الفصل الخامس والاربعين

487 27 4
                                    

الفصل الخامس والأربعون
رغم حرارة الجو إلا أنها ارتدت  ملابس رسيمة وجهزت نفسها كأنها ذاهبة لمقابلة عمل،  وهي فقط تنتظر ابن زوجها الراحل، وصل في الموعد المحدد ليدخل للمنزل الجديد عليه، فهو لم يقم بدخوله سوى مرات قليلة  تكاد لا تعد على أصابع اليد الواحدة.
توجه للحديقة الخلفية الصغيرة مقارنةً بحديقة منزل المزرعة، ليجد فريدة في انتظاره كما أخبرته الخادمة.
جلس أمامها بعد تحية سريعة دون أن يفقد ابتسامته المعهودة.
سكبت الشاهي في الفناجين و قدمته له بطريقتها الراقية  وهي تتبادل معه بعض الأحاديث عن أحوال الأعمال وأشقائه.
لم تفقد ابتسامتها وهي تسأل في ود:
- أيهم  تعرف بأني لم أعد صغيرة  لذلك قررت أن أوصيك أنت بالذات بشيء مهم يخصني قبل أن توافينِي المنية، أعرف بأنك لن تخذلنِي به.
تحفزت ملامحه لكنه قال بهدوء:
- أطال الله في عمرك، اطلبي ما تريدين وإذا كان في مقدورِي سوف أنفذه بالطبع.
اتسعت ابتسامتها، فهي تعرف بأن أيهم الاقرب لها كما أن بلال أوصاه عليها وهو فعل بوصية والده ولم يهملها أبدًا، وبقى على تواصل معها عكس إياد وفرح التي لا تطيق حتى النظر لها.
- أريد أن أدفن بجانب بلال، تعرف بأن والدي أقام مدفن خاص بعائلتي ومن المفترض أن أدفن فيه، لكني أريد أن أدفن في مدفن بلال.
وضع كوب الشاي من يديه دون أن تتغير ملامحه، لكن صوته اكتسى بالصرامة:
- تقصدين مدفن عائلة العلي، حيث دُفنت جدتي وأمي!
شحب وجهها ولم ترد عليه فقد هالها الجواب الذي لم تتوقعه.
- تعرفين بأني لم أكرهك يومًا أو أحملك ذنب زواجك من أبي وهو متزوج من أمي، بل إني وبحق أحترمك لأن ما حدث يخص أبي وأمي وهما من يقرران لا أنا؛ لكن طلبك للأسف لن أقدر على تنفيذه لك.
بصوت محشرج عالي نوعًا ما:
- لماذا لا تقدر؟ أنت الكبير بين إخوتك والمسؤول عن هذه الأمور، كما أني عشت سنوات طويلة مع بلال وهذا حقي، أريد أن أدفن بقربه.
قال مصححًا:
- بقرب أمي، أمي دفنت هناك أولًا لو تذكري وهو دفن بجانبها بناء على طلبه، رغم أني أشك بأن أمي كانت لتوافق على ذلك.
شعرت بأن الهواء يُسحب من رئتيها لدرجة أن جبينها ظهر به حبات عرق بارد كأنها على وشك الاغماء
تابع غير مبالي بحالتها:
- كما قلتِ أنتِ عشت سنوات طويلة مع أبي، ولم أعترض أو أحاول تنغيص حياتكما؛ لكني لن أسمح لكِ بأن تضايقِ أمي في قبرها، لا تكونِ جشعة! يكفيكِ ما نلته في حياتها، أما بعد الموت، اللقاء سيكون أمام الله ليحاسب كل شخص على ما فعله وما تسبب به من ألم للآخر.
بنبرة هجومية رغم ضعفها قالت:
- أنا لم أخطط يومًا لسرقة بلال من زوجته وأبنائه، بل إني حاولت كثيرًا معه بأن لا يهجرها ويبقى معها، حتى أنت وإياد وفرح أحببتكم كأنكم أولادي، ولم أقم بتحريض والدكم عليكم أبدًا.
- سيدة فريدة!
بصوت حازم جاء رده الذي جعلها ترتعش مكانها.
- صدقي ما تريدين وكما قلت سابقًا أنا لم ولن أحاسبك على زواجك من أبي، لكني لن أسمح بأذية أمي حتى بعد وفاتها، المقابر هي لعائلة العلي وأنتِ لست منها.
****
استيقظت بعد خروج غسق من المنزل، في الواقع هي لم تنم إلا بعد شروق الشمس بقليل لكنها شعرت بغسق وهي تقفز من السرير لتغير ملابسها في عجالة، كما سمعت حديثها مع ساجي، حاولت أن تعود للنوم دون فائدة وبعد خروجها أخذت هاتفها وقامت بالاتصال بسراج بعد أن يئست من عودتها للنوم مرة أخرى.
أجاب على هاتفه قبل أن تنتهي الرنة الأولى.
- اشتقت لكِ فرختي متى ستعودين؟
عقدت حاجبيها وقالت بصوت يحمل بين طياته بعضًا من النعاس:
- لم يمر يومٌ بعد وتسأل متى سأعود! هل تمزح؟
بتذمر تعشقه ولم تكن تعرف بأنها اشتاقت له إلا عند سماعه الآن:
- أنا أشتاق لكِ حتى وأنتِ بين يدي، تخيلي شعوري وأنتِ بعيدة عني آلاف الأميال
كانت تستمتع بكل كلمة غزل تسمعها منه، عكس السابق لم تعد تلك الكلمات تمر مرور الكرام لأنها لن تنتهي، فقد جربت لوعة الفراق والحرمان من عَذبِ كلماته وحلاوة غزله.
رمشت بعينيها وحاولت أن تجعل نبرتها صارمة قليلًا:
- توقف سراج عن مزاحك، بالكاد غسق تقبلت وجودي في منزلها، بل أنا من فرضت نفسي عليها في الواقع، كما أن هناك مستجدات كثيرة حدثت، هل كنت تعرف بطلاق آدم وغسق؟
- حقًا؟!
عقد حاجبيها وقالت في غضب حقيقي:
- لا تكذب سراج واضح من صوتك أنك غير متفاجئ بذلك؛ لماذا لم تخبرنِي من قبل، لقد كان موقفِ غير لطيف والجميع يعلم بذلك إلا أنا مث..
- توقفي عن الحديث قليلًا كي أجيبك، لم أكن أعرف بالطلاق لكن تالين سبق وأخبرتني عن كره آدم للطفلين وقد تنبأت به، هذه هي كل القصة.
سكتّ لبضع ثواني قبل أن يتابع بتساؤل:
- متى حدث بينهما الطلاق؟ ولماذا لم تخبرني تالين؟ صحيح أني كنت منشغل منذ خروجي من السجن ولم نتحدث كثيرًا، لكن ليس إلى هذه الدرجة.
تنهدت وهي تعدل من جلستها:
- لا أعرف تحديدًا متى حدث؟ تعرف لاحظت أن تالين مرحة وقد استغربت ذلك ألا تعرف بقضية والدتك؟
- لا لم أخبرها بقضية أمي، أبي طلب مني ذلك حتى نعرف إلى ماذا ستتوصل له التحقيقات، لا تنسي بأن زوجها غريب عنا ولا نعرف ردة فعله في هذا الموقف.
- حكيم غريب! أنت لا تعرفه هو أول من سيكون في صفكم فقط من أجل تالين، صدقني هو يحبها جدًا، يكفي بأنه تبني طفل وكتبه باسمها حتى ترضى وتشبع أمومتها به.
اتسعت عينيه في صدمة وقال في غير تصديق:
- من هذا الذي تبني طفل؟ عن ماذا تتحدثين فرح؟
أغمضت عينيها في غضب من نفسها، كيف أفشت سر تالين دون أخذ الإذن منها أولًا، وماذا سيكون ردة فعله عندما يعرف؟ هل سيرفض زين ويطالب تالين بالتخلي عنه؟
بالطبع سيخبر والده وكل العائلة وقد تشتعل حرب بسبب ذلك الطفل؛ يا إلهي وكأنه ينقصها مصيبة أخرى لكي تكرهها جميع الفتيات هذه المرة وليس غسق فقط.=
- فرح أجيبِ هيا.
انتفضت عند سماعها لصوته العالي عبر السماعة، لتضع يدها على قلبها، علها تهدأ من ضرباته قليلًا
- فرح أين ذهبتِ؟
استجمعت قوتها لتقول بحزم:
- أنا هنا سراج، سوف أخبرك بالقصة، لكن أولًا عليك أن تعدنِي بأنك لن تقاطعني ولن تخبر أحد بذلك إلا بعد أن تتحدث مع تالين.
سكتّ في علامة للموافقة، من ما جعلها تخبره بما حدث من قصة تبني تالين وحكيم لزين وإرضاع تالين له ليكون ابنها بالرضاعة، كما أخبرته بأن عائلة حكيم تعرف بالأمر ولم يعترضوا بعد أن رأوا تصميم حكيم، الأمر الذي ضايقه أن ساجي يعرف بالأمر ولم يخبره!
يعرف بأن علاقة تالين وساجي أقوى من علاقته هو بها؛ دائمًا كان بينهما رابط قوي لا يعرف سببه في الواقع ولم يحاول معرفته، فرغم برود ساجي إلا أنه دائمًا يقف في صف تالين ويتحدى الجميع من أجلها، إلا عندما عرف بعقمها لم يعرف حكيم أو يتوعد به كما فعل هو و والده، كل ما فعله هو أخذ تالين معه في العاصمة وإبقائها في منزله ثم أتي بعد عدة أيام ليقف في صف حكيم ويصر على عودة تالين مع زوجها.
الآن عرف السبب، لابد أن تالين قد أخبرته برغبتها في التبني؛ هذا يفسر الكثير.
بصوت متوجس:
- سراج هل تسمعني؟
خلل شعره وهو يجيب:
- نعم أسمعك فرح، لا تقلقي لن أخبر أحدًا، حتي  تالين لن أقول لها شيء حتى تكون هي مستعدة لإخباري أولًا.
شعرت بالراحة لتخرج منها زفرة حاره تدل على ذلك.
قرر تغير الموضوع بعد أن استشعر راحتها:
- كيف هي الأمور إذن مع غسق، ماذا تعنين بأنكِ فرضتي نفسك عليها، هل ضايقتكِ بالكلام؟
هذه المرة قررت الكذب أو تجميل الواقع بالأحرى:
- لا لم تضايقني، المسألة أنها تغيرت، لا أعرف كيف أشرح الأمر لك، غسق لم تعد تلك التي تمرر الأمور دون ملام ولا عتاب، في الماضي كنت أنا من يغضبها وهي من تقوم بمصالحتي، الآن أشعر بأنها لم تصفى لي، لازالت تحمل في قلبها بعض الغضب، بل أكاد أقول ربما بعض الكره؟
- كره! غسق! لا بد من أنكِ تمزحين، غسق لا يمكن أن تكرهك، منذ أن أخبرتها عنكِ وحتى قبل أن تراكِ وهي قررت بأن تكون صديقتك المقربة؛ ربما هي غاضبة أو ربما مسألة طلاقها من آدم أثرت عليها، حاولي أن تتفهمي وضعها فقد عانت كثيرًا في الفترة الماضية، وأعتقد أنها لا زالت تعاني.
أرادت أن تخبره عن فعلة آدم القذرة لكنها فضلت السكوت، لابد أن غسق لا تفضل بأن يعرف الكثير بها وإلا لماذا أخفت طلاقها من آدم؟
- لا عليك أعرف وضع غسق، كما أني من أخطأت في حقها ويجب أن أتحمل  قليلًا حتى تعود لسابق عهدها معي.
- فلتسلم لي العاقلة، والآن دعينا من ذلك لقد اشتقت لكِ كثيرًا فرح لم أشبع منكِ فقد ذهبتِ قبل أن ننهي شهر عسلنا حتى!
بدلال غير مفتعل وهي تنظر لنفسها في المرآة:
- أي شهر عسل الذي تتحدث عنه، سبق وقضينا شهر العسل سابقًا أم أنك نسيت؟
بنبرة عابثة:
- هذه زيجة جديدة يعني شهر عسل جديد، إلا إذا كنتِ تريدين أن أقضيه مع عروس جديدة!
تحولت من الدلال إلى بركان مشتعل يقذف بحممه دون رحمة:
- عروس جديدة! ولا حتى في أحلامك حبيبي، تعرف بعد أن تموت إذا كُتبت لك الجنة لن أدعك تنظر لغيري وليس تتزوج، جنة أي جنة؟ سوف أحرص على دخولك النار حتى لا تجد وقت لتفكر بأي أنثى كانت.
لم يستوعب كلماتها في البداية وعندما فعل انطلقت منه ضحكة عالية صافيه جعلتها تشتاط غضبًا، ليقول بعد مده:
- يا إلهي لم أكن أعرف بأني غالي عندك لهذه الدرجة!
- لا تمزح معي في هذه الأمور سراج أنا جادة.
- فرح لا داعي لكل تلك الدراما تعرفين جيدًا بأني لم ولن أعشق امرأة غيرك، فأنتِ من عرفت الحب بها وتعلمت أصول الغرام من نظرة عينيها، حتى في جفاءك وبعدك كنتِ الوحيدة التي دق لها القلب وتحركت مشاعري لها.
اتسعت ابتسامتها ورفرف قلبها بين ضلوعها طربًا؛ لكنها ادعت الغضب:
- كف عن كذبك وكلامك المعسول، ألم تعترف منذ قليل برغبتك في عروس جديدة؟
- بلى قلت ذلك لن أنكر.
يا ويلك مني وتؤكد على كلامك أيضًا.
- بالطبع، فقد تغير شكلك وخسرتِ الكثير من الوزن، وبسبب ذلك تغير شكلك للأسف عن صور زفافنا، فإذا كُنتِ مصرة على أن لا تعودي لشكلك السابق الذي أعشقه بشدة للعلم فقط؛ يجب أن نحصل على صور زفاف جديدة.
مطت شفتيها في غير تصديق:
- سأدعي بأني أصدق كلامك رغم عدم اقتناعي، وسأفكر في أمر الصور عندما أعود، والآن عليَّ الذهاب فهناك الكثير الذي يجب أن أنجزه بما فيه مقابلة زوجة إياد.
تعمدت أن  لا تذكر اسم سابين، فالموضوع لايزال له أثر في نفسها، لكنها قررت إنجاح علاقتها بسراج وسوف تفعل كل ما تقدر عليه في سبيل ذلك.

غسق الماضي الجزء التانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن