول بصوت مملوء بالحسرة:
- كيف يمكنك قول ذلك؟ مودة كانت تتعاطى أدوية مضادة للاكتئاب بانتظام، كما أنها بدأت بالفعل بناء حياتها من جديد بعد أن تابعت مع طبيبة نفسية قبل أن..
لم تكمل جملتها فقد غلبتها شهقات البكاء لتدخل في نوبة بكاء جديدة.
تركها الطبيب قليلًا قبل أن يعطيها علبة المناديل لتمسح دموعها ثم يعود لنفس جلسته السابقة:
- أولًا كما فهمت منها قبل أن تنتقل وما فهمت منكِ شخصيًا؛ أن مودة كانت تكره فكرة بقائها هنا! ورغم ذلك لم تحاول العودة لبلدها، كما أنها لم تقدر على التواصل بشكل صحيح مع أبنائها؛ بسبب أنها لم تخبرهم بما فعله والدهم بها!
ربما هي محقه نوعًا ما في تلك الخطوة؛ فلا داعي أن يكرهوا والدهم خصوصًا وأنه لم يقم بأذيتهم ؛ لكنها لم تقدم لهم عذر بديل عن رحيلها و تغير حياتهم بالكامل، لذلك كان من المتوقع أن يعودوا للتواصل مع والدهم من جديد.
كانت تنظر له وهي تحاول استيعاب كل ما يقوله دون أي اعتراض.
تنهد قبل أن يكمل في أسف واضح:
- كما أنه وللأسف بعض أدوية الاكتئاب لها آثار جانبيه؛ في العادة لا تكون خطيرة لكن في حالة مثل حالة مودة تكون قاتلة.
شعرت بقلبها ينتفض لتسأل بصوت خفيض:
- ماذا تعني؟ ماهي هذه الأعراض التي تتحدث عنها؟
ازدرد ريقه ليحافظ على هدوءه:
- هذه الآثار تحدث بنسبة قليلة جدًا؛ أعتقد مع حالة صديقتك وفقدانها أولادها مع خوفها من أن زوجها سوف يعيدها له بالقوة؛ جعلت نسبة حدوثها أكثر من غيرها.
بنظرات متسائلة ومن دون أن تحتاج لتنطق، ليتنهد في أسف وهو يقول:
- بعض الآثار الجانبية هي الرغبة في الانتحار!
اتسعت عينيها بشدة وارتفع حاجبيها فزعًا وانفرجت شفتيها، كما اكتسى وجهها بلون أصفر شاحب لتظهر عليها علامات الاندهاش والصدمة والاستنكار معًا!
تركها تستوعب ما حدث لعدة ثواني ليقول في محاولة للشرح أكثر:
- جميع الأدوية لديها آثار جانبيه؛ ربما طبيبتها لم تستشعر تلك الرغبة الخطيرة بها، ربما بسب الضغط زادت حِدة الآثار، لا أعرف في الواقع ولا أستطِيع حتى التأكد من السبب الذي جعلها تقدم على تلك الخطوة؛ أنا فقط أحاول التفكير معكِ بصوت عالي.
ما أريدكِ أن تفهميه أن لا دخل لكِ في قرارها، لم يكن ليتغير شيء آخر بتدخلك من عدمه؛ فهي من كانت تعاني لسنوات وللأسف نهايتها كانت متوقعه.
رغم الضجيج بداخلها وصرخات النفي عالية الصوت؛ خرج صوتها منخفض وهي تقول بين دموعها:
- لا ليس صحيح؛ لو عادت للوطن لوجدت الدعم من أهلها، وما كانت لتنهي حياتها بهذه الطريقة؛ متأكدة من وقوف إخوتها بجانبها لو عرفوا ماذا فعل زوجها بها! كما فعل إخوتي معي.
اتبع نفس الأسلوب الهادئ:
- لا يمكنكِ المراهنة على ذلك، عودتها لوطنها مرهونة بقبول إخوتها لها والوقوف بجانبها وهو أمر ليس مضمونًا تمامًا، بل هو أشبه بالمستحيل؛ لا تقارني حالتكِ بها السبب الأول لوقوف أخويكِ معكِ هو ما فعله خالك بأولادهما! كما أنهما لم يكونا على علم بما حدث لكِ في طفولتكِ إلا وأنتِ كبيرة عكس مودة التي عرفوا بما حدث لها ورغم ذلك وقفوا ضدها.
ظهر الاستنكار على ملامحها؛ ليسارع مصححًا ما قاله:
- لا أعني بذلك أن أشكك في نوايا شقيقيكِ أنا فقط أضعك أمام الحقائق.
زاد غضبها مع إحساسها بأنه محق فيما قال لتهتف بغضب وبصوت عالي:
- سأقوم بالتبليغ عن زوجها.
عقد حاجبيه ليقول بحذر:
- لقد انتحرت وهي في المنزل بمفردها؛ بأي تهمة ستقومين بالإبلاغ عنه؟
رغم غضبها إلا أن صوتها خرج مضطربًا:
- هو من تسبب في انتحارها! سوف أبلغ عن ما فعله بها سابقًا وشهادة الطبيبة النفسية قادرة على إثبات صحة كلامي؛ لا بد أن يتحمل الذنب.
تطلع بها لعدة ثواني قبل أن يقول:
- إثبات الاغتصاب الزوجي هو أمر صعب للغاية، أقل من ربع الحالات هو ما يصل للمحكمة ويتم بث القضاء فيه؛ ويجب أن تكون الحالة موثقة بتقرير طبيب أو فيديو مسجل أو شاهد وهذا أمر شبه مستحيل طبعًا؛ لأن معظم الحالات لا يتم فيها العنف الشديد الذي يؤثر جسديًا على الضحية، بل يكون الأمر عنف نفسي، وهو ما يصعب إثباته.
نزلت دموعها فتركها تخرج ما بداخلها قبل أن يكمل:
- آسف لو كان كلامي أحبطكِ، لكنه الواقع يجب أن تعرفي أن هذه المسالة من الصعب إثباتها خصوصًا بموت الضحية؛ كما أن شهادة الطبية النفسية لما جرى في الجلسات أيضًا ليست بالأمر السهل بل هو صعب جدًا، يحتاج لسبب قوي وليس اتهام من دون دليل من صديقة الضحية.
مسحت دموعها لتقول في محاولة بائسة لتجد من يتحمل ذنب صديقتها:
- كيف تقول ذلك ونحن في دولة من الدول التي تحترم النساء وتجلب لهن حقوقهن؟!
ماذا تركتم لدول العالم الآخر إذن.
أنزل ساقه وقد ظهر التأثر في صوته:
- المسألة لا علاقة لها بدولة قانون أو لا، المسألة لها علاقه بالتربية وثقافة مجتمع!
كم شخصًا يصدق بأن رجل يغتصب زوجته، التي تزوجته برغبتها!
كم شخصًا يصدق أصلًا أن هناك اغتصاب؟ تعرفين أن نسبة كبيرة من النساء اللواتِ يتعرضن لاغتصاب لا يقمن بالتبليغ خوفًا من أن أحدًا لن يصدقهن!
وهو ما يحدث للأسف؛ لأنه لا يوجد آثار ضرب كثيرة أو عنف توحي بذلك، ناهيكِ عن الحكم على المغتصبة من ملابسها أو المكان الذي كانت به أو حتى طريقة حياتها أو صورها على مواقع التواصل الاجتماعي صدقيني المسألة ليست عالم أول وثالث، المسألة صعبه جدًا بغض النظر عن قوة القوانين في هذه الجرائم.
المشكلة الكبرى في التربية؛ لقد تربت معظم الإناث على أنهن المسؤولات في حال حدوث هذا الانتهاك لهن ويجب عليهن أن يتحملن العاقبة لوحدهن، لدرجة جعلت الكثيرات يتقبلن العنف والأذى الموجه لهن دون اعتراض؛ والعكس للذكور حيث أنه من حقهم أن يفعلوا ما شاءوا بالمرأة خصوصًا وإذا كانت تخصه دون أن يشعر بأنه أخطأ، إذا أردت امرأة خذها عنوة وسوف تقع في غرامك فورًا، هذا هو الفكر السائد في الكثير من العقول رغم اختلاف الأماكن .
المسألة معقدة للغاية هذا بالإضافة لأن الكثير لا زال يعتبر المرأة مواطن من الدرجة الثالثة!