الفصل التاسع والثلاثون
مرت عشرة دقائق ولم تتوقف عن النقر بكعب حذائها بحركة تدل على توترها أو ربما عدم رغبتها في الوجود بهذه الغرفة، بل في المبنى بأكمله.
صحيح أنها طبيبة وتعترف بالعلاج النفسي عكس الكثير من البشر، لكن كون شقيقها من أجبرها على ذلك جعل الأمر مرفوض لديها، الشيء الوحيد الذي جعلها تلين وتوافق لتأتي لهذه الجلسة، هو أنها ومنذ ذلك العشاء الكارثي بالنسبة لها، فقد قلبت حياة شقيقها لنوبات متواصلة من الصراخ والمشاجرات المفتعلة، حتى كان أن يطردها من منزله، لم يقلها بلسانه لكن بقائه خارج البيت لساعات طويلة أنبئها بأنه يتجنبها؛ ولن تجازف بخسارته هو الآخر.
قالت المعالجة بابتسامتها العذبة:
- طبيبه فرح يشرفني قدومك مهما كان السبب.
رسمت ابتسامة سمجة على وجهها دون أن تجيب لعدة دقائق ثم قالت بنزق:
- لا يوجد سبب معين، فأنا لا أعاني من مرض نفسي جئت فقط لأن أخي طلب مني ذلك.
- ومن قال أن المرضى النفسيين هم فقط من يلجؤون للعلاج النفسي؟
ثم أنا معالجة نفسية ولست طبيبة تعرفين الفرق صحيح طبيبه فرح؟
شعرت بأن دلو من الماء قد سُكِب عليها، هي دون الكل يجب أن تنتقي كلماتها جيدًا وليس أن تقوم بمحادثها بتلك النبرة المتعالية.
ازدردت ريقها وقد توقفت عن النقر:
- أعرف طبعًا، أنا فقد لا أحب أن يجبرنِي أحد على شيء.
وضعت القلم والدفتر من يدها لتقول بنفس النبرة:
- لا أحد يجبركِ على البقاء، يمكنكِ الذهاب الآن إذا أردتِ ولن أخبر شقيقك بالطبع.
ختمت كلامها بغمزة من عينها، لتشعر فرح بالحرج الشديد، لدرجة أن وجهها تحول إلى اللون الأحمر القاني، مرت بضع دقائق قبل أن تقول بصوت خفيض:
- لقد تخطاني بسرعة الصاروخ، ألا يكفي بأنه قام بتطليقِي؟ بل أحضر معه الديك الشركسي ليتضاحك معها أمامي بكل وقاحة، هل تصدقي بأنها لاحظت نزول وزني وهو لا! سراج الذي كان يلاحظ إن كان شعري ذيل حصان أو حمار!، لم يلاحظ أني خسرت أكثر من نصف وزني؟ لم يعلق بكلمة، والأسوأ بأنه لم ينظر لي بالمرة، يا إلهي لا أصدق! لا يكفِي بأنه خائن وأيضًا أعمى!
عقدت المعالجة حاجبيها وهي تحاول حل الأحجية التي ألقتها فرح؛ عدلت نظارتها وقالت في استفسار:
- هلا بدأنا من البداية؛ من هي الديكي الشركسي وما علاقتها بمطلقك؟ وماذا تعنين بكونه خائن؟
أخذت فرح شهيقًا وأخبرتها قصتها مع سراج منذ أن تعرفت عليه في منزل زوجة والدها إلى الآن دون أن تغفل عن ذكر تفاصيل علاقة بسابين.
بعد أن انتهت كانت تلهث بشدة مثل الذي يعدو في مارثون التسعة أميال، كل ذلك والمعالجة لم يظهر عليها أي تأثير.
تركتها تأخذ نفسها ثم قالت برتابة:
- حسنًا بما أنكِ رفضت أي مبرر منه وقررتِ رفع قضية خلع عليه وهو في مسجون بتهمة تقولين بأنه بريء منها، وعند أول زيارة له بعد انقطاع لمدة طويلة قام بتنفيذ طلبك مع إعطائك كل حقوقك، لماذا أنتِ غاضبه منه؟
عقدت حاجبيها وقد انخفضت نبرة الهجوم في صوتها:
- لقد صغتِ الموضوع بطريقة جعلتني نذلة وحقيرة، هو من قام بخيانتِي ثم خطب عليَّ نفس المرأة التي بالمناسبة التعيسة أصبحت زوجة أخي؛ هل تطلبين مني أن أعفو عنه؟
- لا طبعًا لا أطالبك بشيء؛ لا أحد يستطِيع طلب ذلك منك، المسامحة والعفو مقدره تختلف من شخص لآخر، هناك من يقدر على المسامحة بطريقة تجعل البعض يظن بأنه لا كرامة لديه أو أنه لا يقدر نفسه، وهناك العكس الذي لا يسامح أبدًا مهما كان الخطأ صغير؛ ذلك ليس له علاقة بحجم الخطأ أو طيبة الشخص؛ له علاقة بقدرته على المضي في حياته.
- لا أفهم ماذا تعنين؟
- ببساطة هناك من لديه القدرة على المضي بحياته دون التأثر بالماضي أو الوقوف عند الأخطاء، ربما يكون ذلك عدم كرامة للبعض أو ضعف أو طيبة حتى أو أي ما يطلقه عليه الآخرون؛ والبعض لا يقف عند كل الأخطاء
والعثرات والفشل أيضًا.
انتفضت الأنثى النمر بداخلها واستعدت لخوض حرب ضد تلك الفتاة التي تدعي بأنها تفهم خبايا البشر وتحل عقدهم؛ لترفع حاجبها وتقول في هجوم واضح:
- هل تعنين بأن قلبي أسود وأعيش على أطلال الماضي؟
- لا بالطبع، رفضتِ ما قام به زوجكِ أقصد مطلقك واخترتِ الطلاق، أهنئكِ! أعرف بأن الكثير من النساء لا يقدرن على اتخاذ هذه الخطوة.
لكن لماذا أنتِ غاضبه من تجاهله لكِ؟ أعتقد بأن ما فعله طبيعي نظرًا للوضع الحالي، أما بخوص رفيقته تلك فهو رجل حر لا يحق لكِ لومه.
بصعوبة كبيرة استطاعت كبح جماحها كي لا تهجم عليها وتقطعها إربًا، أي وضع يسمح له بإحضار أخرى وتجاهلها كليًا!
رفعت رأسها تنظر لها بعد أن سمعت صوتها يقول:
- أما قصة بأنكِ ربطتي زوجك بوالدك فهي غير منطقية بالمرة، لقد تزوج والدك بعد أن أخبر والدتك بقراره إذن هو ليس خائن، كون والدتك قبلت لا يعيبها في شيء الكثيرون يتزوجون على زوجتهم، هذا شرع الله حتى وإن صعب تقبلنا له، أما أنه ابتعد عنكم فهي مسألة أخرى، أعتقد بأن مطلقك تزوجك عن حب إذن العذر الأهم لزواج والدك غير موجود.
أسندت رأسها على ذراعها التي تستند بدورها على الكرسي لتقول باستهزاء:
- تصدقي معك حق! أمي هي المخطئة، ربما يجب عليَّ أن أعتذر من زوجة أبي وأطلب الصفح منها لأنها مظلومة.
- لستُ في موقع يخولنِي أن أقول من الظالم ومن المظلوم! ولا أطالبكِ أن تعتذري لأحد، والديكِ قد فارقا الحياة وأعتقد بأنكِ قد وضحتِ وجهة نظرك لوالدك كثيرًا وأخبرته بحقيقة شعورك تجاهه، هل أنا محقة؟
عادت بذاكرتها لقبل وفاة والدها، نعم هي أخبرته بحقيقة مشاعرها منذ اليوم الأول الذي خطته قدميها منزل القاسم؛ لم يقل غضبها ولا نفورها منه كما أنها حملته ذنب موت والدتها بالكامل؛ صحيح لم تكن وقحة معه مثل ما كانت مع فريدة، لكنها لم تقبل منه يومًا اعتذار، أو أن تقبل تقربه منها بأي طريقة كانت.
بعد أن أعطتها فرصه للتفكير تابعت:
- من الواضح أني محقة؛ لا ألومك بالطبع فلكل قرار واختيار عواقب، ووالدك اختار، لكن لا أفهم لماذا تصرين أن مطلقكِ نفس والدك؟ مما فهمته أنه تزوجك عن حب، إذن لماذا كنتِ تتوقعين بأن يكون مصيرك مثل والدتك؟
حركت يديها بعصبية وهي تكز على أسنانها غيظًا:
- لم تسمعِي من كلامِي سوى هذا، لقد أخبرتك بأنه خانني مع تلك.... التي تزوجها أخي.
عرفت المعالجة عن من تتحدث فرح بسهولة فهي من قامت بعلاجها سابقًا، لكنها لم تخبرها بهذا بالطبع فقد فهمت أن شقيقها أصر بأن تأتي إليها لأنها على إطلاع على القصة من كافة الجوانب.
- خانكِ كما قلتِ وأنتِ قررتِ الانفصال نقطة انتهى؛ كون شقيقكِ استطاع أن يتخطى كل العوائق ويقرر أن حبه لتلك المرأة أهم من ماضيها، يوضح بأنه رجل واثق من نفسه جدًا وكما يدل على أنه قرر دفن طفولته وما حدث بها ويكتفى بالحاضر والمستقبل، فرح، اسمحي لي بمناداتك باسمك دون ألقاب.
هزت فرح رأسها بالإيجاب دون أن يخرج حرف من شفتيها المنفرجتان في تفكير عميق بكلام هذه المرأة التي تكاد تقسم بأن شكلها يوحي بأنها لم تفارق المراهقة بعد، لكنِ كلامها يعطيها عمرًا يقدر بقرون لحكمته.
- حوادث الطفولة أشبه بالخدوش التي تُترك على السطوح إما أن تجف لتصبح إسمنتية فلا تمحى تلك الخدوش بل تتعمق وتصبح تصدعات أو تصبح رخام لتعطي منظرًا خلابًا، قد لا نختار طفولتنا لكن بيدك أن تختاري مستقبلك، إذا أردتِ استعادة زوجك تعرفين الطريقة! وإذا قررتِ بأنكِ لا تريدين ذلك لا تتذمري إذا خرج مع أخرى، أما شقيقك واختياره لزوجته فهذا حقه وحده لا يمكنكِ فرض رأيكِ عليه مهما كانت نظرتك لتلك المرأة، لا أعتقد بأن شقيقك قام بفرض الزواج أو الطلاق أو أي شيء يخص حياتكِ عليكِ كما فهمت منك.
كانت ملامحها تصرخ رفضًا لكلام تلك المعالجة، لكن عقلها يوافق على مضض، لا تستطِيع إنكار بأن معظم ما قالته صحيح لدرجة مؤلمة، هل حان الوقت لإعادة الحسابات من جديد؟ أو ربما حان الوقت أن تقرر كيف تمضِي بحياتها؟ ومع من؟
خرجت من عند المعالجة بعد قرابة الساعتين لتأتي السكرتيرة وتخبر المعالجة بأنها لم تحدد موعد للجلسة القادمة.
ابتسمت المعالجة وقالت بهدوء وهي تضع دفتر ملاحظات فرح في خزانتها:
- لأنها لن تأتي مرة أخرى.
******
خدعوك فقالوا إن الضربات التي لا تقتلك تجعلك أقوى، دعوني أحدثكم عن الناجين من الضربات القاتلة...
الناجون من الضربات القاتلة يمكنهم أن يحدثوك عن ذلك الخوف الذي يلازمهم بقية حياتهم، الخوف من اﻷيام، الخوف من ضربة جديدة، يمكنهم أن يحدثوك عن كيف فقدوا الشعور باﻷمان والثقة في اﻵخرين، وربما الثقة في أنفسهم.
الناجون من الضربات القاتلة يعيشون وحيدين، مهما كان الزحام حولهم هم يعلمون جيدًا أن الجميع سيهرب من حولهم حال تلقيهم ضربة!
الضربات القاتلة تجعلك قويًا، لا يعرف أحد شيئًا عن الأنقاض التي تحملها بداخلك.
وقفت مصدومة بما رأته...
ساجي يجلس على أرضية الصالة وقد خلع حذائه! في حضنه تيم وتيام يجلس بطريقة منحنية للأمام يرمي ثقله على ذراعيه الصغيرتين أما تالين تجلس على الأريكة تبتسم في سعادة ولا وجود للمربية!
أول مره تشعر بفائدة دروس اليوغا التي أصرت سارة عليها لتحضرها؛ ها هي تتحكم في تنفسها بفضلها حتى لا يظهر عليها أي تأثر، نجحت في ذلك بامتياز حتى أن ساجي أخذ يتطلع إليها لمدة طويلة دون أن تتحرك بها عضلة أو يظهر أي تأثير لوجوده عليها.
جال بعينيه عليها يمسحها من أعلاها لأسفلها، كما ذكرته بتلك الفتاة التي رآها أول مره عند عقد قرانهما، شعرها القصير وجهها الخالي تقريبًا من مساحيق التجميل، ملابسها، البنطال الضيق مع القميص القطني ذو اللون الأحمر وفوقه سترة خفيفة لا تحمي من البرد فقط تعزز شكلها الطفولي، الفارق الوحيد هي انحِناءات جسدها البارزة فهي لا تمت للطفولة أبدًا، بل يكاد يجزم بأنه حجمها زاد ليصبح أكثر إغراءً من قبل، نعم جسدها أصبح جسد امرأة مكتملة الأنوثة.
لكن مهلًا هناك خطأ في الصورة! تلك النظرة الباردة هي مالم يتوقعها منها أبدًا لم يظهر عليها شيء من الشوق واللهفة أو حتى الغضب، الحزن، أي شيء توقع منها كل ردود الفعل من الفرح والاشتياق إلى الغضب والصراخ به وبل ربما طرده من منزلها، توقع أن يحمر وجهّها خجلًا أو حتى يشحب لرؤيته، لكن هذا البرود!
عم الصمت على المكان لعدة دقائق حتى من صوت ضحكات طفليها كأنهما يخشيان من القادم.
لتقطعه تالين قائلة بحذر وهي تقترب من غسق:
- ما رأيك بهذه المفاجأة؟ أنا نفسي لم أكن أعرف بحضوره فقد هاتفني من المطار ليخبرنِي بأنه وصل ويريد أن يرى الأطفال أولًا.
تابعت وهي تحاول رفع الإحراج خصوصًا وأن غسق لم تبدي أي ردة فعل:
- أتصدقين بأنه أتي هنا قبل أن يري حكيم وزين، كان مشتاقًا للطفلين بشدة، كما أنهما اعتادا عليه بسرعة ولم يستغرباه، أعتقد بأنهما نادياه بابا حتى.
رفعت غسق حاجبها في استهزاء واضح وعقدت ذراعيها:
- مشتاق للطفلين!
ثم هزت رأسها ورسمت ابتسامة لا تقل استهزاء:
- أين المربية؟
كان ساجي هو من رد هذه المرة:
- لقد ذهبت منذ فترة، طلبت الانصراف فسمحت لها.
- وبأي صفة تسمح لها بالضبط؟ أتعتقد بأني صدقت قصة شوقك للطفلين تلك؟! لابد وأن لديك عمل مهم هنا وإلا ما أتيت وتركت سراج دون أن تحل مشكلته تمامًا؛ لا تحاول خداعِي ولا تفكر في ذلك حتى، من يترك طفله في الحضان بثقب في القلب ويذهب ليواسي امرأة أخرى لا يتذكر فجأة بأن له طفلين ويشتاق لهما.
شعر بأنه أصبح مثل الهدف الذي تخترقه السهام المتتالية حتى يصل أحدها للمنتصف فيتوقف الرمي، إلا أن سهامها كانت مغموسة بوقود أشعل النار بداخله؛ نار يستحقها بكل تأكيد حتى وإن كان عذره محاولة إنقاذ شقيقه، لكنه خذلها وخذل صغيره وتركها لأفكارها دون مبرر ولا كلمة تمنحها الصبر وتخفف عليها بل هي لن تصدق الآن أي عذر له.
استقام من جلسته وأخذ تيم في حضنه ثم وضعه في مهده وفعل المثل مع تيام! - لقد تأخر الوقت، هيا تالين سأوصلك للمنزل وأسلم على حكيم والصغير.
اتجه ناحيتها أو هكذا اعتقدت غسق لتعود للوراء، لكنه تخطاها وانحنى يرتدي حذائه فتبعته تالين من دون أن تنطق بكلمة.
******
في اليوم التالي ذهبت للاجتماع وهي غاضبة بشدة وقد ظهر عليها عدم النوم، لم تستأذن بل انطلقت تتكلم عن الذي حدث بمجرد أن جلس الجميع.
بعد أن انتهت من كلامها سألتها الطبيبة:
- هل لي أن أعرف سبب هذه الثورة بالضبط؟
زمت شفتيها وهي تجيب من تحت ضرسها:
- ماذا تعنين بما هو السبب؟! ليس فقط وجوده في منزلي بكل وقاحة وكأنه منزله هو، لا بل يتعامل مع طفلاي بأريحية عجيبة، والأدهى بأنهما فعلًا يلعبان معه ويبتسمان له أكثر حتى مما يفعلان مع عُمر وحكيم؟
قالت المرأة التي لديها خمسة أطفال:
- هذا يسمى رابط الدم؛ ألا تعرفينه؟! أعني دائمًا الطفل يستطِيع تمييز والديه من بين الآخرين، كما أنك سبق وقلتِ بأنه يحادثهم كل يوم بالشاشة طبيعي أن يتعرفا عليه.
رفعت حاجبيها في استنكار:
- حقًا! محادثة في الشاشة لبضع دقائق تجعله الأب المفضل، هو لم يردهم من الأساس وعندما عرف بحملي لم يرحب به بل تركنِي أسافر وأنا مريضه وترك ابنه في الحضان وذهب لمواساة حبيبته، الآن أصبح والد ويشتاق لهما، لا أصدق لا بد أنه يخطط لشيء ما.
لتقول المعيدة بالجامعة:
- ربما يخطط لاستعادة عائلته مرة أخرى، لماذا لا تعطيه فرصة ما دام جادًا في ذلك أم أنك تعاقبينه على وقوفه مع حبيبته؟
كتفت ذراعيها لتقول وهي تهز قدمها:
- هذه نكته الموسم بصراحة! ساجي يعتبرني أسرته؟
- إذن ما هو السبب في رأيكِ؟ لماذا جاء؟ وماذا يريد؟
أشاحت بوجهها وهي تقول:
- لا أعرف ولا يهمنِي، فقط أريده أن يبتعد عن حياتي ولا يتدخل في تربية ولداي.
- لن يقدر على التدخل في حياتك يجب أن تكوني واثقه من ذلك إلا لو سمحتِ له بذلك، أما الطفلين فهو والدهما ومن مصلحتهما أن يتواجد في حياتهما سواء أحببتِ ذلك أم لا، كما أنكِ بحسب كلامك قلتِ بأنه أصبح يهتم بكل تفاصيل حياتهما وذهابهما للطبيب وخلافه، إذن هو يحاول أن يصلح من نفسه من أجل الطفلين على الأقل.
أخذت نفس وقد رأت تأثير كلماتها على غسق يسري مفعول المهدئ فقد سكنت ملامحها وقلت تلك النار المشتعلة في عينيها.
- الانفصال لا يعني ألا تكوني علاقة محترمة مع والد أطفالك، بما أنه ليس مؤذي لكِ أعتقد بأن تحاولِي أن تجدي أرضًا صلبة لتقفِي عندها وتتفقِي على كيفية تربية ولديكما.
لم ترد عليها غسق بل أخذت تفكر في كلامها، هي فعلًا تركت غضبها منه يغلب على مصلحة صغيريها، حسنًا لتعطيه فرصة وسوف يثبت فشله فيها بالتأكيد.
*********
دخلت الصالة الرياضية وهي ترتدي ملابس الرياضة الضيقة تلك التي تبين منحنياتها بكل رحابة، أخذت تبحث عنه في الأرجاء فهي تعرف مواعيده وأنه مواظب على إمضاء ساعة على الأقل في هذه الصالة عندما يتواجد بالعاصمة. لمحته أخيرًا يتريض على آلة الجري وقد ارتدى بنطال قصير يصل إلى ركبتيه واسع مع قميص بحمالات عريضة.
توجهت إلى مكانه ثم وقفت أمامه وهي تعقد ذراعيها، فاختل توازنه عند رؤيتها وكاد أن يسقط من على الآلة لولا أن أستعاد توازنه في آخر لحظة.
اتسعت ابتسامتها المتلاعبة وهي تقول له:
- حاذر أيهم قد تسقط على وجهك فتتشوه ملامحك الجميلة.
نزل من على الآلة وقد تصاعد الغضب بداخله من كلماتها، لا بل من ملابسها الفاضحة:
- ماذا تفعلين هنا بهذه الملابس؟ هناك صالة مخصصة للنساء اذهبي إليها.
مالت عليها تحشره بين الجدار خلفه ويديها اللتان امتدتا لتسدا عليه طريق الفرار ليحمر وجهه خجلًا، وكم أسعدها هذا، فهو رجل ضخم الحجم بالنسبة لها عريض المنكبين، لكنه يخجل من اقتراب أنثى منه.
رمشت بعينها ببراءة وهي تقول بصوت هامس وقد لفحت أنفاسها وجهه:
- أيهم هل تغار عليَّ؟
بالكاد تمالك نفسه من قربها المهلك لكنه لم يقدر على الفرار منها ولا حتـى أزاحتها قليلًا ليمر، بصوت غير واثق تمامًا:
- لا طبعًا، أنتِ تعملين معنا وهذا يضر بسمعتنا، كما أنه يجب أن تعرفِي بأن الأمور هنا تختلف عن الخارج، وأنتِ نصف عربية يجب أن يكون لديك حس أكثر لتقيم الأمور.
- نصف عربية مع عربي كامل ماذا ستكون النتيجة؟
أخذت تنقر على ذقنها في تفكير ثم ابتسمت وقالت:
- شوكولاتة بالكريمة أو ربما عسل مخلوط ب...
وغمزت بعينها
مما جعل وجهه بلون الدم من شدة الحرج، دفعها عنه بحذر حتى لا يلمس الجزء الخطأ من جسدها وانطلق في محاوله منه لمغادرة المكان والهروب منها ربما، لكنها لحقته مسرعة وأمسكت بذراعه حتى توقف وهو ينفث في غضب:
- ميلا كفي عن محاولتك هذه، أنتِ فقط تريدين أن تعيشِي تجربة والديك، الفتاه الغربية التي أغرمت برجل شرقي وتزوجته! أرجوكِ جدي غيري ليلعب هذه اللعبة.
أطلقت ضحكة عالية جعلته يعقد حاجبيه:
- رجل شرقي! هل رأيت نفسك في المرآة عزيزي؟ ملامحك غربية أكثر مني، بل هي غربية جدًا! أنا التي من أب غربي وأم شرقية لا أحمل هذه الملامح، ثم إن قصة حياة والديَّ ليست لعبة، والدي غير دينه وعاداته من أجل تلك الشرقية التي سحرته هل يوجد شيء رومانسي أكثر من ذلك.
زم شفتيه بحركة شبيه بتلك التي تفعلها فرح فأصبح يماثلها شكلًا:
- وماذا ستغيرين أنتِ من أجلي؟
حركت إصبعها بعلامة لا:
- لن أغير شيء! أنت من ستغير هذه العقلية المعقدة وسوف تتزوجني، وأنا من سأجعل من حياتنا قصة غرام لا تنتهي.
اتسعت عينيه في صدمة حقيقة؛ أما هي فقد التفت تعود للداخل ثم وقفت تنظر له وقالت:
- لا تنسى سوف نتزوج قبل نهاية السنة؛ لتنهي أعمالك وتأخذ إجازة طويلة فأنا أريد شهر عسل طويل جدًا جدًا.
وأكملت طريقها كأنها لم تفعل شيء؛ أما أيهم فقد ألجمته الصدمة ليقف لعدة ثواني في مكانه ثم ابتسم في سعادة وهو يهز رأسه، تلك الصهباء سوف تقضي عليه.
*********
أغلقت الحاسوب في غضب لا تصدق القصة من الأساس، كيف استطاع أن ينجو بتلك السهولة، مقتل أبناءه وزوجته ليس صدفة! مستحيل، خصوصًا في المزرعة، لا بد بأنه يخطط لشيء معين أو أنه كشف الطعم، وسام ليس بتلك السذاجة ليجعل سما تنتحر وتحرق أطفاله في المزرعة بكل ما تحتويه من أسرار، هناك قطعه مفقودة!
شعرت بذراع أحدهم تُلف حول خصرها فأغمضت عينيها في محاول للسيطرة على اشمئزازها، لتسمع ذلك الصوت البغيض:
- لماذا أنتِ غاضبة؟ ألم يحدث ما أردته؟!
نزعت يديه يعنف عنها والتفت له بغضب:
- ما هو الذي أردته أيها الأحمق، لقد خرج منها مثل الشعرة من العجين، بل إنه كسب نقطة مع المنظمة، أنا أردت أن يذل ويعاقب لا أن يخرج هكذا.
ذهبت للبار وسكبت لنفسها كأس من النبيذ تجرعته مرة واحدة وهي تفكر، ثم التفت له:
- قل لي ما حدث بالضبط ولا تهمل تفصيله.
حك مساعد وسام رأسه ثم قص كل ما حدث بالتفصيل حتى الجثث المتفحمة التي لا يعرف أحد من أين أحضرها وسام.
حكت ذقنها وقد تكونت فكرة ما في عقلها لكن يجب التأكد منها:
- اسمع جيدًا سأكلفك بمهمة ويجب أن تتمها على أكمل وجه وإلا..
- موافق، والآن ألن نكمل حديثنا بالداخل!
رسم ابتسامه بدت لها مقرفة للغاية لكنها مضطرة لذلك فهي تحتاج له لتنتقم من وسام.
- حسنًا خذ الحبة أولًا أريد أن أستمتع أنا أيضًا.
حك رأسه وقد شعر بالإهانة لتقليلها من فحولته:
- حسنًا سوف آخذها الآن.
- اذهب وانتظرني في الغرفة سوف آتي عندما يبدأ مفعول الحبة.
تركها وبقيت هي تفكر في الرجال الذين مروا بحياتها، أكثر من بهرها كان ساجي، منذ أن قررت أنه الصيد التالي لها وهي تنسج شباكها حوله، حاولت بالإغواء ولم يستجب، بالعمل، بالضعف، بكل الطرق التي تعرفها لكنه لم يضعف حتى ذهبت له مباشرةً وطلبت منه الزواج.
تذكر جيدًا ذلك اليوم...
اتفقت على لقائه في مطعم بحجة العمل واستجاب هو على مضض، هذه نقطة لصالحها ما دام استجاب يعني هناك أمل.
ارتدت فستان سماوي بأكمام شفافة ومقفول من الرقبة أضفى عليها طلة ملائكيه مع تصفيفة الشعر الناعم.
لم تعطه فرصة فبمجرد أن جلس أمسكت يديه ونظرت في عينيه:
- ساجي لماذا نكذب على أنفسنا تعرف سبب وجودنا هنا.
سحب يده منها بسرعة وهو يقول:
- طبعًا أعرف العمل وما غيره قد يجعلني أخرج معك لهذا المكان.
لم تصدمها ردة فعله بل استمرت في خطتها وقد ملأت عينيها بدموع مزيفة كانت قادره دائمًا على استحضارها:
- غير صحيح ما يجمعنا الحب، حب الطفولة والمراهقة والصبا، عندما خطبتنِي ورفضت أنا كان بسبب ضغط من عائلتك.
تغيرت ملامح ساجي وسأل في حذر:
- عائلتي! ماذا تعنين؟
عرفت بأنها ضربت على الوتر الحساس:
- أقصد والدك عمي سليم، اتصل بوالدي وطلب منه أن يرفض طلبك بالزواج حتى تعود لكنفهم، فعلًا عدت بعد فترة قليلة، لكني استغربت بأنك لم تكرر الطلب بل تزوجت امرأة غيري.
قاطعها في غضب مكتوم:
- أبي طلب ذلك؟ هل أنتِ متأكدة؟
نزلت دموعها:
- نعم لقد فعل، هل تريد التأكد من والدي؟
لم يرد، وهي كانت ترتعد خوفًا من أن يسأل والده عن الموضوع، لكن ما فهمته من كلام مُنى بأن العلاقة بينهما ليست بتلك القوة ومن السهل بأن يصدق ساجي ذلك على والده.
- روبين الوقت تأخر وأنا كما قلتِ متزوج، كما أنكِ سبق وخطبتِ فلماذا هذا الحديث الآن؟
رائع هو لا يرفض تمامًا بل يريد حجه.
- لأني لم أتوقف عن حبك أبدًا حتى بعد أن خطبت، تعرف أن مصيرنا مرتبط معًا، كما أنك لا تعلن زواجك من قريبتك لنفس السبب، أرجوك ساجي أنا أموت بعيدًا عنك وأعرف أنك مثلي فكر فقط، عدني بأن تفكر.
لم يقبل شيء لكن سكوته أخبرها الكثير، استطاعت بمساعدة مُنى أن تؤكد له بان والده من جعلها ترفض عقابًا له، وهذه هي نقطة ضعفه التي جعلته يوافق على الزواج منها، كم كانت سعيدة لذلك أخيرا ستحظى برجل محترم.
لكن هذه السعادة لم تكتمل بل لم تشعر بها من الأساس بعد أن قامت بإعلان خطبتهما في حفل الشركة وتلك المشاجرة مع غسق التي ساندها فيها ظاهريًا، لكنه أنبها عليها كثيرًا حتى خشيت بأن تفقده فعجلت حفل الزفاف، وهي ترى النفور في عينيه، كأنه يخبرها بأنه لم يقبل بها إلا رغبة في رد الألم لوالده، لم يتودد لها طوال فترة الخطبة القصيرة، ولا خلال حفل الزفاف بل كان ينهاها على كل تصرف، عندما دخلا معًا لغرفتهما شعرت بأنه يريد الهرب منها فاقتربت هي منه تقبله.
لثواني لم يبادلها التقبيل وكاد أن يسقط قلبها رعبًا، لكنه استجاب بعد ذلك بتمهل شديد كأنه يخاف أن يجرحها أو يكسرها!
هذا جعلها راغبة أكثر لتطيح بكلام صديقتها وتكون هي المبادرة، لم يتجاوب معها كما رغبت بل كان رقيق أكثر من اللازم بالنسبة لها، معظم الوقت يغمض عينيه كأنه يتجنب رؤيتها، تكاد تقسم بأنها سمعته يهمس باسم غسق قائلا:
- لا تخافي لن اؤذيك!
هنا اشتعلت النيران بداخلها! هل يتخيل نفسه مع غسق في ليلة زفافهما؟!
سحبته ناحية الفراش بعد أن نزعت فستانها بنفسها لتريه الفرق بين تلك البائسة وروبين.
سمعت ذلك الصوت البغيض ينادي اسمها ليخرجها من تلك الليلة الأسوأ في حياتها؛ صبت لنفسها كأس آخر وذهبت له كي تدفع ثمن مساعدته لها!
وهي تقسم بان تجعل الجميع يدفع الثمن.
*******
مرت عدة أيام وتحسنت حالة عمر كثيرًا وقرر الأطباء بأنه حان وقت الخروج لذلك قرر حكيم بأن يحتفل بعيد زواجه بحفلة كبيرة بمناسبه سلامة عمر.
ذهب الجميع إلى الفندق الذي حجز حكيم صالته وجعلها تشبه الصالة التي أقيم بها زفافهما، كم كانت تالين سعيدة وقد تشارك تلك السعادة الجميع حتى زهراء التي لم تحضر الحفل الأول لكنها التقطت عدة صور لهما وقد ظهر عليهما
الحب.
كانت غسق تقف وهي تستند للحائط واضعه يديها خلفها، ارتدت فستان أحمر مثلث الصدر ذو أكمام قصيرة وشريط عريض يحدد الخصر ثم ينزل بتموجات كبيرة لغاية الركبة، تركت شعرها كما هو ووضعت القليل من الزينة.
كانت تشبه نفسها في حفل الزفاف فقد ارتدت فستان أحمر أيضًا، كما أنها كانت تحمل نفس نظرة الحزن، هذا ما رآه ساجي بوضوح.
تذكر زفاف تالين فقد كان الجميع سعيد به رغم اعتراض والدته على حكيم لكنها أقامت لها زفافًا كبيرًا، يعرف بأنها أرادت أن تبين لحكيم وعائلته الفرق في المستوى بينهما لكنه لم يتدخل كالعادة؛ كانت تالين تتأبط ذراعه من ناحية والناحية الأخرى والدها ينزل من السلالم الرخامية على صوت موسيقى الزفاف ثم سلمها لحكيم وتجمهر الناس عند أسفل الدرج ليلتقطوا الصور مع العروسان ويرقصوا على أنغام فرقة الزفاف، أما هو فقد أخذ يبحث عن غسق بين الجموع ولم يجدها، وجد فرح ترقص مع سراج فدخل بين الناس يبحث عنها ليجدها تقف تستند للجدار وعينيها بهما نظرة حزن، خمن بأن والدته قالت لها شيء ضايقها؛ اقترب منها وهمس بأذنها:
- لماذا تقفين لوحدك؟
هزت كتفيها وقالت بصوت محشرج:
- لا أحب الزحام.
مال عليها وهو يهمس بخبث:
- أعتقد بأن لديَّ حل للمعضلة، فقد حجزت لنا جناح العرسان فوق، ما رأيك بأن نجربه.
نظرت باندهاش:
- وتترك الحفل في أوله! ماذا ستقول والدتك؟
وضع يده خلف ظهرها ليحثها للمشي معه:
- لا يهم لدي الكثير لأقوله أنا لكِ.
يذكر نظرتها المبهورة عندما شاهدت تزين الجناح ببتلات الورد وتلك الشموع، هو أيضًا لم يتوقع ذلك في الحقيقة.
نظرت له بامتنان:
- هل طلبت منهم ذلك؟ فعلت ذلك من أجلي؟
- حسنًا لن أكذب لم أفعل، أنا فقط حجزت جناح العرسان لابد بأنهم توقعوا بأنه للعروسين.
ظهرت الخيبة في عينيها لكنه أسرع يحتويها في حضنه ليسمعها غزلًا جعلها تذوب بين ذراعيه مثل كل مرة.
اقترب منها في محاوله لفتح حوار معها، فهي لا تتواصل معه رغم سماحِها له بقضاء وقت طويل في منزلها، فقط في العمل ولا تتحدث إلا فيه؛ قال بصوت خفيض:
- لقد ذكرني شكلك بليلة زفاف تالين، كنتِ حزينة يومها أيضًا.
لم تتأثر، فقد قالت بتحدي:
- وهل تعرف سبب حزنِي يومها؟
- طبعًا أعرف لابد أن أمي قالت ش..
- خطأ!
قالت مقاطعه وقد تحركت لتكون مقابلة له وهي تنظر في عينيه بكره:
- كنت حزينة لأني لم ولن أحظى بزفاف مثل شقيقتك بسببك وبسبب خالي الغالي حرمت من أبسط حقوقي؛ أنت حتى لم تسألني يومها عن السبب كالعادة المهم عندك أن تنال غايتك؛ أما أنا ومشاعري فلا يهم، لا تحاول ساجي ليس لديك رصيد كافي، في الواقع ما أحمله لك من مواجع وإهانات لا يكفي العمر ليمحيها.
ذهبت لتجلس في طاوله والدي عمر وتركته مصدوم من كلامها، هو فعلًا لم يفكر يومًا بالذي حرم منه غسق.
صوت رنين الهاتف قاطعه ليضعه على أذنه برتابة بعد أن شاهد اسم سراج:
- ساجي كارثة! لقد تم القبض على أمي.
****
يتبع