الفصل الحادي والخمسون
عند الخصام أو الحزن قد تتحجر مشاعر الصدمة أو يصاب الشخص بالتبلد المؤقت،
هذا ما حدث لغسق عندما أخبرها الرجل يوم مرض تيام بأن صاحب الهاتف قد انتحر!
هي حتى لم تستفسر من ساجي عن ما سمعته أو حتى تخبره ما سمعته يومها؛ بل تجاهلت الموضوع كأنه لم يكن.
لكن عند سماعها لكلمات خالها شعرت بخوف شديد يملكها بل شعرت بأن الأرض تهتز تحتها لدرجة جعلت يدها تتشبث بحافة الكرسي حتى غرست أظافرها القصيرة في قماش الكرسي لتترك أثرًا به.
لم تتجرأ وتسأل خالها عن هوية الميت، فقد وجدت لسانها يبتهل بالدعاء لله أن لا يكون الميت ساجي!
بقت يدها متصلبة على الهاتف دون أن تنطق بحرف حتى جاءها صوته ليبدد كل الخوف بداخلها:
- غسق لقد توفى جدي، أنهي أمورك هناك كلها لا داعي للعودة الآن، إلى اللقاء.
أغلق ساجي الخط دون أن يسمع جوابها.
أخذ الأمر منها بُرهة كي تتنفس الصعداء بعد تلك الصدمة، أخبرت الطبيبة عن الذي حدث واستأذنت منها لأنها لم تعد قادرة على متابعة الكلام.
خرجت منها واتصلت بسارة كي يتجها معًا لمنزل تالين.
******
بعد عدة محاولات استطاع نقش أول حرف في الورقة التي أمامه؛ رغم أنه فكر في كل حرف منذ مدة!
غسق
عزيزتي، صديقتي، أم زوجتي السابقة، لا أجد اللقب المناسب الذي يجب أن أطلقه عليكِ.
أعرف أني السبب في هذا، ولا أقدر أن ألوم غيري، كنتِ صديقتي ذات الروح الحلوة، التي لا أمل صحبتها، فحولتك من زهرة ذات عطر فواح إلى جذع مكسور.
لم أتخيل في يوم من الأيام أن أقدم على هذا الفعل؛ كنت مثل الذي تملكه مس شيطاني ليدمر كل ما أمامه دون استثناء، لم أفكر في يوم من الايام بأن أؤذيك حتى بكلمه،
أعترف بأني كنت انتقم من ساجي، أحاول كسره ورد كرامتي المزعومة،
اعترف بأني كنت أتعمد أذيتك كي أؤذيه هو لم أكن أفكر بكِ أو بما حدث لكِ، بل كنت أراه أمامي مكسورًا ذليلًا وأنا أقوم بانتهاككِ رغمًا عنه.
لا أطلب الصفح منكِ فأنا لم أصفح عن نفسي بعد ولا أعتقد بأني قادر على ذلك في الوقت القريب، أنا فقط في الحقيقة لا أعرف ما هو سبب كتابتي لهذا الخطاب كما أني غير واثق من قراءتكِ له، على الأغلب سوف تقومي بتمزيقه عند وصوله لكِ ولن ألومك عندها، في الواقع أتمنى أن تفعلِي ذلك، فما كتبته لا يبرر بشاعة أفعالي كما يظهر لك، هو فقط فضفضة غبية من صديق قديم تحول بسبب غبائه لعدو.
********
في كوخ خشبي وسط الغابة حيث يقضي أيهم وميلا شهر عسلهما؛ حيث حرصت ميلا على أن يكون الكوخ في مكان لا تصله تغطية الهاتف الخلوي، حتى لا تفسد عليهما فرح الاستمتاع بوقتهما بتدخلاتها التي لا تنتهي.
شعر بمطر ينزل على وجهه رغم أنه ينام بداخل الكوخ وليس خارجه!
قفز من سريره بفزع وهو يمسح وجهه من أثر الماء المتساقط عليه، ليجد ميلا ممسكة بوعاء ري الزهور لتوقظه!
بصوت غاضب رغم النعاس قال وهو يجري خلفها ليمسكها وهو يصرخ:
- ميلا تعالي هنا سوف أريك نتيجة أفعالك.
أمسكها بسرعة وقد رمت الإناء ولم تتوقف عن الضحك لتنتقل له عدوى الضحك.
لكنه لم ينسى ثأره فقد سحبها للحمام وفتح عليه ماء الدش يغرقها كما فعلت معه، لكنها سحبته معها للداخل ليغرق معها بالماء ويتحول الانتقام لشي آخر أكثر انتعاشًا ولذة.
بعد فترة ليست قصيرة جلست ميلا أمام المدفأة ملتفه بشال مصنوع من الصوف وقد تركت شعرها يجف لوحده؛،جلس أيهم بقربها ووضع في يدها كوب الشوكولاتة الساخن مع حبات المارشملو قبل أن يقول لها وهو ينفخ في كوبه كي يشرب منه:
- ماذا قررتِ أين سيكون منزلنا في العاصمة أم في الساحل عند الفنادق؟
لم تجيبه فورًا بل ارتشفت من كوبها في استمتاع أولًا ثم قالت:
- مكان إقامتنا هو مكان عملك بالطبع، رغم أني كنت أفضل أن أعيش بالقرب من عائلتك؛ لا أريد لأطفالنا بأن يعانوا مثلما عانيت أنا.
عقد حاجبيه وقال في استفسار:
- ماذا تعنين بمعانتك؟
ضمت يدها كأنها تحتضن نفسها وشردت في نار المدفأة التي أمامها:
- الجميع يظن أن أبي غير دينه من أجل أمي، في الواقع أبي لم يكن له دين محدد، بل كان هو وعائلته من الذين يتبعوا نظرية الطبيعة والإثبات وليس الإله؛ عندما تقابل مع أمي في مناقشه علمية بين أن الأرض خلقت أو تكونت بفعل عوامل طبيعية، أعجبه طريقة مناقشة أمي، فهي لم تكن متعصبة ولم تقم بإهانة الطرف الآخر لأنه ضدها، مما جعله يكمل حديثه معها بعد انتهاء المحاضرة، لم يستغرق الأمر كثيرًا حتى وقع أبي في حب أمي ودينها.
واعتنق الإسلام فعلًا لكنه ظل كما هو يجب أن يفهم كل شيء ويحلله ولا يأخذ برأي الاخرين إلا بعد اقتناع.
قاطعها أيهم باستغراب أكبر:
- وما المشكلة في ذلك؟ هذا طبيعي لشخص مثله لم ينشأ مسلمًا؛ كما أن أي شخص يفهم الدين يحبه أكثر، أي كان هذا الدين.
تغيرت نبرتها للحزن:
- القول سهل لكن الواقع غير، لقد تجنبه بعض المسلمين هناك لكثرة أسألته، والبعض اعتبره يفتح باب الفتنة والآخر قال كلام سيء عنه، وفي الأخير قررت أمي اعتزال معظم العرب هناك لانهم يؤذون أبي بكلامهم؛ وطبعًا عائلة أبي لم تكف عن فعل المثل لأمي حتى تجنبهم أبي بدوره، وأنا أصبحت بلا أقارب من الجهتين لذلك السبب حتى في المدرسة حرصت أن تكون صداقاتي سطحية حتى لا أقع في الأسئلة السخيفة حول علاقة أبي وأمي وكيف لعالم طبيعة ملحد أن يعتنق الإسلام.