الفصل الثاني والأربعون
انتهى من إجراءات السفر بسرعة، فهو لا يحمل معه سوى حقيبة صغير تحتوي على بعض الأوراق والقليل من الملابس.
رغم قدرته المالية على شراء طائرة خاصة، لكنه قرر عدم لفت الأنظار له، فقد ادعى أنه غير قادر على العيش في البلاد بعد أن خسر زوجته وأولاده.
لم ينسى أن يأخذ جميع أموال سميحة بعد أن قام بِبيع ممتلكاتها بتاريخ قديم، كما سحب أموالها من البنوك وحولها للخارج بطرقه الملتوية كالعادة.
جلس في مقعده بدرجة رجال الأعمال، هذا لم يقم بالتنازل عنه فهو يستحق الأفضل عندما وصل لوجهته بعد عدة ساعات وجد مندوب من المنظمة في انتظاره، استقل السيارة معه وهو يشعر بأنه ملك الكون فقد انتهى من سما والمزرعة التي أصبحت موضع للشبهات منذ حادث قتل سعد وملاك.
وصل لضواحي المدينة لتدخل السيارة لطريق ترابي غير معبد، بعد مدة طويلة اتخذت السيارة طريقًا آخر بين الجبال ليظهر قصر كبير محاط بالجبال من كل الجهات كأنها تحرُسه وتمنع دخول المتطفلين له، كلما تقدمت السيارة نحو القصر كان هو يتخيل نفسه مالكًا له، هذا هو السبب الرئيسي لدخوله المنظمة، فقد سمع عنها كثيرًا وهو من انضم لهم بإرادته لم يُجبر على ذلك مثل معظم أعضاء تلك المنظمات، غرضه لم يكن الثراء السريع فقط، فهو من عائلة غنية في الأساس كما يسهل عليه بفضل شخصيته النرجسية أن يتحصل على أموال الغير بكل سهولة ومن دون أي مجهود يذكر فقط بعض الخداع والمراوغة.
الغرض الأساسي كان السلطة، بل السلطة الكاملة، تلك المنظمات تتحكم في مصير الآلاف من الناس ماديًا ومعنويًا، بل في وجودهم على سطح الأرض أو تحته، كما أنها تملك سلطة على الكثير من الدول عن طريق تحكمها في رجال السلطة الذين توفر لهم جميع رغباتهم بطرق سرية سواء كانت تلك الطلبات مشروعة أو غير مشروعة أو غير أخلاقية.
هو الآن قاب قوسين من تحقيق خطوة مهمة في سلم الارتقاء للمنصب الأكبر؛ فقد حقق جميع ما طلبوه منه حتى لم يعارض عندما طلبوا منه بيع أطفاله!
هذا يعني وكما أخبره رئيسه المباشر بأنه سيكون المسؤول الأول عن دول الشرق الأوسط.
لمعت عينيه بنصر وهو يتقدم داخل القصر بعد أن ترجل من السيارة وغادر السائق، لم يلاحظ أنه لم ينزل حقيبة ملابسه من شدة حماسته؛ دخل للبهو الكبير يتأمله وهو يُمني نفسه بأنه سيكون مالكه في القريب العاجل.
قام أحد الرجال من ذوي الأجساد الضخمة بقيادته لمكان الرئيس، تبعه دون مناقشة رغم أنه استغرب عندما وجد نفسه ينزل للقبو وقد تحولت الرائحة من زكية إلى عطنه بالتدريج حتى أصبحت تزكم الأنوف، واجهه ضوء ساطع جعله يغمض عينيه فورًا ثم يفتحهما ببطء لتعتاد عينيه على الإضاءة الجديدة.
ثواني واتسعت عينيه في دهشة وخفق قلبه بشدة في خوف، أمامه يجلس الرئيس على كرسي ضخم مُذهب يحيط به رجاله وآخر شخص توقع أن يكون هنا...
روبين.
*****
تملك منه اليأس وقرر فعلًا الانتحار!
هذا الشي الوحيد الذي قد يعيد الأمور لنصابها، بعد ما عرف باغتصاب غسق بات واثقًا بأنها لن تسامحه أبدًا، كيف تفعل وهو السبب الرئيسي، هو من طلقها وأبعدها لتكون عرضًا لنهش الكلاب.
اعتمد على حبها لها ونسي أنه لم يغذي هذا الحب، إلا بالإهانة والبعد والخيانة، يعرف أن زواجه من روبين لا مبرر له سوى رغبة حمقاء في تحدي والده وإثبات أنه أصبح رجلًا يقرر مصيره رغمًا عن أنف الجميع وأولهم غسق، لما يكمل شخص مثله الحياة بعد كل ذلك؟
عند سماعة لصوت القطار قرر أن ينهي حياته تحت عجلاته عل ذلك يكون تكفير كافي لها؛ توجه لمحطة القطار التي تقبع تحت الأرض وانتظر قدومه ليرمي نفسه في اللحظة المناسبة حتى لا ينقذه أحد!
كان يتفحص سكة القطار كل دقيقة في عجالة حتى لا يعدل عن قراره، حتى سمع صوت أوقفه مكانه.
لم يكن صوت القطار الذي ينتظر بل صوت صراخ طفل ينادي على والده المنشغل عنه بهاتفه، لثانيه رأى طفليه مكان ذلك الصغير الذي يتعدى الخامسة ربما، كيف لم يفكر بهما؟
هو فعلًا أناني حتى عند اتخاذه قرار الموت، بل الهروب بالأصح، الهروب من مواجهة غسق بعد ما عرفه، الهروب من التكفير عن أخطائه ومحاولة تعويضها ولو قليلًا، يعرف بأن طريق عودتهما أصبح صعبًا بل مستحيلًا ربما، لكن على الأقل من حقها عليه أن يعوضها ليس فقط لأنها ابنة عمته وزوجته لعشر سنوات تحملت فيها ما لا تتحمله غيرها، بل لأنها حبيبته التي كان جاحدًا معها حتى بالاعتراف بحبها وحملها ذنب لا يد لها فيه.
انحنى على الصغير ومد له هاتفه ليلعب به حتى يهدأ عن الصراخ، نظر له الطفل باستغراب ومد يده ليأخذ الهاتف، قبل أن يفعل كانت هناك يد أخرى تقذف به بعيدًا.
استقام ساجي ونظر لذلك الذي رمي بالهاتف، ليجده والد الطفل وقد ارتسمت على وجهه علامة الغضب.
فهم فورًا سبب غضب الوالد، في هذا النصف من الكرة الأرضية يرفضون هذه التصرفات من الغرباء تجاه أطفالهم خوفًا من المتحرشين.
فكر في نفسه ربما معه حقه.
ابتسم له قائلًا:
- أعتذر لم أقصد تجاوز حدودي كنت أحاول تهدئته، فقد ذكرني بِصغيراي.
ظهر على الرجل بأنه يريد مهاجمة ساجي لكن صوت صرخات من الخلف جعلت كلًا منهما ينظر خلفه ليريا أن أحدهم قام برمي نفسه أمام القطار! ذلك الذي أراد ساجي قتل نفسه أمامه.
******
وقف خلفها وهو يضمها له بقوة ليروي اشتياقه لها، ينعم بعبيرها الذي حرم منه مرغمًا مرة وبإرادته مرة أخرى.
وهي لا تقل عنه في شيء، فهي اشتاقت له حد الظمأ، وهي التي كان تظن بأنها قادرة على هجره والعيش بدونه، لن تكذب لو قالت بأنها لم تنم ليلة هنية منذ أن قررت البعد عنه، بل لم تنم دون حبوب منومة منذ أن طلقها.
وهي التي كانت دائمًا تنتقد غسق وعشقها غير المشروط لساجي؛ اكتشفت بأنها تعشق سراج مثلما تعشق غسق ساجي بل قد يكون أضعاف ذلك لكنها لم تعلن لأحد ولن تعلن بالطبع، سوى لسراج.
أزاح شعرها لجانب ونزل بشفتيه يلثم رقبتها برقة جعلتها تود خوض جولة غرام أخرى لكنها قررت التوقف قليلًا لمناقشة ما قاله لها في الصباح.
حاولت أن تتكلم بجدية بعيدًا عن تلك المشاعر التي تجتاحها جراء لمساته الخبيرة:
- هل تريدني حقًا أن أذهب لغسق بعد كل هذه المدة! لا أعتقد بأنها ستقبل مني أي كلام! فما بالك بطلبي أن تجعل ساجي يساعد والدتك؟ التي لا تكره في الدنيا أحد أكثر من غسق.
سحبها معه وهو يجلس على الأريكة ويجلسها على فخذيه بعد أن جعلها مواجهة له:
- ساجي يرفض الرد على هاتفه منذ أن أخبرته بأنه تم القبض على أمي، هو حتى لم يسمع ماهي التهمة الموجهة لها هو يظن بأنها سجنت بتهمة الاشتراك في التخطيط لمقتل عمتي.
ظهر على وجهها الازدراء:
- بصراحة معه حق أن يرفض الرد على مكالمتكم، لقد أخبرنِي عمي سليم بانهيار ساجي عندما عرف ما فعلته والدتك في حق عمتك، لولا أن أيهم حكى لي عن تعلق ساجي بها لما صدقت بأن جبل الثلج المصفح لديه مشاعر من الأساس! أصدقك قولًا شعرت ببعض التعاطف معه.
رفع هاتفه على خاصية تصوير الفيديو وهو يقول بمرح:
- فرح تشعر بالتعاطف مع ساجي! حدث يستحق أن يسجل للذكرى.
قفزت من على فخذيه وهي تحاول ستر نفسها:
- توقف سراج عن تلك الحركات، أنا شبه عارية وأنت تقوم بتصويري! ماذا لو ضاع هاتفك أو قام أحدهم باختراقه؟
- لا تقلقِي لم أصور سوى وجهك الجميل، والآن ماذا قررتِ هل ستذهبين عند غسق لتقنعيها بتغيير رأي ساجي؟
- ظهر الحزن على محياها وأسبلت رموشها لتقول في ندم:
- لا أعتقد بأن غسق ستقبل باستقبالِي ما بالك بسماعِي والموافقة على تغيير رأي ساجي، ثم لماذا أنت واثق من قدرة غسق على تغيير رأي ساجي؟! منذ متى وهي تؤثر عليه؟
مسح على وجهها وقبل عينيها وهو يضمها إلى صدره لتريح رأسها عليه تستمع لدقات قلبه التي تنطق باسمها:
- أولًا غسق لن تقوم بطردك أبدًا كلانا يعرف ذلك، أنتِ فقط تخشين الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها بحقها.
رفعت رأسها تود نفي التهمه عنها لكنه لم يمهلها بل أخذ شفتيها بين خاصته في قبلة رقيقة حانية قصيرة:
- الاعتراف بالأخطاء لا يقلل من قيمتك أو يظهرك بمظهر غير لائق، كما أن العلاقة بينكما تسمح بذلك، أليست غسق شقيقتك الروحية؟!
هزت رأسها في موافقة دون أن ترفع وجهها له
تابع وقد شعر بأنها تستجيب لمطالبه:
- أما بالنسبة لتأثير غسق على ساجي فهو أمر واقع لا يمكنكِ إنكاره.
ابتعدت عنه وهي تضع يديها على خصرها وقد ارتفع حاجب واحد فقط:
- تأثير لا يمكن إنكاره! لذلك تزوج عليها في زفاف أسطوري وأنكرها أمام الجميع بعد أن طلقها ونفاها بعيدًا كي لا تغضب منه رأس المقشة.
رفع عينيه للسقف وهز رأسه في يأس:
- عادت ريما لعادتها القديمة؛ وأنا الذي ظننت أنكِ تغيرتِ، بعِيدًا عن ذلك الحدث المؤسف الذي قلب حياتنا جميعًا وأدخل الهم والحزن لمنزل القاسم من أوسع الأبواب، لا يقدر أحد على إنكار تأثير غسق عليه، هي الوحيدة القادرة على تغيير رأيه في الكثير من الأمور، لا تنسي بأنه تغير منذ أن تزوجها أو بالأحرى منذ كبرت غسق وسافرت للدارسة بالخارج، لقد كان ينتظر الإجازات كي يذهب لزيارتها، رغم ادعائه العكس، ربما لأنك لا تعرفين شيئًا عن العمل تقولين ذلك، إنما كل من يعمل معنا ومع ساجي بالذات يعرف بأن لغسق الكلمة الأخيرة في معظم الصفقات وحتى التوسعات التي قام بها كان يأخذ رأيها فيها وإذا رفضت لم تكن لتتم حتى لو وافق باقي الشركاء.
هذه المرة ابتعدت لتجلس على كرسي مقابل له وهي تسند يديها لحافته، وتمسك وجهها بإصبعها السبابة والابهام لتقول في استهزاء:
- نسيت أن تقول بأنه لا يخطو خطوة إلا بأمرها، عن من تتحدث سراج أنا كنت أعيش معكم وأعرف كيف يتعامل كوز الذرة مع غسق، بل شاهدة على كل ما سببه لها من إهانة وكسر قلب، هي من كانت تفعل، كانت تركض ورائه وتنفذ أوامره لعلها تحظى بنظرة رضا منه.
رفع حاجبه بتعجب:
- كوز الذرة!
تابع بجدية:
- نظرتك للأمور كامرأة تختلف عن نظرتي لها كرجل؛ أتفق معكِ بأن ساجي بارد ولا يظهر أي نوع من المشاعر لغسق، لكن منذ متى أظهر ساجي مشاعر لأحد؟
أنا أتحدث من منظوري كرجل، لو لم يثق بها ولم تكن ذات أهميه له لما أخذ برأيها في العمل بل عمل به أيضًا، صدقيني لا يسلم رجل مثل ساجي بالذات أمر عمله لامرأة إن لم تكن مهمة جدًا له ويحمل لها مشاعر.
ضيقت بين عينيها وعدلت من جلستها:
- هل يعني ذلك بأنك تحمل مشاعر للديك الشركسي؟
ردد بغباء:
- ديك شركسي!
وقفت وهي توجه إصبعها السبابة له في اتهام مباشر:
- لا تدعي الغباء تعرف من أقصد جيدًا، بما أنك تدعم فكرة أن من يهتم بعملك يكون له مكانه خاصة في قلبك، إذًا أنت تحمل لها مشاعر وأنا لم أكن مخطئة في اقتلاعي لشعرها، كان عليَّ أن أقتلع عينيها بل لسانها الذي تصيح به.
لاعب حاجبيه في خباثة وهو يقول باستمتاع ينافي الموقف الذي يقترب من الاشتعال:
- فرح تعرف أن الديك يصيح لا يعوي، هذه لوحدها نقطه في صالحك يجب أن تأخذي جائزة عليها.
رغم ما يعتريها من غضب إلا أن كلمته جعلتها ترقص فرحًا من الداخل لتقول بدلال:
- توقف سراج أنا جادة في كلامي.
اقترب منها بتمهل أطرب قلبها وأرضى غرورها:
- وأنا جاد جدًا لقد أحرزتِ تقدمًا في تعلمك لأسماء أصوات الحيوانات، هذا دليل على اهتمامك بعملي أخيرًا.
لم يعطها فرصة لترد عليه بل اقتنص الفرصة لينهل من شهد شفتيها ويغرق معها في بحور الغرام التي لن تصل بهما إلى شاطئ في الوقت القريب.
*******
مرت أقل من ساعة على وجودها بالمستشفى عندما وجدت ساجي يتقدم منها بوجه ظهر عليه الخوف!
القليل منه بالواقع لكن مجرد رؤية ذلك الخوف بعينيه يعد معجزة بالنسبة لها.
أرادت أن تسأله عن تلك المحادثة الغريبة التي جرت قبل أن يسحب هاتفه ويحادثها بنفسه، حيث أخبرها بأن هاتفه سقط منه وأنه الآن في طريقه لها؛ ما استغربته هو وجوده في محطة القطار!
أكثر شيء يكرهه ساجي هو محطات القطار خصوصًا تلك التي تقع تحت الأرض، ماذا كان يفعل هناك يا تُرى.
بمجرد أن رآها اتجه ناحيتها يسأل بقلق:
- أين هو الآن؟
- في الداخل لقد أخذوا تيم أيضًا قال...
تركها قبل أن تكمل واتجه حيث أشارت له، دخل بعد أن طرق الباب لتلحقه وهي تتساءل لماذا لم تدخل قبل أن يأتي؟! هل كانت تخشى من معرفة حالة صغيرها وتفضل أن يكون معها دعم!
دعم! ساجي دعم هل تمزح أما أن كلام مجموعة العلاج بدأ يؤثر بها.
رفعت رأسها لتستمع إلى حديث الطبيب مع ساجي.
- ما حدث ليس خطيرًا بل متوقع في حالة الصغير، لقد أصيب بقليل من البرد، في العادة لا يؤثر كثيرًا على الأطفال لكن كما سبق وأوضحت أن حالة الصغير خاصة لذلك أثر ذلك على تنفسه ليصبح أبطء وبالتالي انخفض معدل دقات القلب لدرجة ظنت الأم معها بأنه لا يتنفس.
بجدية واهتمام قال ساجي دون أن يزيح نظره من على تيام:
- لكنك قلت سابقًا بأن الثقب لن يؤثر على عملية التنفس أو دقات القلب، لماذا تأثر به تيام لهذه الدرجة، خصوصًا وأنه لم يصب بارتفاع في درجة الحرارة، لقد كنتُ معه منذ ساعات ولم تبدو عليه علامات المرض ولا حتى البرد خفيف.
وضع يديه بجيب المعطف الطبي وهو يتحرك باتجاه الباب داعيًا ساجي وغسق للذهاب معه:
- كل ما قلته صحيح، وأنا لازلت عند كلامي تيام شبه طبيعي، لكن ضع في اعتبارك كلمة شبه هذه، كما أنه ولد قبل وقته ومناعته لازالت ضعيفة، الأطفال في عمره يصابون بالكثير من الأمراض وهذا ما يكسبهم مناعة، الفرق فقط بأن والدته خافت عليه زيادة عن اللازم، عمومًا هي معها حق يجب عزل تيام لعدة أيام عن مصدر المرض وكذلك تيم، حتى لا يتفاقم وضعهما.
- إذا كانت حالته ليست خطيرة لماذا لا يعود للمنزل معنا؟
عقدت غسق حاجبيها وهي تردد بداخلها:
- معنا! هل يمزح؟
ابتسم الطبيب له:
- يمكنك أخذه بالطبع لا داعي لبقائه هنا، إذا شعرت بتدهور وضعه وهو ما لا أرجحه اتصل بالإسعاف فورًا.
تنهد أخيرًا بعد أن أخذ الضوء الأخضر ليصحب صغيره للمنزل؛ التفت لينظر لوجه غسق فوجد وجنتيها حمراوان بشدة.
كاد أن يضع يده على وجهها لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة فهي أصبحت محرمة عليه؛ أغمض عينيه وقال بعد أن أنزل يديه للأسفل:
- أنتِ مصابة بحمى هل أخذتِ دواء؟
- ماذا تعني لستُ مصابة بشيء، لا تحاول أن تتهمنِي بأني من نقلت العدوى لطفلي، كف عن إلصاق التهم بي.
- لا أتهمك بشيء، وجنتيكِ محمره أعرف بأن هذا يحدث عندما ترتفع حرارتك بالعادة أو تصابين بالخجل، وبالنسبة للوضع الذي نحن به لا أعتقد بأن السبب الثاني هو السبب، كما أنك ترتعشين، ظننت في البداية بأن السبب وضع تيام والآن أنا متأكد من أنكِ مريضة.
رفعت يديها تتحسس وجهها، هي فعلًا تشعر بالبرد رغم دفء الجو؛ أما هو لم يعطيها الفرصة لتتأكد أكثر؛ نادى على ممرضة لتقيس درجة حرارتها، لتجدها فعلًا مرتفعة عن الطبيعي.
- أنا من سيأخذ الطفلين واعتني بهما، وأنتِ ابقي في منزلك ولا تذهبي للعمل، يمكنك العمل من المنزل لو كان الأمر عاجل، عندما يتحسن وضعك سأعيد لك تيم وتيام.
صرخت به غير آبه للمكان الذي هما به:
- في أحلامك البعيدة، لن تأخذ طفلاي بحجة المرض، أنا أكثر من قادرة على الاعتناء بهما وحمايتهما، هل نسيت بأنك تركت تيام في الحضان بين الحياة والموت وأسرعت تواسي حبيبتك وتقف بجانبها في مأساتها؟ الآن تدعي بأنك تهتم بهما! لن أصدق هذا الدور الذي تحاول أن تلعبه ساجي، أنت لم ترغب بهما من الأساس هي فقط رغبة في امتلاك شيء ضاع منك دون أن ترميه بيدك.
ألن تكف عن إيلامه؟ يعرف بأنه يستحق كل كلمة خرجت من فمها، كل صفعة وجهتها له، كل خنجر غرسته في قلبه ومزقت به أحشائه، فهو فعل أكثر من ذلك بها؛ تحمل ساجي هذا جزء من تكفيرك عن ذنبك، بهذه الكلمات كان يصبر نفسه كي لا تسقط دموعه فتفضحه، أو يصرخ بها بكل ما يعتريه من ألم بكل ما عرفه عن قصتها مع ذلك الحقير الذي سلمها هو له على طبق من فضة.
لم يغير نبرته ولم يقم بارتداء أحد الأقنعة الباردة التي اعتاد على ارتدائها ليخفي مشاعره؛ ليس لديه رغبة ولا طاقة لذلك:
- لا أستغل شيئًا غسق، الوضع يحتم إبعاد الطفلين عنكِ حتى تتحسن حالتهما، لديكِ خيارين إما أن يبقيا معي أو مع تالين، فلا أعتقد بأن سابين خيار متاح ولا أثق بزهراء كفاية لتحمل مسؤولية الطفلين، كما أن سارة رغم حبها لهما لن تتحمل نوبات صراخهما أبدًا.
عقدت يديها:
- ليبقيا في غرفتهما، وأنا لن أدخل عليهم، المربية هي من ستفعل كل شيء أنا فقط سأراقب.
- تعرفين أن اقتراحك غير منطقي، الأطفال يحبون الزحف الآن، كيف تقترحين أن تحددي مكان إقامتهما في غرفة واحده؟ ثم إنه من المستحيل أن تقوم المربية بكل شيء وحدها!
لم ترد فهي تعرف بأنه محق فيما يقول، لكنها ترفض الاعتراف بذلك.
- لن يطول الأمر أقل من اسبوع، بمجرد أن نتأكد من شفائك من نزلة البرد يمكنك أخذهما فورًا، كما أن منزلي قريب لمنزلك فلا تقلقي عليهما، لمصلحة الطفلين.
لم تجبه فورًا ادعت التفكير طويلًا ثم وافقت على مضض.
ابتسم بسعادة واضحة:
- ممتاز والآن لنأخذهما لمنزلي وغذًا نتصل بالممرضة، هي تعرف المنزل.
بعد ساعتين تقريبًا كانوا قد وصلوا لمنزل ساجي، لم تدخل غسق سابقًا بل لم تعرف مكانه من الأساس، شقة صغيرة نوعًا ما بها صالة كبيرة ممتلئة بألعاب الأطفال وهناك مهدين
وطاولة بأدراج تحتوي مستلزمات الأطفال من حفاظات وخلافه وأريكة متوسطة الحجم، مثل معظم الشقق هنا المطبخ يطل على الصالة وهناك ممر صغير خمنت بأنه يحتوي على الحمام وغرفة النوم.
لاحظت بأنه لم يغلق الباب خلفهم عندما دخلوا، جيد لقد اعترف بأنه أصبح محرمًا عليها ولا أمل في عودتهما.
- لقد اتصلت بحكيم سوف يأتي ليوصلكِ لمنزلكِ.
قطع عليها تفكيرها بهذه الجملة التي لم تستوعب الغرض منها.
- ولماذا يأتي حكيم؟ يمكنني السير على قدمي المكان قريب جدًا.
- أعرف لكن الوقت متأخر وأنا لا أستطِيع ترك الطفلين هنا أو الخروج بهما في برودة الليل، لذلك طلبت منه الحضور.
رفعت حاجبيها وكتفت ذراعيها:
- منذ متى وأنت تخاف على سلامتِي! هل نسيت بأني سافرت وحدي لهنا بعد أن طلقتني وطُردت من منزلك وأنا حامل؟ أم نسيت عندما أصبت بالصمة(الجلطة) ولم تكلف نفسك عناء معرفة ما حدث لي بل بعثت محاميك كي يجهز الأوراق المهمة لك.
شعر بأنه لم يعد يحتمل فقد أصابه الكثير في يوم واحد، ولم يستوعب به كل تلك المصائب التي لا تنفك تقع على رأسه واحدة تلو الأخرى.
وقع على الأريكة بثقله حتى كاد أن يقع منها، لدرجة جعلت غسق تهتز وتحاول مساعدته، لكنه أوقفها بيديه وقد غطى بالأخرى وجهه الذي انحنى للأسفل.
لم ينطق لدقيقة كاملة ليقول بعدها بصوت محشرج:
- أعرف أني نذل وجبان، أعرف بأني تركتكِ تواجهين الكثير لوحدكِ دون أن أكون سند لكِ، لا يوجد لديَّ أي تبرير لما فعلته معك يوم خطوبة روبين، أنا نفسي لا أعرف لماذا فعلت ذلك، ربما من شدة ثقتي بحبكِ لي وأنكِ لن تبتعدي عني مهما حدث.
زواجي من روبين لم يكن مبني على الحب كما تعتقدين بل على عقدة قديمة عرفت هي كيف تستغلها وساعدتها أنا بغبائي في ذلك.
لكني لم أكن أعرف بما فعلته أمي لم يخبرنِي أحد بذلك، فأنا لم أعد للمنزل منذ ما حدث بيننا كنت خائفًا من مواجهتك، فقد قررت المضي في زواجي منها وبعدها سوف أصالحك المهم أن أثبت لنفسي بأني أصبحت قادر على اتخاذ قرار ضد رغبة عائلتي، ونسيت بأني في تلك الأثناء أخسر أهم شخص في حياتي.
رغم رغبتها في مقاطعته ورفضها لتبريراته لكن شيء بداخلها دفعها للسكوت كي تسمع كل ما لديه أولًا.
- لم أعرف بسفرك إلا من قريب إياد عندما اتصلتِ بآدم وهو طبعًا حرص على أن تصلنِي المعلومة فورًا؛ وقتها لم تكن لديَّ الجرأة كي آتي لكِ وأطلب منك الرجوع لي، فبأي وجه كنت سأقابلك، ما هو عذري؟
لذلك طلبت من سراج أن يفعل ذلك لأني أعرف أنه مقرب منكِ.
حتى عندما رفضتِ لم أهتم كثيرًا المهم أنكِ بخير وقتها كنت أفكر بطريقة لأعيد لكِ كرامتك المهدورة أمام الشركة ربما تسامحينِي وتعودين لي دون مشاكل، وقبل أن تسألي لم أكن أقدر على طلاق روبين و والدها في المستشفى.
أجلى حلقه فقد أحس بأن هناك كتلة تمنع دخول الهواء لرئتيه:
- عندما أتيتِ وأنتِ حامل كُنت عازمًا على إعادتك لي ولن أسمح لكِ بالسفر مرة أخرى، لكني كالعادة في كل مرة اقترب بالاعتراف لكِ بمشاعري أقوم بالعكس وأبعدكِ عني أميال، كأني أعاقب نفسي على هذا الحب الذي سكنني دون إرادة أو استئذان؛ وعندما حدث ما حدث كنت معكِ في المستشفى وسمعت نبض طفلاي؛ وقتها شعرت بأني لا أستحق أن أبقى معكِ ولا أستحق تلك المعجزة التي تحملينها في داخلك لي، شعوري كان مختلف جدًا فهما واقع ليس كلمة، أو حلم بعيد.
أغمض عينيه ليوقف سيل المشاعر التي تدفقت لقلبه مرة واحدة وهو يذكر سماعه لنبض الصغيرين في المرة الوحيدة التي سمح لنفسه بها، ليتابع بعد عدة ثواني:
- وقتها كانت المشاكل في مصنع سراج قد بدأت وطبعًا الأمر لم يحتاج لذكاء كي نعرف بأن هناك يد خفية خلف الموضوع، توقعت بأن تكوني في خطر لذلك صممت على سفرك وادعيت بأنكِ أجهضتِ حتى قبل أن أعرف بمخطط أمي وجدي؛ أعتقد أنك تعرفين سبب عدم وجودي عند استيقاظك؛ طوال المدة الفائتة كنت أحاول أن أفعل أي شيء يكون ذي قيمة لكِ لربما تغفر لي القليل من أفعالِي، لكني بت متأكد بأنه لا يوجد أي شيءٍ قد يغفر لي عندك أو حتى يجعلكِ تنظرين لي بنظره غير تلك المملؤة بالكره والاحتقار.
أخيرًا رفع عينيه لها وقد هالها نظرة الكسرة بهما:
- أعرف أنه لا أمل لعودتنا معًا رغم حبي لكِ الذي لن ينتهي حتى بموتي؛ على الأقل أعطيني فرصة لأكون أبًا، حاولي أن تتقبلينِي كوالد لهما ولن أحاول أن أضغط عليكِ أو أطلب منكِ الرجوع لي مرة أخرى، هل هذا طلب لا أستحقه؟!
كانت تريد الصراخ به بأنه لا يستحق فرصة أخرى حتى مع أبنائه، لا يستحق أن تنظر له حتى! كانت تريد أن تقول له أشياء كثيرة لتهينه وتجرج كبريائه أكثر، لا تكفِي نظرة الكسرة تلك ولا نبرة الحزن التي لم تسمعها منه سابقًا، كان تريد أشياء كثيرة جدًا، لكن شيء واحد أوقفها!
هي لم تعد غسق فقط هي أصبحت غسق الأم، هنا تتغير المفاهيم ويضطر الكثيرون للتنازل من أجل فلذات أكبادهم.
- من أجل تيام وتيم فقط ساجي ولا تفكر حتى بأني سامحتك.
لانت ملامح وجهه أخيرًا ليبتسم قائلًا:
- اتفقنا.
استقامت تستعد للذهاب:
- وليكن في معلوماتك سوف أراقب تصرفاتك مع الطفلين لحظة بلحظة ولن أتهاون في أي شيء مهما كان صغيرًا.
قاطعهما صوت الباب معلنًا وصول حكيم الذي لم يبقى كثيرًا بل رافق غسق لمنزلها كما طلب منه ساجي.
بعد خروج غسق وحكيم بدأ تيم في البكاء ليلحقه تيام بعد قليل، حك ساجي رأسه وهو يفكر بأن ليلته قد بدأت للتو.
*****
فقط عدة أيام من التعذيب جعلت ملامح وجهه تتشوه بشدة حتى بات غير معروف لنفسه، لم يكتفوا بالضرب والجلد والصعق الكهربائي، بل تعدى الأمر لبتر الأصابع عقلة عقلة ليكون الألم أشد وأطول مدة.
كل ذلك وروبين تشاهد باستمتاع وهي في حضن رئيس المنظمة، استطاعت أن تعرف بأن وسام قام بإخفاء أبنائه ورسم خطة موتهم في الحريق بعد أن أمرت رجاله بانتشال الجثث وإعادة تحليلها، صحيح بأن تفحمها منع إجراء تحليل الحمض النووي لكن الجثث كانت لفتيات وليس فتيه! كما أن الأعمار لا تتطابق مع أولاد وسام.
قد يستطِيع خداع الجميع لكن ليس روبين، عندما تضع أحدهم في رأسها لا ترتاح إلا عند تدميره.
تركت الشاشة التي تشاهد منها عملية تعذيب وسام وأخذت تتلاعب بشعر صدر الرجل الذي تقبع على صدره:
- ماذا سيكون مصيره من الواضح بأنه لن يخبرنا عن مكان الصغار؟
قال الرجل بصوت غليظ:
- ومن قال لكِ بأن مكان الصغار يهمنا؟ من الأساس كان الطلب فقط كي يقع في المصيدة وقد فعل، وسام تجاوز المنظمة كثيرًا واستفاد منها ليكون أرباحًا خاصه به، نحن لم نكن نهتم لأن عمله معنا مجزأ وقد فتح لنا سوق كبير في الشرق الأوسط بأرباح مهولة، لكن غلطاته زادت جدًا من قضية زوجته التي جعلت المزرعة تحت نظر الشرطة، والمراهقات والتحرش بهن الذي وصل إلى السوشيال ميديا، حتى وإن لم يذكروا اسمه نحن نعرف بأنه المقصود، نهاية بقتل والدكِ دون أخذ الإذن منا، هذا يعتبر خارق للقوانين في عالمنا، لا قتل لأفراد العائلة دون أخذ الإذن.
تابعت ما تفعله وهي منتشيه:
- إذن أنا من سيحل مكانه صحيح؟
بابتسامة هازئة لم تلاحظها هي:
- لا تقلقِي لقد حضرت لكِ هدية رائعة ستكون في استقبالك بمجرد عودتك للوطن، عليكِ فقد اقناع والدتك أن تسبقك إلى هناك نحتاج لوجودها كغطاء مهم.
تراجعت وهي تقبل صدره نزولًا لباقي جسده وهي تقول:
- بالطبع ستفعل هي فقط غاضبة قليلًا الآن، حالما أخبرها بأني تحصلت على أموال كثيرة حتى تعود جريًا لتقاسمنِي المال.
عاد برأسه للوراء مستمتعًا بما تفعله:
- بالطبع يجب أن تقاسمك كل شيء.
لم تسمعه ولم تفكر فيما قاله؛ فقد أعماها الطمع والرغبة في الانتقام، لقد انتهت من اثنين ولن تترك غسق حتى تجعلها تبكِي على طفليها اللذان ستذبحهما بيدها أمامها.
******
تأكد سراج من إنهاء إجراءات سفر فرح التي لم تتوقف عن هز قدمها بحركة متوترة.
وضع يده على قدمها ليقول بصوت خفيض:
- لماذا كل هذا التوتر؟ كل شيء سيكون بخير لا تقلقِي.
تهدلت كتفاها لتقول بحزن:
- أخشى مواجهة غسق، ماذا سأقول لها بعد هذه المدة؟ وماذا إذا رفضت مقابلتي وطلبت من آدم طردي؟
مسح على رأسها بحنان:
- لا تخشي ذلك غسق ليست بتلك القسوة، كما أن آدم لن يقوم بطردك أعتقد فهو يعرف بكرهك لساجي.
نظرت له في لهفة فقد أعطاها الأمل بكلماته:
- معك حق آدم جيد معي حتى لو رفضت مقابلتِي سوف يقنعها بذلك.
هز رأسه مؤيدًا لكلامها:
- لم أتصل بتالين لأخبرها بقدومك بعد، هي أصلًا أصبحت مشغولة ولم تعد تحكِي لي كثيرًا مثل السابق، أرجوكِ فرح حاولي التواصل معها من أجلي.
- لا تقلق عندما تقابلنا آخر مرة كانت علاقتنا جيدة، أنا من قطعت علاقتِي بالجميع بعد أن..
قطعت كلامها حتى لا تعيد الماضي من جديد.
- لا بأس كلنا نمر بظروف تجعلنا نبتعد لنعيد ترتيب حياتنا، المهم أنكِ معي الآن.
تنحنح بصوت عالي لتلتفت له فقال ببعض الخجل:
- فرح تعرفين بأن الوضع المادي قد تغير، لم نعد نملك نفس الأموال التي كنا نملكها بالسابق؛ أعني أن الأملاك لازالت موجودة لكن السيولة ليست متوفرة كالسابق، معظمها قمنا بوضعها في حساب مرتبات الموظفين، لا ذنب لهم كي تتشرد عائلاتهم بسببنا، لذلك لن أستطِيع إعطائك مبلغ كبير مثل السابق، كما أني حجزت لكِ في الدرجة الاقتصادية وليس...
وضعت يدها على فمه ليسكت:
- لو لم نكن وسط الناس لأسكتك بطريقة أخرى.
مال عليها وهمس بأذنها:
- هناك حمام لنذهب له لترينِي طريقتك.
ابتسمت:
- وقح.
اتسعت عينيه في صدمة كاذبة:
- ماذا قلت؟ أنتِ من اقترحتِ ذلك.
انطلقت منها ضحكة بالكاد استطاعت كتمها، لينطلق صوت هاتفه معلنًا وصول رسالة نصية، فتح الرسالة ليشهق بصوت عالي:
- اللعنة ميلا تزوجت!*****
يتبع