لايك قبل القرأة
الفصل الثامن والعشرين
بسبب اتصال شقيقها اضطرت سارة للسفر بسرعة، رغم أنها كانت ترغب في البقاء إلى أن تستقر حالة غسق على الأقل؛ نبرة شقيقها الصارمة أنبأتها بأن هناك مصيبة، وليس مرض أمها فقط، طوال المسافة بين القارتين وجميع أفكارها تذهب في اتجاه واحد!
كم تخشى أن تكون أفكارها صحيحة، هذا يعني شيء واحد أن هناك ضحية أخرى أو ربما ضحايا.
وصلت بعد فترة طويلة للوطن ، كان الاستقبال حافلًا ، لكنها لاحظت نظرات شقيقيها وتوترهما ، رغم إصرارهما على أن تذهب معهما بحجة أن والدتها ترغب في رؤيتها بشدة، لكنها فضلت أن تقضي أول يوم في منزل أهل عُمر، حتى لا تحرجه أمامهم، كذلك لا ترغب في مواجهة ما تخشاه.
في منزل عائلة عُمر اجتمع جميع أفراد العائلة للترحيب بهم، لم يفت على سارة تلميحات والدة عُمر وشقيقاته.
- عُمر هل رأيت هذا الصغير؟ إنه حفيد عيسى ابن عمك هل تصدق، ابنه يصغرك بأكثر من خمس سنوات؟!
- عُمر تعرف جميلة ابنة خالتك أنجبت ابنها الخامس.
لم تنسى بأن تفرد أصابعها في وجه سارة خوفًا من الحسد.
لم يُرضى عُمر الحوار الجاري، خصوصًا حركة شقيقته الوقحة:
- هل هي أرنب كي تنجب هذا العدد في أقل من سنتين؟ أليست هي من اقترضت مني المال كي تقيم فرحها؟!
تغير وجه أمه وقالت بتأنيب:
- هل تمن عليها بالمال؟ تعرف بأنها يتيمه وأختي لا تستطيع تجهيزها بعد أن زوجت باقي أبنائها، منذ متى ونحن نعاير الناس بمساعدتنا.
تدخلت سارة لترطيب الأجواء:
- بالتأكيد عُمر لا يقصد ذلك يا عمتي، هو فقط استغرب.....
قاطعتها في صوت عالي ينبض غضبًا:
- استغرب من ماذا بالضبط؟ امرأة كامله تزوجت، من الطبيعي بأن تحمل وتنجب مثل باقي النساء السليمات.
كانت ترمقها من أسفل إلى أعلى بنظرات قاتلة، تخبرها بها بأنها لا ترقى لتكون امرأة خصوصًا لِابنها.
شعرت سارة بنظراتها طلقات رصاص تخترقها، الألم الذي انبثق بداخلها لم تَشعر به من قبل، الألم مختلف عن أي ألم آخر شعرت به من قبل، تعرف بان عُمر يستحق الأفضل بل تتمنى أن يجد امرأة تعوضه عن السنوات التي عاشها معها، يخفي رغبته في أن يكون أب كي لا تحزن، يتحمل مرضها، بل هو السبب الرئيسي في تخطيها جلسات العلاج القاسي، حتى وقت نفورها منه كان يتحملها ويعيدها له بحنانه ودفء مشاعره، عُمر ليس زوج أو رجل مثل باقي الازواج، هو فعلًا يستحق أن يطلق علية رفيق الدرب.
لم ينتظر ليسمع رد سارة، يكفي نظرة الكسرة التي اجتاحت عينيها، استقام من مكانه وذهب إليها يحثها على الوقوف متجاهلًا وجود الجميع بما فيهم أمه، قبل كف زوجته:
- هيا حبيبتي لقد حجزت جناح العرسان لنا.
اتسعت عيون الكل في صدمة، بل يكاد يقسم بأنه رأى دخان يخرج من أذن والدته وزوجة أخيه، تلك التي لا تدع مناسبة إلا وتقوم بمعايرة سارة بمرضها وعدم إنجابها، كما تتباهى بقدرتها على الإنجاب كأنها إنجاز عظيم لم يقم به أحد من قبل.
توجهت مع سارة إلى الخارج بعد إلقاء تحية باردة على الكل، لكن صوت والدته أوقفه:
- هل ستذهب بالفعل؟ أريدك أن تبيت معي في حضني، لقد اشتقت لك كثيرًا يا بُني.
همست سارة في أذنه:
- فلنبقى من أجلها، أنا سوف أنام في غرفة ابنة شقيقك وأنت مع أمك.
لم يهتم لها، تركها واقترب من أمه يقبل جبينها:
-غدًا صباحًا أكون عندكِ، لا تغضبي مني .
احتضنت وجهه بين كفيها وقد شعرت بأنها زادت الجرعة، لم يكن عليها أن تنفعل بتلك الطريقة خصوصًا أمامه، ازدردت ريقها:
- لا بأس يا عُمري، فقط تعال مبكرًا سوف أعد لك الفطائر التي تحبها.
- سوف نأتي مبكرًا لا تقلقي، إلى اللقاء.
لم تخفي عليها نبرة التشديد في كلمة نأتي، حسنًا غدًا يجب أن تنهي معه هذا الموضوع، لن تصبر أكثر من ذلك.
*******
لم تستطع البقاء بعد أن رفضت غسق رؤيتها، بل إنها نبهت على الممرضات ألا تقترب من ولديها، اللذان وضعا في الحضان بسبب سوء حالتهما؛ فأحدهما ولد بثقب في قلبه، والآخر لازال يصارع كي يعيش؛ فقد ارتفع ضغط الدم لدي غسق بدرجة خطيرة هذا بالإضافة إلى إصابتها السابقة بالصمة في بداية حملها، وفقدانها الجنين الثالث، كل ذلك جعل من حملها في وضع خطر؛ لتأتي فرح وتقضي على الباقي، لا تستطيع لومها أبدًا ما قالته ليس بهين، لا تعتقد بأن غسق ستسامحها مثل كل مرة، هذه المرة تجاوزت كل الحدود.
وصلت الوطن والجهة إلى شقة سراج بعد أن أعلمت إياد بوصولها، وجدت هناك سراج وإياد وساجي الذي كان منظره يوحي بما يجول بداخله، كان هو أول من تحدث حتى قبل أن تدلف إلى الداخل.
كان يصرخ على غير عادته:
- لماذا أتيتِ؟ كيف تتركين غسق وهي في وضع ولادة وتأتين هنا؟ ماذا حدث أخبريني.
آخر ما تريده مواجهة أحد بما حدث؛ حاولت ادعاء الشجاعة:
- وما دخلك ألم تتركها من قبل؟ والآن تتدعي بأنك مهتم بها وتحاسبني لماذا تركتها؟ أنت من يجب أن يكون بجانبها وليس أنا، تعرف بوضعها منذ أكثر من أسبوع ولم تهتم، لا تلعب الآن دور الزوج الخائف على زوجته وحملها، آه نسيت هي لم تعد زوجتك بعد الآن.
اقترب منها والغضب يشع من عينيه، فقد تحولتا إلى اللون الأحمر:
- فرح لا تستخدمي هذا الأسلوب معي، لست سراج أو غسق كي تسكتيهما بهجومك، لماذا تركتِ غسق؟
ارتعشت بداخلها وحاولت عدم إظهار ذلك، حسنًا هو محق، ساجي لن تفلح معه تلك الطريقة، حسنًا هو من طلب ذلك؛ صرخت به بغضب من نفسها قبل الكل:
- أنت السبب لقد تشاجرت مع غسق، وأخبرتها بمكانتها لديك بالضبط وحقيقة مكانتها.
تقهقر ساجي من مكانه رغم أنها لم تفصح عن الكثير لكنه يستطيع تصور ما قالته لها بالضبط.
دقائق ثم اندفع خارج الشقة دون أن ينطق بحرف، حاول إياد اللحاق به لكنه صرخ فيه بغضب أكبر من السابق.
- كنت تعرف وأخفيت عني أنها بالمستشفى، بسببك خسرت فرصتي مع غسق وكذلك أطفالي، لن أسامحك أبدًا.
وقف إياد مكانه لا يعرف ماذا يفعل؟ هو لم يقصد أن يخفي الأمر عن ساجي؟ ما حدث أنه لم يكن يعرف أصلًا أن حالة غسق بذلك السوء، بل إنه قام بتحويل مبلغ على المستشفى ليغطي المصاريف، كما أن اتفاقه مع ساجي بأن لا يكون بينهما اتصالات وهو في فرنسا حتى لا يعرف أحد بأنه غادر البلاد، يا إلهي، لن ينكر بأن انشغاله مع سابين جعله يهمل قصة دخول غسق للمستشفى، دون أن يدري تسبب في قطع العلاقة للأبد بين ساجي وغسق، طبعًا ساجي محق في غضبه؛ تنهد ثم عاد إلى الشقة ليرى ما حدث مع فرح، فحالها لا يختلف عن ساجي كثيرًا هي أيضًا فقدت غسق لسبب لا يعرفه بعد.
****
رغم غضبه الشديد بسبب إخفائهم حمل غسق عنه لكنه قرر أن يدعه الآن، اتصل بشقيقته عدة مرات بعد إخبار فرح له أنها مع غسق الآن، بعد عدة محاولات استطاع أخيرًا الوصول لها.
حاول كتم غضبه قدر المستطاع:
- أين أنتِ تالين اتصلت بكِ مليون مرة، منذ البارحة وأنتِ لا تردين كذلك زوجك يتجاهل حتى رسائلي، ماذا حدث؟ هيا أخبريني هل غسق والأطفال بخير؟
بدا صوتها مضطربًا نوعًا ما كأنها بكت لفترة طويلة وهذا جعل قلبه يقع بين قدميه:
- اعذرني سراج، الوضع لم يكن يسمح بذلك أبدًا، الطفلان ولدا، لكن أحدهما لديه ثقب في القلب والآخر وضعه غير مستقر، لازال الأطباء لم يقرروا إذا كانوا سيجرون له جراحة أم لا؛ كما أن غسق في حالٍ يرثى لها، لم أراها بهذا الشكل من قبل، اضطروا أن يعطوها مهدئات، لولا وجود ساجي لكنت انهرت أنا أيضًا.
عقد حاجبيه وهو ينظر للساعة:
- ساجي! هل وصل لكم بهذه السرعة؟ كيف؟
أخذت نفسًا كأنها تحاول أن تسترخي:
- لا أعرف بالضبط ، لن أتفاجأ إذا كان استأجر طائرة ليصل هنا بسرعة، صدقني أنا أيضًا تفاجأت به يتصل بي ليسأل عن اسم المستشفى، اعتقدت بأنه ما زال في البلاد، حتى وجدته أمامي منذ ساعتين تقريبًا، أصدقك القول وجوده أراحني جدًا، فهو أقدر شخص على التصرف في المواقف الصعبة.
تابعت في صوت منخفض نسيبًا:
- أنا فقط خائفة من ردة فعل غسق عندما تراه، لا أعتقد بانها سترحب بوجوده.
أيدها في كلامها:
- معكِ حق، حاولي أن لا تجعليهما يلتقيان الآن، على الأقل إلى أن تتحسن صحة الطفلين؛ لنرى بعدها ماذا سيحدث؟
- سأفعل، وأنت لا تخبر أحد حتى يقرر ساجي العكس، لا أعرف لماذا أخفيا الأمر، لكننا لن نتدخل الآن قد نؤذيهما إذا عرف أحد دون أن يتحضر ساجي وغسق للأمر.
ابتسم في استهزاء:
- لا تقلقي أنا أصلًا لم أكن أعلم إلا منذ البارحة، ولن أخبر أحدًا آخر، من الواضح أني لست في قائمة الأشخاص الذين يثق به ساجي ليخبرهم بأمر هام كهذا.
أغلق الخط وهو يرمقهم بنظرات حارقة، يلومهم على إخفاء الأمر عنه وجعله المغفل بينهم، خصوصًا فرح التي قرأت أفكاره.
- لا تنظر لي هكذا، شقيقك من نبه عليَّ أن لا أخبر أحد بأمر حمل غسق، كما أن وضعنا لم يكن يسمح بالمحادثات العائلية اللطيفة.
أما إياد فقد وجدها فرصة لفضحه أمام فرح:
- لا تدعي أنك مهتم بالأمر حتى، أنت كنت ولازلت تخطط لفرحك على سابين.
اتسعت عيني سراج في صدمة، آخر شيء توقعه أن تعرف فرح، وبتلك الطريقة الحقيرة بالذات، هو أساسًا لغى الفكرة من عقله، واقتنع بأنها وليدة لحظة ضعف، بل نسى حتى أنه أقدم على ذلك.
أما فرح فقد حاكى وجهها الموتى، لم تستطع قدميها حملها فارتمت على أقرب كرسي وجدت؛ هذه هي قصة والدتها تتكرر من جديد، ستكون هي الضحية في قصة سراج وسابين، هي من سينظر لها الناس بشفقة، فقد تركها زوجها من أجل أخرى، نعم هذا ما سيحدث، لكنها ليست جميلة، وبالطبع ليست غسق؛ فجأة اندلعت براكين بداخلها، شعور الخيانة الذي صعقها أسوأ مائة مرة من شعورها عندما رأت التسجيل، فهي كانت تتوقع منه أن يفعلها في ذلك الوقت، خصوصًا مع كل الذي حدث، لكن أن يفكر مجرد التفكير في الزواج من غيرها، ضاعت أي ذرة ثقة في حبه لها، رغم كل ما مر بهما، دائمًا كانت تثق في حبه لها، هو كان بر أمانها، لم تفكر يومًا بأن حياتهم قد تهتز، كانت واثقة من حبه لها، تقول ما تريد، تبتعد، تنفر منه حتى، سراج لن يرى امرأة أخرى غيرها.
جثى على عقبيه ممسكًا بركبتيها وقد امتلأت عيناه بالدموع.
كان منظرهما يصرخ ألمًا لدرجة جعلت إياد يندم على ما قاله، من الواضح بأنه لم يكن يعني ما قاله، بل هو متأكد من ذلك منذ ذلك اليوم، فقط الغيرة جعلته يشى به لفرح، يا إلهي هل جعله الحب شيطانًا، حب! أي حب ذلك؟! هل يعترف الآن بأنه يحب سابين!
لا يمكن! فذلك دربٌ من الخيال، لا يمكن أن يحب امرأة وخصوصًا سابين؛ أفاق من أفكاره على صوت لطمة!
******
حاولت قدر الإمكان أن لا تنفرد مع والدتها بالذات، لا تريد أن تصطدم بها، خصوصًا وأن قصة مرضها لم تكن حقيقية، نعم هي كبيرة في السن ولكنها ليست مريضة بالدرجة التي أوحى بها شقيقها لعُمر؛ خمنت ما حدث من توتر الأجواء في المنزل، فقد قاموا بوضع والدتها في الملحق الخارجي، ومنعوا أطفالهم الصغار بالذات من زيارتها إلا بمرافقة أحد منهم، أما شقيقها الكبير فقد منع حفيده من التواجد في المنزل أساسًا.
اضطرت آسفه بأن تبقى معهم اليوم بمفردها؛ لأن عُمر يجب أن يحضر حفلة عقيقة لقريب له، وبما أنه سيتأخر فمن الطبيعي بأن يبيت في منزل والديه، ولا يريدها أن تبقى هناك، طبعًا تعرف السبب هي أيضًا لا تريد جولة أخرى من نفس الكلام الجارح؛ لتبقى مع والدتها علها تكون مخطئه والأمر ليس كما تتوقع.
جلس شقيقها الكبير عادل بوجه مكفهر وهو يولي والدتها ظهره، كما جلس شقيقها الآخر عدنان بنفس الطريقة؛ لطما كانت تحترمهما جدًا ،فهما أكبر منها سنًا بكثير كما أنهم كانا يحترمان والدتها بل ينادياها أمي كثيرًا؛ كل حواسها تخبرها بالسبب لتلك المعاملة الجافه؛ منذ قدومها وهما لا يحادثان والدتها تقريبًا، ينبذانها بطريقة أوجعت قلبها، لم يسبق وحدث ذلك من قبل.
كان عادل أول من تحدث بصوت هادئ يشوبه الغضب المكبوت:
- سارة تعرفين مكانة والدتك عندنا، من قبل حتى أن تتوفى أمي رحمها الله، لكن تلك المكانة لن تشفع لها السكوت عن ما حدث! ولن تجعلني أغض النظر عن أفعال خالك القذرة.
كاد قلبها بأن يخرج من مكانه مع كل كلمة ينطق بها وهي ترتعش داخليًا، تخشى بأن يصل إلى ما وصل له.
أكمل عادل وقد كسى الغضب ملامحه وصوته:
- ذلك القذر قام بالتحرش بحفيدي، وأنكر ذلك قائلًا بانه مصاب بالتوحد ولا أحد سيصدقه، والكارثة بأنه فعل ذلك مع ابنتي من قبلها وابن عدنان ونحن لم نكن نعلم، أتصدقين ذلك؟ علا صوته وتشنجت عروق رقبته وهو يصوب يده إلى امها التي انكمشت على نفسها في خوف وهو يتابع:
- والكارثة بأن والدتك السيدة الفاضلة التي حجت بيت الله، كانت تعرف بكل ذلك وتتستر عليه، بل تعرف بباقي جرائمه، ذلك القذر لم يترك فتى ولا فتاة في العائلة إلا وتحرش بهم وحضانة الأطفال التي فتحها ماهي إلا مكان لمتعته المريضة.
لم يستطع أن يكمل كلامه فأعطاه شقيقة زجاجة ماء وربت عليه، يعرف ما يشعر به خصوصًا أن الاعتداء على حفيده زاد حالته سواءً.
أكمل عدنان:
- سارة نحن لن نترك حق أبنائنا، لا تهمنا الفضيحة، المهم أن ينال ذلك الحقير جزاءه، والدتك ترفض ذلك بل تدافع عنه، وتقوم بتشويه صورتنا نحن، تخيلي بأنها ادعت بأن ابني شاذ، وابنة عادل أخطئت مع قريب أمها؟ المشكلة بأن الطبيب الشرعي أثبت كل شيء، وهي تصر على الإنكار بحجة أن سمعة عائلتها ستضر، وأن الله يأمر بالستر.
عاد بها الزمن ثمانية عشر سنة أو ربما أكثر؛ لا تذكر كم كان عُمرها وقتها، الذي تذكره بأنها تكره البقاء في منزل جدها، وتكره خالها بالذات، تعرف بأنه يفعل بها شيئًا ليس جيدًا، لا تذكر التفاصيل جيدًا ربما لحسن حظها، ربما كما أخبرها الطبيب بأن عقلها قام بوضع تلك الذكريات في مكان مخفي من شدة صدمتها، أو لعدم رغبتها في تذكرها؛ تذكر جيدًا بأن أمها كان تضربها عندما ترفض الذهاب لمنزل جدها وتدعوها بالمكروهة.
(لا أحد يحبك أصلًا، أنا من أقوم بفرضكِ عليهم كي يتقبلوني، وأنتِ تتكبرين ولا تريدين الذهاب هناك، سوف تذهبين وتلعبين وإلا سوف أقوم بضربك وإخبار والدك بما فعلته)
كانت تلك كلماتها التي تبث الرعب بداخلها؛ رغم أن والدها لم يضربها يومًا وهي لم تفعل شيئًا يستحق الضرب، لكنها كانت ترتعب من ذكر اسمه أمامها، نجحت أمها في صنع جدار بينهما، لم تكن هناك يومًا بينهما علاقة الابنة والأب المتعارف عليها، ربما بسبب فارق السن أيضًا لا تعرف، هي كانت بعيدة حتى عن أخويها، والسبب أمها بالطبع؛ تذكر في يوم زوجة خالها الآخر فجرت قنبلة بأن خالها الأصغر محمد يتحرش بأبنائها، بل قالت بأنه اغتصب ابنها، هنا وقفت سارة التي كانت في الثانية عشر أو أكبر وقالت نعم أصدق فهو يفعل وقد فعل ذلك معي وأنا صغيرة، هنا لم تجد سوى الضرب من والدتها وخالتها، قاما بتكذيبها، بحجة أنها تكره أخوالها وتفضل أعمامها، وأنها متكبرة، طبعًا لم تنسى خالتها نشر سمعة سيئة عن زوجة أخيهم وأولادها، وقتها طلق خالها زوجته وأخذت هي أبنائها معها، انقطعت الصلة بينهم، ربما هذا أفضل ما حدث معهم، أما والدتها فقد نجحت في التفرقة بين سارة وأخويها حتى لا تخبرهما بشيء، بل نشرت بأنها مكروهة حتى أصبحت تلك كنيتها في العائلة، لم تكن حياة سارة سلسة أبدًا، على الأقل نفسيًا، أما الكارثة فهي نفس الكلام الستر.
(الله أمر بالستر، هل تريدين فضح والدك وهو بهذا السن؟ هل تفضحين أخويكِ، حرام عليكِ، يكفي أنكِ عذراء، لابد بأنك تتوهمين لم يحدث لكِ شيء)
هزها عدنان عندما لاحظ شحوب وجهها:
- سارة هل أنتِ بخير؟
ابتلعت ريقها وهي تحاول الكلام، لكنها لم تستطع في البداية، بالكاد خرج صوتها مضربًا: - كم طفل قام بالاعتداء عليه؟ هل تعرفون؟
تنهد عادل في ألم:
- الذين أعرف أسمائهم خمسة عشر، بعض أولياء الأمور قالوا بأنهم مستعدون لجعل أطفالهم يشهدون إذا رفعنا قضية، لكن والدتك تهددنا بأنها ستترك البيت وتشهد ضدنا.
أمسكت رأسها بيدها وقد بان ارتعاش جسدها، لدرجة أخافت أمها نفسها:
- سارة حبيبتي افهميني، إذا رفعوا قضية سيعرف عُمر وعائلته، سوف يطلقك بالتأكيد، كما أن أخويك الآن في حالة غليان فقط، بعد قليل سيعرفون أن الأمر لن يجلب إلا العار عليكم، حبيبتي خالك مريض، لابد وأنه ضحية أحد المتحرشين لذلك أصبح متحرش!
عادت بذاكرتها لكلامها مع الطبيب عن هذه النقطة بالذات فقد سألت عنها لأن الكثيرين يقولون بأن الطفل الذي يتم التحرش به يصبح متحرش.
(عقد الطبيب يديه، عاد في كرسيه:
- نعم هناك مجموعة منهم كذلك، لكنى شخصيًا لا أؤيد هذا الرأي، لذلك أتجنب الشهادة في هذه القضايا.
- ولماذا لا تؤيده، يعني ذلك بأنك ضده.
- ليس تمامًا، انظري كان هناك قضية كبيرة منذ عدة سنوات، أحدهم قام بقتل عدة رجال كان يعمل معظمهم في مراكز الرياضة للمراهقين، أو مدرسين وغيرهم من ضمنهم قس، بعد التحقيق عُرف بأن ذلك القس بالذات كان يتحرش بالأطفال أما القاتل فكان ضحية متحرش، المصادفة أن الضابط المسؤول عن القضية وهو اختصاصي في تحليل شخصيات المجرمين في اف بي إي، هو أيضًا ضحيه تحرش في الطفولة؛ ما أقصده أن الإنسان يستطيع أن يختار أي طريقه يسلكه، الماضي ليس عذر بل يجب بأن يكون حافز.
نظرت لأمها وقد عاد غضب السنوات التي مضت كله مرة واحدة:
- هل تصدقين نفسك؟ تفعلين ذلك كي تحميه! عندما أخبرتك بما فعله بي قمتِ بضربي، وتحريض أبي عليَّ، تقولين الآن بأن الله أمر بالستر وهل تعرفين الله الآن؟ تعرفين بسكوتك عليه أنت واخواتك طوال هذه السنين، بل فتحتم له حضانة أطفال، قُمتم بتقديم الأطفال له على طبق من فضة، أنتِ أيضًا مجرمة مثله، كونك أمي لن يغفر لكِ ذنبك، إن لم أستطع أن أحاسبك الآن فإن الله حتمًا سيفعل.
التفتت إلى أخويها اللذان شلتهما الصدمة، هي أيضًا ضحية له:
- سوف أفضحه على صفحات الجريدة وإن لم يوافقوا سوف أنشر المقال على صفحة الانترنت، باسمه وعنوانه وكل معلوماته، فليقاضيني إذا استطاع، أما أمي فأنا ليس لدي حل لها، افعلا ما ترياه مناسبًا.
فجأة قام عادل باحتضانها وهو يبكي بشدة كذلك فعل عدنان.
- سامحيني سارة، كيف لم أعرف من قبل، يا إلهي شقيقتي الصغيرة لذلك كنتِ دائمًا منطوية على نفسك، كيف لم ألاحظ، يا إلهي لا بد أن الذي حدث لحفيدي عقاب الله لي لأني لم أعتني بكِ كفاية.
مسحت وجهها وهي تقول:
- لا تقل ذلك أرجوك، المهم الآن أن تهتم بعلاج الأطفال نفسيًا حتى لا يصبحوا مثل عمتهم.
قام عدنان بتقبيل رأسها وهو يقول:
- بل أتمنى أن يكونوا مثل عمتهم.
قطعت عليهم والدتها اللحظة وهي تصرخ:
- لن أسامحك إذا فعلتها، سارة قلبي لن يرضى عنكِ، هل تعتقدين بأن الله سيرضى عنكِ إذا كنت أنا غاضبة عليكِ، لا أعرف ماذا سوف يصيبك أكثر مما أصابك توقفي عن الكلام عن أخي وإلا أنا من سيخبر عُمر بأنك......
لم تستمع للباقي فقد وقعت مغشيًا عليها بين ذراعي شقيقها.
****
في نفس الوقت كان عُمر يجلس مع والدته في الحديقة يحتسيان الشاي، لم يخفى عليه خطة والدته في تزوجه من أخرى، فقد أحضرت معظم بنات العائلة غير المتزوجات لتعرضهن عليه، بطريقة غير مباشرة؛ طول الوقت وهو يفكر كيف تقبل الأنثى بأن تكون سلعة تعرض، لا يصدق بأن معظمهن من عائلات متيسرة، وذوات جمال وعلم، لماذا يبخسن من أنفسهن بتلك الطريقة؟!
وضعت كوب الشاي على الطاولة وعدلت من جلستها لتقابله:
- عُمر ألن تُريح قلبي وتعود من غربتك التي طالت، يا ولدي أخاف أن يأخذ الله أمانته وأنت بعيد عني.
قبل كف يدها:
- أطال الله في عُمرك يا أمي، لا تقولي هذا الكلام الآن، تعرفين أن غربتي بسبب قلة فرص العمل هنا، كما أن غربتي ساعدت في زواج أخواتي البنات وكذلك أخي.
- ها قد تزوج الجميع وتحسن وضعك، أنا متأكدة بأن جميع البنوك ستحارب فيما بينها لكي تعمل معهم.
أطلق ضحكة صافية من أعماق قلبه:
- تقولين ذلك لأنكِ أمي فقط، الوضع معقد أكثر من ذلك، هناك بنيت اسمي وأصبح لي مركز مرموق، لا أستطيع ترك كل شيء والعودة هنا لأبدأ من جديد كما أن علاج سارة....
قاطعته فقد وصلت إلى لُب المشكلة:
- سارة كل شيء متعلق بسارة ورغباتها وما تحتاجه، ما ذنبي أنا كي أحرم من رؤية أبنائك؟ عُمر أنا أريدك أن تتزوج، حتى وإن لم ترغب في البقاء هنا يمكن أن تزور زوجتك الجديدة وتتأكد من حملها، سارة مصيرها ال....
قاطعها هو هذه المرة؛ حاول أن لا يظهر الغضب الذي أنبثق بداخله من كلامها:
- لماذا أنتِ متأكدة بأن العيب ليس مني، ألم تسألي نفسك سبب سكوتي عليها وعدم فتحي للموضوع من الأساس، أنتِ تلقين اللوم على سارة ومرضها دون حتى أن تسألي عن قدرتي على الانجاب من عدمها.
ضربت صدرها بيدها وهتفت في نفي مؤكد:
- مستحيل أنت رجل بل سيد الرجال كما أن جميع إخوتك رزقوا بأطفال، تقول ذلك فقط كي تدافع عنها.
حافظ على هدوء ملامحه:
- سارة والدتها أنجبتها وهي في منتصف الأربعينات، وإخوتها أنجبوا؛ لكن أخي اضطر أن يقوم بعملية طفل أنابيب وكنت أنا من دفع ثمنها، في الوقت الذي تتباهى زوجته بحملها وتلقي الكلمات السامة على سارة؛ فلو قسنا ذلك على كلامك فمن الطبيعي أن أكون أنا من لا أنجب؛ أمي المسألة ليست انجاب فقط، سارة تحملت معي ومني الكثير، تعرفين بأني مسؤول عن مصاريف كثيرة منها مصاريف أخي وطلبات زوجته التي لا تنتهي، بالإضافة إلى تكفلي بمصاريف زواج أي شخص قريب من العائلة، لا أعرف من وضع هذا القانون لكني أقوم به على قدر استطاعتي، وهي لم تشتكي يومًا، تعرفين بأنها لا تأخذ مني مصروف بل تعمل وتكفل نفسها، هل تعرفين شعوري وأنا لا أستطيع تلبية احتياجات زوجتي لأني مسؤول عن جهاز جميلة أو حنان أو حتى شخص لا أعرف اسمه ولن أقابله يومًا في حياتي لأن أبي قال ذلك في مجلس الرجال؟
عقدت حاجبيها:
- هل تمن علينا بما ترسل من مال؟ أهذا ما تعلمته من الغربة يا ولد؟
مسح وجهه بكفه وزفر في قلة حيلة: لا أمِنُ على أحد لكنكم تحملوني فوق طاقتي، لم يسألني أحد يومًا إذا كنت أستطيع أن أتكفل بكل ذلك، بل لم يقم أحد بمساعدتي في زواجي أو حتى في مصاريف علاج سارة.
عقدت ذراعيها وأشاحت بوجهها للجهة الأخرى، فقد أحست بفداحة ما فعلوه بحق ابنهم، حملوه فوق طاقته، في البداية كانت طلبات عادية كالمساعدة في جهاز أخواته أو مستلزمات البيت عندما قرر والده توسيعه، لكن بعد زواجه من سارة أصبح أكثر من ذلك، تعدى العائلة ليصل لبقية الأقارب، وزوجة ابنها الآخر لم تشبع يومًا، خصوصًا وأنه لا يستطيع الانجاب بطريقة طبيعة، هذا جعلها تتحكم أكثر، تعترف بأن ما فعلوه لا يرضى الله أبدًا، لكنها فعلت ذلك لعله يمل ويعود، لا تكذب تعرف بأن زوجها أصبح يحب التفاخر أمام وجهاء القبيلة بأنه يساعد الجميع بمال ابنه، بناته أصبحن يعتمدن عليه لدرجة جعلت أزواجهن لا يصرفون عليهن.
أمسك عُمر يدها وهو يربت عليها في حنان، لطالما كان عُمر الأكثر حنانًا بين أخوته.
- أمي أنتم لا ترون إلا جانب واحد من سارة وهو ليس صحيح، أنا أعيش مع امرأة لم تشتكي يومًا تأخري في العمل، وقلة خروجنا معًا، لم تطلب مني أي شيء، تصدقيني بأني لم أشتري لها حتى حلق جديد منذ زواجنا، وهي لم تبالي أبدًا، رغم معرفتها بأني أرسل الأموال لكم، لم تعارض أبدًا حتى عندما تواجهنا ضائقة في دفع الإيجار وغيره تقوم هي بالسداد عني، سارة تحرص عليَّ أكثر من حرصي عليها؛ ثم أنتِ إنسانه مؤمنة أين الرضى بالقدر؟ لماذا أرفض مرض سارة وأبحث عن غيرها، ماذا لو كنت أنا المريض هل سيكون هذا رأيك؟ أمي سارة هي قدري، أرجوكِ لا تحاولي إبعادي عنها لأني لن أفعل، حتى الموت لن يفرقنا.
انخلع قلبها من كلماته رغبت في الرد عليه، لكن صوت الهاتف صدح ليجيب عُمر ويذهب مسرعًا دون حتى أن يعلمها بوجهته.
*******
بناء على طلب من تالين تجنب ساجي ملاقاة غسق، كان يتواجد في الحضان حيث يقبع طفلاه في أوقات يعرف بأنها ليست هناك، يقضى طول الليل على كرسي في غرفتها وهي نائمه لا تعلم بوجوده أو هذا ما يظنه، يخرج قبل شروق الشمس، يعرف موعد دوائها فيخرج قبل أن تستيقظ، لم تمانع تواجده رغم رفضها رؤيته، ليس حبًا بل غضبًا منه؛ يجب أن يتحمل القليل من المسؤولية معها، هي لا تستطيع اتخاذ جميع القرارات الخاصة بحالة طفليها، فحالتها النفسية منهكة جدًا، يكفي ما عانته وقت الولادة، ليس فقط بأنها اضطرت لإجراء ولادة قيصريه ضد رغبتها، بل الرعب الذي أصابها عندما رأتهم يحاولون إنعاش طفلها، كان قطعه لحم ملطخة بالدماء مزرقة، لم تسمع صراخ أي من طفليها مثلما يفعل باقي الأطفال، رأتهم وهم ينعشون أحدهما ويضعون الآخر في عربه ذات غطاء شفاف وقد وصل جسده الصغير بعدة أسلاك، إلى هذه اللحظة لازالت ترتعش عند تذكر منظره، مر على وضعها عشرة أيام، وقد قرر الاطباء عدم إجراء الجراحة لصغيرها، حمدت ربها لهذا الخبر، يعني ذلك بأن حاله أفضل، إلا أن ضميرها يخبرها بأنها السبب، ربما أهملت نفسها كثيرًا في الآونة الأخيرة بالرغم من معرفتها بحالتها، ربما كانت مخطئة في حملها من الأساس، فرح محقه، هي أرادت أن تجبر ساجي على حياة هو لم يردها، أدخلت روحين ليس لهما ذنب في صراع فقط لأنها أرادت شيئًا لم تتجرأ وتطلبه علانية، يا إلهي كم هي أنانية، لم تسيطر على نفسها هذه المرة فتركت دموعها تنزل بغزارة على خديها، وهي تحاول إرضاع صغيرها تيم، هذا ما أطلقه عليه ساجي، تيم وتيام هل يعتقد بذلك بأنها ستغفر له؟ لأنه اختار أسماء تعني العشق، يا إلهي لابد أنه لم يفكر في غفرانها من الأساس، متى طلب منها السماح أصلًا، لطالما أخطأ في حقها وسامحته دون أن يطلب منها ذلك، فهو واثق من حبها وخضوعها له، تعدى الوضع بأنها هي من كانت تقوم بطلب السماح منه، تذكر مره تشاجرت معه لأنها ضاقت ذرعًا من تحكمات أمه، رغمًا من أنها لم تخبره بذلك، لكنها هددت لأول مرة قائلة:
- يجب عليك أن تختار إما أن نسكن في منزل خاص بنا بعيدًا عن هنا أو لن أبقى معك.
هي حتى لم تتجرأ وتهدد بالطلاق، صدقت فرح عندما نعتتها بالجرو؛ وقتها لم يرف له جفن قال لها:
- افعلي ما شئتِ لم يولد بعد من يقوم بلوي ذراع ساجي.
هجرها حرفيًا، حتى في العمل قام بإعطائها إجازة مفتوحة، ولم يعد لمنزل المزرعة، كانت تلك الفترة التي قررت فيها الحمل بعد أن سمعت بتلميحات تقرب روبين منه، ورأت صورهما معًا، بل إن روبين جاءت لمنزل المزرعة الذي كانت تستحقره وأخذت تتجول في الغرف؛ كيف لم تستنتج ما يحدث خلف ظهرها، يا لها من غبية؛ ذهبت هي إلى ساجي تصالحه ، بدأت بعدها رحلتها للحمل .
ربتت الممرضة على كتفها لتخرج من ذكرياتها المؤلمة؛ رفعت عينيها المملوءتان بالدموع لتبتسم لها وهي تحثها لتعطيها تيم وهمست:
- لا يجوز أن ترضعيه وأنتِ تبكين، شعورك بالحزن سينتقل له عبر الحليب.
حاولت التمسك به: انتظري قليلًا فقط، فليس لدي حليب كثير دعيه يرضع مني ولن أبكي.
ابتسمت لها الممرضة فهي معتادة على ذلك، معظم أمهات الخدج، يكن في حالة نفسية سيئة:
- لا تقلقي، لن ينشف حليبك الآن فقط تعالي عندما تهدئين قليلًا، هذا من أجله هو.
أعطته لها بعد ان اقتنعت بكلامها، شيءٌ واحد أقسمت عليه؛ لن تقوم بأي شيء قد يضر طفليها، حتى لو كان ضد رغبتها الشخصية.
خلف الزجاج كان ساجي يراقب وقد تقطع قلبه لمنظرها وهي تبكي، غسق لا تبكي بسهوله، ليس بعد أن كبرت وأصبحت امرأة ناضجة، كم يود لو استطاع ضمها إليه كما كان يفعل عندما كانت تبكي بسبب جده، ما كان مباح أصبح محرمًا، لا يصدق ذلك؛ لم يلاحظ خروج غسق من غرفة الخُدج، سمع صوتها يكلمه، لا لم تكن غسق! تلك النبرة لم يسمعها منها من قبل وكأن روحًا شريرة تلبستها:
- ماذا تفعل هنا؟ بأي حق تسمح لنفسك بأن تختار أسماءً لأولادي؟ متى كنت والدهم، أنت لم ترغب بهم من الأساس، هل نسيت ما قلته، وما جعلتني أفعل؟
شعور غريب بداخله، شوق ورغبة ملحة في احتواءها بين ذراعيه، تلك الليلة التي قضاها بجانبها لم يجرؤ على لمسها، كان يخاف من أن يوقظها إذا فعل، كما أنها لم تعد حلاله، كم هو شعور قاتل! كيف حدث ذلك؟ لماذا سمح به من الأساس؟ كان يعتقد بأنه سيردها لعصمته قبل انتهاء العدة لكن القدر لم يمهله؛ بدت له مكسورة نظرتها تشع ألمًا، برغم كلماتها القاسية، إلا أنه استشف الألم بها، معها حق من يلومها؟ هو فقط يريد أن يزيل كل هذا الألم وبعده عنها، يحميها ويحمي طفليه كما كان دائمًا يفعل دون إخبارها بشيء.
صرخت به هذه المرة:
- اذهب من هنا لا أريد رؤيتك.
بهدوئه المعهود:
- غسق أعرف ما تشعرين به الآن، لأني أشعر به مثلك، طفلينا في الحضان، لكني متأكد من نجاتهما، فقد ورثا منكِ قوة التحمل وتخطي الصعاب، أنا واثق من ذلك.
لم تجبه، فشعر بأن ثورتها هدئت قليلًا ، فتابع مستغلًا ذلك:
- غسق يجب أن أعيدك إلى ذمتي في أسرع وقت كي نُكَون أسرة معًا.
قاطعته بضحكة ساخرة تحمل من المرار ما تحمله من سخرية:
- تعيد من ؟أنا! هذه أكثر نكته سمجه سمعتها في حياتي.
ركزت نظراتها عليه كي توصل له كلماتها بدقه، فهي لا ترى ساجي حبيبها أمامها بل ترى رجل كسرها، خذلها، تسبب في خسارتها لكل شيء حتى احترامها لذاتها:
- ألم تتزوج من حبيبتك وأقمت لها زفاف يليق باسمها؟ ألم تنكر زواجي منك، وطلقتني بكل سهولة؟ ألم أكن شخص فُرض عليك؟ لماذا تريد أن تعيدني لعصمتك؟ لا تقل من أجل الطفلين، أنت لم ترغب في وجودهما من الأساس.
- غسق لا تحكمي عليَّ دون أن تسمعي مني على الأقل، أعترف بأني أخطأت في حقك، لكني أحبك جدًا صدقيني، روبين كانت لا أعرف ماذا؟ ربما نزوة أو رغبة في فرض رأي على أبي، ربما هي لحظة تمرد منذ المراهقة قررت أن أفعلها دون أن أعي المخاطر، لكنها لم ولن تكون يومًا حبيبتي، أنتِ....
اقتربت منه وقد أحمر وجهها من شدة الغضب:
- هل يجب أن أصدقك الآن وأركع عند قدميك فرحًا، أنت لم تهتم يومًا لمشاعري، بل لم تهتم لوجودي من الأساس؛ ألم تجعلها زوجتك وقبلتها؟ ألم تعاشرها؟ ألم تكن السند لها في مرض والدها؟ لا تكذب لقد رأيت الصور.
ابتلعت ريقها وعقدت ذراعيها:
- أنا سوف أتزوج من آدم وأقيم عرسًا يليق بي، تعرف أني لم أقم واحدًا من قبل، آدم سيكون زوجي الذي يحضنني ويواسيني كما يجب؛ أما أنت لن تكون سوى الرجل الذي يحمل أطفالي اسمه، أنا أكثر منك كرمًا وسوف أخبرك بموعد الزفاف يمكنك الحضور إذا رغبت وطبعًا زوجتك معك.
لم ينتبها إلى الذي يقف خلفهما وقد سمع آخر كلام غسق فامتلأ قلبه بالفرح، ولا إلى تلك التي بجانبه وقد شعرت بأن قلبها أصيب بسهم في سويداء القلب!*******
يتبع