الفصل الثالث والأربعون
شعور بضيق بداخلها منذ أن اخبرها بأنهما سوف يعودان للوطن؛ فمنذ أن تزوجته وجاءت هنا ولا أحد يتعامل معها أو ينظر لها إلا باحترام، الكل يعطيها فرصة ليتعرف عليها أولًا قبل أن يطلق الأحكام عليها، حتى غسق رغم الحدود التي تضعها في التعامل معها لكنها لم تقم بإهانتها أو التشكيك بأخلاقها.
عندما قرر إياد الزواج منها رحب والدها فورًا، لم يقم بأي احتفال لإعلان زواجها، فقد اكتفى بعشاء للعائلة يضم إياد وأيهم وعائلة القاسم؛ تعرف السبب بالطبع ولم تلم على إياد بأنه لم يرغب في الاحتفال أيضًا؛ ما كان ليجرح شقيقته بإقامة حفل زفاف لها هي بالذات.
كل ذلك لا يهم فقد عوضها بحب وحنان وثقة بها!
ثقة لم تحظى بها من قبل، بداية من والدها الذي حكم عليها بأنها سيئة الخلق بسبب كذبة، مرورًا بمروان الذي لم يهتم بما تفعله ولا مع من تذهب، حتى قصتها مع سراج تعرف بأنه لم يكن يهتم إلا لأنه يكرهه سراج القاسم فقط.
إياد أعطاها فرصة العمر، عندما أخبرها بأنه قرر أن يتزوجها وأنه يثق بها.
وكم أطرت قلبها تلك الكلمة، بل رفعتها للسماء وجعلتها تلمس النجوم بيديها، فهي أجمل من كل كلمات الغزل التي سمعتها طوال حياتها، بل هي أجمل من كل قصائد العشاق التي غزلت عبر قرون الزمن مجتمعة معًا.
رفرف قلبها لتلك الكلمات بطريقة لم تعهدها في حياتها سابقًا، ولازال يرفرف كلما شعرت بأنه يعطيها ثقته أكثر وأكثر.
لكن كل ذلك سينتهي بمجرد أن تطأ قدميهما أرض الوطن!
هناك لن تكون سابين زوجة اياد، لن تكون سابين التي يجب التعرف عليها قبل إصدار الأحكام، بل هي سابين ذات السمعة السيئة والأحكام التي تم إصدارها بالفعل منذ زمن.
سابين التي اتهمت في قضية زنا مع زوج أخت زوجها الحالي!
تشعر بخوف شديد يلازمها منذ أن عرفت بقراره، ليس من نظرة الناس لها فقط، بل من فقدانه، نعم فقدانه فإياد لن يتحمل التجريح والتشكيك في أخلاق زوجته، وطبعا لن تلومه على ذلك ومن يقدر على ذلك، الأدهى أنها عرفت بعودة فرح لسراج، ليس أنها كانت تتمنى فراقهما إلى الأبد لكن عودتهما تعني بأنها سوف تتقابل كثيرًا مع سراج، كيف ستكون نظرة إياد لها وهو قد رأى وعرف ما حدث بينهما، كيف ستتحمل لسان فرح؟ بل هل من الممكن أن تتقبلها فرح من الأساس؟ تلك الأفكار وغيرها هي ما تجول في بالها ولا تعرف كيف تخبره أو تناقشه بها!
خلفها كان يقف منذ مدة دون أن تشعر به، كيف تشعر به وهي غارقة في أحزانها منذ مدة، ليس بغر كي يخفى عليه الخوف الذي تجلى في عينيها عندما أخبرها بقرار العودة، يعرف فيما تفكر ومن ما تخشى! غبية تعتقد بأنه قد يتأثر من كلمات الغير أو يتركها بسبب ذلك ليرضي كبرياء رجولي مزيف.
لازالت لا تعرف من هو إياد ولا تعرف مقدار حُبه لها ولا مقدار الثقة التي استحقتها عن جداره في داخله، فهو كان يراقبها منذ أن شعر بدقات قلبه تتغير في حضورها، أيام وليالي لا يغفل عن أي تصرف، كلمة، حركة منها مهما كانت بسيطة، بسهولة اكتشف معدنها، سابين ليست سيئة الخلق أو من محبات الانحلال، على العكس تمامًا فهي تنبذ تلك المظاهر بشدة، مشكلتها الوحيدة هي التقليد الأعمى والانسياق وراء أي شخص تصادفه مثلما حدث مع روبين ومع أقاربه؛ صحيح أنها شرعت في التغير البطيء لكنها تحتاج لوقت أطول، مؤخرًا تغيرت طريقة ملابسها كثيرًا وهو سعيد بذلك فهي في طريقها للحجاب الصحيح وليس مجرد تقليد للغير فقد واضبت منذ مدة على ارتداء شال يغطي شعرها مع ملابس واسعة مستوره دون أن يطلب منها ذلك هو فقط كان مشجع لها لا ينفك يلقي عليها كلمات الغزل على مظهرها الجديد دون أن يذكر طريقة ملابسها القديمة أو حتى يلمح بها.
تصاعد صوت رنين هاتفه مما جعلها تلتفت له بسرعة وقد صعقت من وجوده خلفها، لم تشعر به عندما دخل للمنزل بسبب شرودها!
أجاب إياد على هاتفه فورًا:
- فرح أهذا أنتِ؟
ها قد بدأت المواجهة مبكرًا، هذا ما فكرت به سابين وهي تسمع كلمات إياد لشقيقته، لذلك انسحبت من أمامه لتنزوي في غرفتها مع مخاوفها.
بعد مكالمة قصيرة أغلق هاتفه وبحث عنها حوله، تكهن بأنها دخلت لغرفتها عند سماعها لاسم فرح، ماذا ستفعل عندما تعرف بقدومها؟ ربما هذه المواجهة هي شرٌ لابد منه.
دخل عليها الغرفة ليجدها مستلقية في الفراش تعطيه ظهرها؛ جلس على السرير وسحبها ليستقر رأسها على فخذيه دون أن تمانع أو تعترض.
مشط شعرها بيده وهو يقول بحنو:
- لماذا هذا الحزن الذي أراه في عينكِ يا تميمة حظي.
رفعت رموشها تنظر له بحب:
- لماذا تسميني تميمة الحظ؟ لا أعتقد بأن اللقب يليق بي.
ابتسم لتظهر أسنانه البيضاء وتزداد دقات قلبها العاشق:
- لأنكِ كذلك، أنتِ الوحيدة التي استطاعتِ الدخول لقلبي وتحطيم كل حصوني دون حتى أن أقدر على مواجهة تيار حبك الجارف، لم أحتاج أن أفكر أو أخطط لكيفية الهروب منك، بل وجدت نفسي أسلم قلبي وكل عمري لكِ عن طيب خاطر، أنتِ من أشعرتنِي بالاكتمال وبأني بجانبك ملكت الكون، لا ليس الكون بل ملكت راحتي وهناء البال، فأنا قبلك لم أكن أشعر بهذا القدر من الراحة منذ أن تزوج أبي فريدة.
لم تشعر بالدموع التي انسابت من مقلتيها إلا عندما قام بمسحها برقة شديدة، لتمسك أصابعه وتقوم بتقبيلها كحب وامتنان وليس خضوع أو تبجيل له.
سحبها لتعدل من رقدتها وتجلس ملاصقة له دون أن يبعدها عن حضنه ليقول بصوت خفيض:
- فرح اتصلت بي منذ قليل.
تصلب جسدها وشعر به لكنه قرر تجاهل ذلك وتابع بهدوء تام:
- أخبرتني بأنها في طريقها إلى هنا سوف تصل غدًا صباحًا بتوقيتنا، سراج أوصلها للمطار وهو معها الآن تريد مني أن احجز لها في فندق فهي محرجة من المبيت عند أقاربنا كما أنها لازالت لم تصفي خلافها مع غسق.
رفعت رأسها له لتقول بصوت محشرج:
- هل أعادها سراج لذمته؟
رغم أن السؤال في ذاته لم يكن مقبولًا، لكنه تجاوز عن ما يشعر به مؤقتًا حتى يتم ما يريد الوصول له:
- نعم القصة طويلة لكن في النهاية سراج لن يقدر على العيش دون فرح وهي كذلك.
هزت رأسها موافقة دون أن يظهر على ملامحها شيء.
- أعتقد أنه من الأفضل أن تقيم فرح معنا إلى أن تقرر هي العكس.
رمى جملته التي نزلت كالصاعقة على سابين، ليتغير وجهها وتفر الدماء منه، شعرت بأن دلوًا من الماء البارد قد نزل عليها ليجمد أطرافها، يا إلهي كيف ستتعامل مع فرح وفي منزلها!
ظل يراقبها دون أن يتكلم، ينتظر رد فعل منها، أي شيء رفض، غضب، صياح، أو حتى قبول زائف! المهم أن تكون لها ردة فعل، لكنها لم تفعل كل ذلك فقط تجمدت في مكانها وظلت شارده بنظرها إلى الفراغ.
وضع يده أسفل فكها ليرفع رأسها له وينظر في عينها مباشرةً:
- سابين انظري لي لا تهربِي بعينيكِ مني.
رمشت بعينها عدة مرات ثم نظرت له لتلاقي خاصته، وقد هالها كمية الحنان المتدفق فيهما.
- أعرف أنكِ متضايقة من فكرة عودتنا للوطن، كما أعرف بأن فكرة بقاء فرح معنا في الشقة ليس من الأشياء المفضلة لكِ، لكني أريد أن أسمع رأيكِ في ذلك، أنا لا أفرض عليكِ وضع معين أو آمرك بأن تقبليه دون نقاش، أنا أخبرك بما أفكر وأنتظر منكِ مناقشتي فيه، سواء بالرفض أو القبول المهم أن تخبرينِي ما هو رأيكِ، وبالنقاش نقنع أحدنا الآخر.
بدأت الدماء تعود لوجهها وقد اتسعت عينيها في ذهول من هول ما تسمعه، لم يقم أي شخص قبل الآن بطلب رأيها، الجميع يفرض عليها ما تريد، حتى تعودت بأن تلف حول الموضوع الذي ترفضه وتقوم بإفشاله بطريقة خبيث، أو لو لم تقدر على ذلك رضخت مجبرة.
تابع إياد بعد أن تأكد من تجاوبها:
- يجب أن تعرفِي بأن أكثر شيء أكرهه في المرأة هو خضوعها، يمكنني تقبل أي عيب آخر إلا هذا، لا أريد امرأة مثل أمي ترضى بأي شيء وتقبل بالفتات، بل أريد امرأة تقاسمني حياتي بمعني الكلمة، ترفض كل ما يضايقها وتقولها علانية حتى لو كان ذلك ضد رغبتي، هل يمكنكِ أن تكوني تلك المرأة سابين؟
هذا كثير عليها، لا تصدق بأنها محظوظة لهذه الدرجة، يعطيها حبه واسمه وثقته والآن يريد أن يسمع رأيها ويأخذ به!
ازدردت ريقها ثم قالت ببطء:
- دعنا من مسألة العودة للوطن سنتناقش بها في وقتها.
صمتت قليلًا لتستجمع شجاعتها وعدلت من جلستها لتكون مقابلة له وقد ثنت قدميها أسفلها ثم أخذت نفسًا طويلًا.
- بالنسبة لفرح هل تعتقد بأن بقائها معي في نفس المكان فكرة صائبة؟ أعني أنت تعرف تاريخنا معًا، هي وأنا لم نكن مقربتين وآخر لقاء لنا كان كارثيًا بمعني الكلمة.
لاحظت اهتزاز حدقتي عينيه لتكمل بسرعة:
- لا تسيء فهمي أعرف مكانة فرح عندك جيدًا، ولا أقترح أن تبتعد عنها أو أرفض وجودها في منزلك بالطبع، أنا فقط أخبرك بمخاوفي.
- أولًا هذا منزلنا وليس منزلي وحدي يجب عليكِ أن تضعِي ذلك في بالك؛ ونعم أعرف علاقتك بفرح وماضيكما المشرف!
نكست رأسها في خزي
ليقول بصوت مرتفع يشوبه الغضب:
- لا تنكسِي رأسك بهذه الطريقة مرة أخرى، لستِ مذنبة، إذا كنتِ أخطأتِ فقد دفعتِ الثمن لم تعودي تلك الفتاه التي كنتِ من قبل، لا تجعلِي أي شيء يشعرك بأنكِ مذنبه.
كان يود الصياح بها أكثر، كان يريد أن يؤنبها ويقول لها الكثير من الكلام المؤذي لعلها تعرف قيمة نفسها وما أصبحت عليه، لكن نظرة الخوف التي سكنت عينيها جعلته يتراجع، وبدلًا عن ذلك ضمها بين ذراعيه ثم مال عليها ليحتل شفتيها في قبلة يمتص بها رحيقها الذي لا يرتوي منه أبدًا.
استمر في تقبيلها حتى شعر بحاجتهما للهواء، ابتعد مرغمًا وهو يستند على جبهتها:
- يجب أن نستغل فرصة وجودنا لوحدنا الآن، تعرفين أن الجدارن هنا ناقلة للصوت وأنتِ يعلو صوتك عندما...
- اشششش.
وضعت يدها على فمه قبل أن يكمل ليضحك بصوت عالي على خجلها الذي تفاجأ به منذ أن تزوجها.
لعب حواجبه وهو يقترب منها أكثر حتى ظنته سيقبلها مرة أخرى:
- هل أكذب أم أبالغ!
زمت شفتيها في دلال وهي تدعي الغضب:
- لو كان صوتِي يضايقك لن أتكلم مرة أخرى.
عدل وضعيتها ليجعلها تنام على السرير وهو فوقها:
- ومن قال شيء عن الكلام؟ أريد سماع شيءٍ آخر يطرب أذني ويجعلني أعرف بأنكِ مستمتعة مثلي.
لم يعطيها الفرصة لترد بالكلام، فقد أطفأ النور بجانب سريره واستمتع بنغماتها التي بات يعشق سماعها.
*****
وضعت ملعقتها في إناء الحساء الثاني وهي تشرب منه في استمتاع واضح جعل غسق تنظر لها بنصف عين وهي غير مبالية لها.
- كم هو لذيذ هذا الحساء! لولا خجلي لطلبت من ساجي أن يحضر لي قدر كبير لآخذه معي لمنزلي.
رفعت سارة حاجبها وهمست في أذن غسق:
- خجل! زهراء تخجل من ساجي! هل سمعتي بأنها طلبت منه أن يكون موديل لها في جلسة تصوير.
رغم أنها شعرت ببعض الغيرة إلا أنها سرعان ما تلاشت أو ربما قامت هي بطمسها فورًا، لتقول ببرود:
- حقًا جيد.
- جيد! سوف أصدق بأن الأمر لا يعينكِ؛ لكن تعالي هنا لم تخبرينِي من قبل بأن ساجي يجيد الطهي أم هو فقط يحاول وصل حبال الود بينكما.
كانت تنظر إلى هاتفها وهي تجيب في روتينية:
- يجيد طبخ بعض الأصناف البسيطة، تعلمها عندما كان يعيش في أوروبا مع إياد، لكنه لا يطبخ دائمًا بالطبع فقط هذا الحساء عندما أصاب بالبرد ولا أقدر على البلع، ولا ليس من أجل أي مما تفكرين به فهو اعتاد على ذلك منذ زمن.
لم ترد سارة لكن منظر وجهها أوحى بكل ما تريد أن تقوله دون أن ينطق لسانها بحرف.
عقدت غسق حاجبيها وعقدت يديها:
- قولي ما عندك سارة فهو واضح على وجهك.
رفعت حاجبيها في دهشة مصطنعة:
- أنا ماذا قلت؟! فقط أفكر بأن زهراء على حق يجب أن آخذ من ساجي طريقة صنع الحساء وأجعل عمر يصنع لي طبق منه.
وقفت من مكانها وهي تشتاط غيظًا دون أن يظهر ذلك عليها، فقد فهمت تلميحاتهم المبطنة، أخذت حقيبتها وقالت ببرود:
- أنا ذاهبة لدي موعد مع المجموعة، استمتعن بالحساء أو ربما من الأفضل أن تذهبن لمنزل ساجي لتقمن بمساعدته في الاعتناء بتيم وتيام.
خرجت وأغلقت الباب خلفها دون أن تنتظر الرد، بمجرد أن فعلت انطلقت ضحكة عالية من زهراء تبعتها أخرى من سارة وبدأت التحليلات عن تصرف غسق.
***
عند المجموعة العلاجية حكت غسق ما حدث دون أن تخفي مشاعر الغضب التي تملكتها من تصرف سارة بالذات.
كانت المرأة التي لديها خمسة أطفال أول من علق باستغراب:
- لا أصدق! زوجك عربي ويقوم بالاعتناء بالطفلين لوحده وأيضًا يطهو؟
ارتفع حاجب الشر لدى غسق وعقدت يديها:
- أولًا هو مطلقي؛ ثم لماذا لا تصدقينِ؟ لأنه عربي من المفترض أن يقوم بضربِي صباحًا ومساءً ويعاملني كجارية أهذا ما تعتقدين؟
شعرت المرأة بالتوتر لرد غسق القاسي:
- لا أقصد الاساءة بالطبع فقط ما نسمعه عن الرجال العرب يختلف عما تقولينه.
خفت حدة نبرتها قليلًا دون أن تفقد صرامتها:
- صدقيني لا تريدين أن تعرفي ما نسمعه عن النساء هنا؛ ثم الرجل السيء والجيد في كل مكان هناك الكثير من الرجال العرب من يذلون زوجاتهم ويساعدونهم في كافة الأشياء وهناك العكس، الأمر ليس له علاقة بجنسية الشخص بل بأخلاقه.
نكست رأسها في خزي لتقول:
- معكِ حق زوجي من هنا وهو من يقوم بضربِي ليل نهار.
شعرت غسق بالألم لما أصاب المرأة، هي لا تحب بأن تؤلم أحد أو تقلل منه أبدًا.
لتقول بحنان لعلها تغير الجو الذي تعكر:
- المهم أنكِ تخلصتِ منه.
ابتسمت لها في توتر دون أن تجيب.
لتقول الأستاذة الجامعية بصوت عالي نوعًا ما كالعادة:
- أعتقد بأنكِ لا تعطي مطلقك حقه، ها هو يعتني بالأطفال وأنتِ مريضة كما أنه يحضر لكِ الطعام، وحسب كلامك هو معتاد على ذلك من قبل، إذن هو ليس سيئًا ومتبلد المشاعر كما تقولين عنه دائمًا.
بالكاد تمالكت نفسها كي لا تصرخ في وجهها:
- هم ولديه أي ما يفعله واجب وليس شيئًا يستحق عليه جائزة، بل هو أقل تعويض بعد أن تركهما طوال الشهور التي مضت في وضعه الصحي المعقد؛ ثم أنه من تطوع وقام بالطهو لي أنا لم أطلب منه يومًا ذلك، وحتى هذا أمر عادي وليس غريبًا يجب أن تري أخاه ماذا يفعل؟ عندما تمرض زوجته ثم تقارنيه بساجي.
عدلت نظارتها لتقول بنفس الصوت العالي وكأنها تلقي محاضرة على تلاميذها:
- أتفق معكِ في جزئية طفليه، لكن أنتِ قلت بأنه كان مهمل لكِ تمامًا ولا يهتم لأمرك ِأبدًا، مع أنه حسب كلامك أيضًا كان يساعدك في المذاكرة وفي العمل وكان يأخذك للأماكن السياحية التي تحبين والآن عرفنا بأنه يهتم بكِ في مرضك بل ويقوم بالطهو خصيصًا لكِ في الوقت الذي يستطِيع بأن يكلف أي شخص بتلك المهمة مثل الخدم؛ ولا نعرف ماذا كان يفعل من أجلكِ غير ذلك؟
كانت تود الرد عليها بطريقة تجعلها تخرس للأبد لكن الطبيبة قاطعتها لتقول بصوتها الهادئ الرزين:
- بجب أن يكون له مزايا وإلا ما كانت أحبته وبقيت معه طوال تلك السنوات؛ لنتفق على شيء مهم لا يوجد شيء اسمه حب من أول نظرة هذا وهم غرسته القصص في عقل المراهقات وساعدت الأفلام في تأكيده، ما يحدث هو انجذاب أو إعجاب بالشكل الخارج فقط وليس شرط أن يكون الشخص في قمة الوسامة أو تكون الفتاة فائقة الجمال لتحظى بذلك الانجذاب، كل شخص لديه معاييِر مختلفة للجمال عن الآخر!
سكت قليلًا لترى تأثير كلامها على النساء وقد كان فلقد أصابت الهدف بدقة.
تابعت:
- ما يجعل هذا الاعجاب يتحول إلى حب هو التفاصيل الصغيرة، المعاملة الرقيقة، الاحترام، أن يهتم الطرف الآخر بما تحب وما تكرهِ وغيره من تلك الأمور التي تتراكم في القلب والروح وتصبح حب يجعل الشخص يتحمل الأذى، كما حدث معكن للأسف.
لتقول أم الأطفال معترضة:
- غير صحيح، ماذا عن قصة روميو وجولييت؟ لقد وقعت في الحب منذ النظرة الأولى.
ابتسمت لها:
- قصة روميو وجولييت خيالية مثل باقي قصص الحب المشهورة وقصص أميرات ديزني، لكن لو قمنا بدراسة شخصية روميو وجولييت لقلنا بأنهما مراهقين مصابين بالاضطرابات لا حصر لها واكتئاب شديد أدى لانتحارهما في النهاية؛ وليس الحب هو السبب كما يتغنى الجميع.
عقدت حاجبيها في غضب وهي تتمتم بكلام غير مسموع جعل البقية تضحك على منظرها.
بعد انتهاء الجلسة طلبت الطبيبة من غسق أن تنتظر لأنها تريد محادثتها على انفراد
جلست غسق بتوتر نوعًا ما، لتقول الطبيبة بسرعة كي لا تزيد من توترها:
- غسق أعتقد بأنكِ أصبحتِ حادة في نقاشكِ مع الجميع.
قبل أن تقاطعها غسق تابعت:
- الحوار أو النقاش يعني طرح وجهات النظر والمحاولة للوصول لنتيجة لتقريبها أو إقناع الآخر بها، وليس اثبات بأنكِ على حق دائمًا، أنا لا أتحدث عن نقاشك اليوم فقط، بل حتى مع والد طفليكِ وحسب كلامكِ أصبح كله اتهام له ومواجهة بأفعاله فقط دون السماح له بالتبرير ورفض الوصول لحل وسط.
قاطعتها بغضب:
- ليس صحيح أنا فقط أخبرته بما فعل عدة مرات كما أني سمحت له بأخذ الطفلين عند مرضي، إذن أنا لست متزمتة كما تقولين.
- ومن قال بأنكِ متزمتة؟ كل ما قلته بأن لغة الحوار بينكما غير صحية؛ من حقك أن تلومينه على ما حدث مرة، لكن تكرارها في كل حوار لن يجلب سوى المشاكل والنفور بينكما، وسيجعل الاتفاق على أبسط الأمور التي تخص طفليكما مستحيلة؛ لقد استطاع والد أطفالك هذه المرة اقناعك بالأمر الصواب لأنه رجل أعمال ناجج ويعرف كيف يدير الحوار لمصلحته، لكنه بعد فترة من لومك المستمر له وعدم تقبلك محاولته ليكون أبًا لطفليكِ، سوف يمل وقد يتوقف عن المحاولة عندها سيكون الخاسر الوحيد هما طفليكِ.
عقدت ذراعيها ولايزال الغضب يتملكها:
- يجب أن أنسى كل أفعاله لمجرد أنه اعترف بخطئه مرة واحدة، وإلا سيمل ويترك طفليه، فليذهب إلى الجحيم، لقد تحملت عشر سنوات من النبذ والبعد لينتهي الأمر بإهانة علنية تبعها زواجه من حبيبة قلبه!
كانت تلهث في غضب وقد امتلأت عينيها بالدموع الغادرة لتنزل على خديها دون استئذان وتزيد من ألمها أكثر لأنها شعرت بضعفها في تلك اللحظة.
تركتها الطبيبة تخرج ما بداخلها من غضب وألم حتى انتهت من بكائها:
- بالطبع لا أطالبك أن تنسي أفعاله، هذا مستحيل، فالمرأة تغفر ولا تنسى، أنا أطالبك بأن لا تحقدي، لا تجعلي الغضب وما حدث يتملك من روحك فتّحولِك لشخص آخر؛ كونك تجاوزتِ كل ما مضى واستطعتِ أن تقفِي على قدميكِ من جديد يعد هذا إنجاز ويدل على قوتك وقدرتك على تخطِي الصعاب.
سحبت شهيقًا لتكمل وقد لاحظت بأن غسق هدأت قليلًا:
- أنتِ شخص جيد ذو روح نظيفة لا تحاولي تغيير ذلك وادعاء العكس، من أجلكِ أنتِ قبل الجميع.
أخذت وقتها في استيعاب كلام الطبيبة وتحليله جيدًا، هي ليست أول من يخبرها بأنها تغيرت وأصبحت قاسية، صحيح بأن طريقتها مختلفة أكثر لكنها توصل نفس المعنى، ربما يجب عليها أن تسمع لغيرها لترى الخطأ بها أو ما يعتبره الآخرين كذلك، هي فعلًا مؤخرًا قامت بإيذاء أكثر من شخص دون قصد مباشر منها، وهذا ليس طبعها، أما بالنسبة لساجي ربما ستتوقف عن معايرته وتذكيره بما فعل، لكن ليس قريبًا بالطبع.
*******