الفصل الخامس والثلاثون
ظلت طوال الليل تفكر فيما حدث منذ أكثر من سبعة وعشرون عامًا، كانت عاشقة لبلال العلي، ذلك الشاب الوسيم ذو الأخلاق العالية والعائلة المحترمة، هو من كان فتى أحلامها، مشكلتها الوحيدة هي أنها تكبُره بعدة سنوات، وهذا يمنع زواجهما طبعًا فهي من عائلة تتمسك بالتقاليد وهو من عائلة ريفية هذا الأمر بالنسبة لهم مرفوض تمامًا، ما أعطاها بريق أمل وحيد عمل والدها مع والده ذلك قد يسهل الأمر قليلًا، حتى أنها تعمدت أن ترسب في الجامعة لتكون معه في نفس العام، لكن كل شيء انتهى قبل حتى أن يبدأ عندما وجدته يتقرب من فريدة القاسم، لم تخفى عليها نظرات العشق بينهما، رغم كل محاولاتها لاستمالته لم تنجح أبدًا، ذلك جعل الغيرة تتحول لحقد على فريدة بالذات، ماذا تملك ليحبها بلال؟! أنا أجمل منها أنا محترمه وهي تدور بين الشباب بِلا حياء، هذا ما كررت على نفسها طويلًا حتى وجدت الحل!
الحل في كشف عهر فريدة لبلال والطريقة مجد شقيقها!
لطاما كان مجد شقيقها الأصغر محبوبًا عند الجنس الناعم وله الكثير من المغامرات، كونه الابن الوحيد بعد بنتين جعل كل طلباته مجابة ونزواته مغفورة فلم يقم والدها يومًا بتأنيبه على علاقاته الغرامية ما دامت لا تجلب لهم المشاكل.
قررت وقتها استغلال ذلك بطريقتها الخبيثة أخبرته عن بنات القاسم وجمالهن وانحلالهن ولم تنسى أن تخبره عن أماكن تواجدهن، لكنه بدلًا من أن يعجب بفريدة أغرم بفجر!
لا تعرف كيف حدث ذلك؟ ومتى؟ لكنها لم تمانع عند معرفتها بالصدفة، يكفي أن يلوث شرف إحدى الأختين عندها لن تسمح عائلة بلال له بالزواج منها، حتى عندما عرفت بما حدث من رفض عبدالرحيم القاسم لبلال وزواجه من قريبته لم تقم بإيقاف مجد، بل زاد حقدها على فريدة أكثر فهي السبب لذلك؛ تذكرت سماعها بالصدفة مكالمة بين فجر ومجد على الخط الأرضي تخبره فيها بأنها حامل؛ أخبرها مجد بأن لا تشغل بالها وأنه سوف يقوم بخطبتها عند عودة والده من رحلة الاستجمام!
هنا ظهرت سميحة الحقيقة، هل يعتقدون بأن سما تجيد حيك المصائب؟
هم لم يجربوا سميحة؛ فورًا ذهبت حيث يقضي والدها ووالدتها في إحدى المدن الساحلية القريبة وهناك فجرت القنبلة بطريقتها الخاصة.
لم يستطع مجد إقناع والديه بخطبته لفجر بأي طريقة، لدرجة جعلته يخُبره بحملها منه عله يلين ويطاوعه، لم يتفاجأ والده لسماعه الخبر بل كان ينتظر ذلك، وضع ساقَا فوق الأخرى وشبك أصابعه وقال بنبرة هادئة جدًا:
- هذا سبب أكبر يجعلنيِ أرفض، من تفرط في شرفها وتخون أهلها كيف يمكن أن تستأمنها على اسمك وعرضك؟!
حرك يديه في الهواء بطريقة رافضه لكلام والده وقال في يأس:
- أبي أرجوك لا تحكم عليها بتلك الطريقة أنا من قمت بإغوائها، هي كانت بريئة وأنا استغليت ذلك، أنا متأكد منها كنت الأول وهي تحمل طفلي.
لم تتغير ملامحة وهو يقول ببرود:
- ومن قال أنك الوحيد؟ كيف تتأكد من أنها تحمل طفلك أنت بالذات؟
ألجمه رده ولم يستطع أن يناقشه، ليس لأنه مقتنع به أو يصدقه بل لأنه لا يستطع أن يثبت لوالده خطأ كلامه، لكنه كان مصمم على الزواج من فجر فقد أحبها بصدق.
حاول لشهور طويلة تغيير رأيه دون جدوى؛ ما زاد الغصة في صدره علمه بأن والدها قام بحبسها بعد معرفته بحملها، كاد أن يفقد عقله من شدة الغضب والتفكير بطريقة لتخليصها من الظلم الذي نزل عليها وهو المتسبب به؛ ما لم يكن يعلمه أن سميحة من قامت بإبلاغ عائلتها بذلك بطريقتها الخاصة وطبعًا جعلت الأمر فضيحة تستلزم طردهم ونبذهم من قبل بقية أفراد العائلة ذلك أقل انتقام تستحقه فريدة من وجهة نظرها؛ لكن مجد وجد الطريقة، ساجي.
بعد هروب مجد وفجر حصلت فريدة على الطلاق وبدلًا من أن تنال سميحة انتقامها، عاد بلال لفريدة بمباركة والدها!
هذا جعل حقد سميحة يتأجج ويصل إلى قمته حرضت والدها كي يتبرأ من شقيقها بل أقامت فضيحة عند ولادة غسق ظنت بها بأن بلال سيطلق فريدة بعدها، لكن خاب أملها كالعادة وما زاد الأمر سواءً أن والدها زوجها من محمود سلمان، موظف لديه ذو سمعة جيدة تقدم لها لأنه معجب بها منذ مدة، حاولت الرفض كيف تتزوج هي من موظف معدوم؟
لكن والدتها أجبرتها فقد تقدم بها السن ولم يعد يتقدم لها من أبناء طبقتها إلا المطلق والأرمل.
قضت معظم حياتها ناقمة على محمود وحياتها معه لم تحبه يومًا لكنها أحبت حبه لها وانصياعه لأوامرها، حتى أولادها سامي وسمر لم تحبهما يومًا، كلما قارنتهما بأولاد بلال بالذات، فقط سما من كانت نسخة عنها، تفوق ابنة بلال جمالًا بمراحل.
هزت رأسها وهي تقول لنفسها بصوت عالٍ:
- ما هذا لا زلت بنفس العقلية القديمة؟ يجب أن أجد طريقة أكفر بها عن ذنوبي وأضمن سكوت وسام في نفس الوقت؛ إذا عرف سامي وسمر ما فعلته لن يسامحانِي بل لن يترحما عليَّ بعد وفاتي، يا إلهي ماذا أفعل؟ كيف أخرج من تلك المعضلة؟!
******
رغم مرور جلستين مع الطبيبة النفسية إلا إنها لازالت تلتزم الصمت أو بالأحرى تتجنب الحديث عن الحادثة لا تريد كلمات المواساة المعهودة يكفي ما سمعته من ساره وزهراء، لا ترغب في مزيد من الشفقة من شخص آخر حتى لو كانت طبيبة نفسية!
لم تكره شيء أكثر من شفقة الناس عليها، لطالما كانت بارعة في إخفاء حزنها وخيبة أملها كي لا ترى نظرات الشفقة في عيون الآخرين، الوحيد الذي سمحت له بذلك هو ساجي، وماذا كانت النتيجة؟
بعد أن قام جدها بإحراق جميع متعلقات والدتها أمامهما أصابها حزن شديد جعلها تغرق في بكاء مرير لعدة أيام وليالي، وحده ساجي كان قادرًا على مواساتها عن طريق أخذها في حضنه حتى تنام، بل أنه تطوع وبقى بقربها طوال الليل حتى لا تجزع خلال نومها، لكن ذلك لم يدم طويلًا فقد أبعدها بعد أقل من أسبوع بنقلها لمدرسة في العاصمة بعيدًا عن المزرعة وعنه، مرت شهور قبل أن تراه مرة أخرى هي من ذهبت له في شركته بعد أن أقنعت إياد بأنها تستطِع إصلاح جهاز الكمبيوتر الخاص به، حيلة بسيطة فقط كي تراه كم كانت غبية ساذجة معدومة الكرامة وهي ترمي نفسها عليه بكل الطرق الملتوية!
أفاقت على صوت الطبيبة تسألها السؤال المعتاد:
- هل لديكِ رغبة في إيذاء نفسك أو شخص آخر؟
أجابتها وهي تنظر لها بجفاء:
- لن أنتحر إذا كان هذا ما يقلقك؛ ديني يُحرم ذلك، كما أن لديَّ طفلين أنا المسؤولة عنهما، أما عن رغبتِي في إيذاء أحد فهي مستبعدة لنفس الأسباب.
وقفت تستعد للمغادرة رغم أنهُ لم يمضي سوى نصف وقت الجلسة قائلة ببرود:
- أعتقد هذا هو المهم التأكد من عدم إقدامِي على أي من الانتحار أو قتل شخص آخر، إذن لا داعي لمتابعة باقي الجلسات.
لم يظهر أي تعبير على وجهه الطبيبة، أعطتها ورقة بها عنوان وطلبت منها أن تحضر إليها بعد يومين وبعدها سوف تكتب التقرير الذي تريده دون نقاش.
لم تستسغ طلب الطبيبة لكنها قررت مجاراتها فيه علها تنتهي من قصة الطبيبة وتتفرغ للعمل، ذلك العمل الذي تغرق نفسها فيها كي تهرب من الجميع بما فيهم الصغير الذي شهد على انتهاكها بأبشع الصور ولم تستطِع حمايته من ذلك؛ لم تنظر إلى عينيه منذ تلك الحادثة توقفت حتى عن الرضاعة الطبيعة بحجة أنها لا تملك الحليب الكافي وتركت مهمة الاعتناء بالصغار للمربية وسارة، حتى تالين أبعدتها عن الدائرة حتى لا تعرف بمصابها وتخبر ساجي بذلك.
توجهت بعد يومين إلى العنوان وقد ارتدت بنطال مع قميص قطني فوقه سترة، دخلت للمكان لتجده صالة واسعة فارغه في وسطها كراسي على شكل دائرة واسعة وبالمقابل طاولة كبيرة عليها ترامس قهوة ومخبوزات طازجة؛ توجهت لتأخذ كوب قهوة ثم جلست على كرسي دون أن تحاول التعرف على أي من الموجودات، لم تمضي فترة طويلة حتى جلست جميع النساء على الكراسي ومن ضمنهن الطبيبة، لم تميزها غسق في البداية فقد كانت ترتدي ملابس عادية ليست رسمية مثل التي اعتادت رؤيتها بها، باقي النساء كُن يتراوحن في السن والشكل والديانات أيضًا، لاحظت ذلك بنظرة سريعة عليهن؛ بعد دقائق بدأ الاجتماع أو مجموعة الدعم لا يهم التسميه المهم أن ننتهي بسرعة.
قالت الطبيبة بصوتها الهادئ:
- اليوم معنا ناجية جديدة رحبوا بها؛ وأشارت إلى غسق.
رددن بنبرة مشجعة على التوالي:
- مرحبًا بكِ بيننا.
وعرفت كل منهن على نفسها بالاسم الأول والمهنة؛ هنا كانت صدمة غسق أكبر، إحداهن أستاذة في جامعة عريقة والأخرى مهندسة والثالثة تمتلك محل خاص بها، والرابعة ربة بيت لكنها أم لخمسة اطفال، تطوعت ربة المنزل لتخبر قصتها بصوت عالٍ، فهي زوجة شرطي يقوم بتعنيفها على الدوام طوال فترة زواجهما التي امتدت لسبعة عشر سنه، منذ أن تخرجه من الثانوية، رغم أنها لم تشتكِ عليه أبدًا بسبب الخوف بالطبع كما أن ذلك شبه مستحيل لأنها كانت تعيش في قرية صغيرة ومعظم الذين يعملون في مركز الشرطة التابعة له تلك القرية من أصدقاء زوجها، لكنه تمادى لحد الأذى الجنسي مع الضرب المبرح والكارثة أن أحد أطفالها شهد ذلك من دون قصد، هنا قررت الفرار منه وقد نجحت بعد تخطيط طويل وبمساعدة ممرضة من المستشفى الذي اعتادت الذهاب له بعد كل انتهاك يحدث لها.
أما الأستاذة الجامعية فقد كانت قصتها تبدو أقل مأساوية من الأولى، فقد داوم زوجها على ذلك الاعتداء عليها عندما يكثر الشرب، كانت تلتمس له الأعذار لأنها تحبه وتقوم بتعداد محاسنه فتغلب الضفة على تلك الزلة كما يسميها، رغم أنها لم تمانع بأن يمارس معها حقوقه لكنه كان يفعلها بالإجبار فقط، حتى فقدت ثالث حمل لها بسبب عنف الاغتصاب فقررت أن تطلب الطلاق وهنا بدأت المأساة الحقيقة فقد عرفت بأنه يقوم بتسجيل اغتصابه لها وهددها بأن يفضحها أمام طلابها.
الأخرى التي لم تذكر اسمها ولا مهنتها كل ما ذكرته أنها من إحدى الدول الآسيوية كانت قصتها حزينة جدًا، فزوجها هو الضامن لها هنا وليس لها غيره رغم أن الاتفاق بأن يتزوجها على الورق ويأخذ مبلغ مالي حتى تنهي إجراءات الإقامة ثم يتم الطلاق، لكنه لم يفي بالاتفاق طبعا؛ فقد أجبرها ونالها بالغصب، صحيح بأنها لم تقاوم كثيرًا لأنه هددها بإخبار شرطة الهجرة إذا رفضت ليقوموا بترحيلها، وهي ليس لها مكان آخر فقد هربت من بلادها لأنهم يقومون ببيع الفتيات لأغراض دنيئة، لتجد نفسها أصبحت عاهرة لزوجها!
إجباره لها مرة بعد مرة كسر نفسها وجعلها تكره حياتها، ليس أمامها خيار آخر إما الرضوخ أو الترحيل، لتحاول الانتحار عدة مرات كادت أن تنجح في إحداها، وقتها تم وضعها في مصحة بالقانون وعرفت قصتها.
لم تصدق كل تلك المآسي التي سمعتها، وأين تحدث هنا؟!
قالت الطبيبة وقد قرأت ما ظهر على وجهها:
- هذا الجريمة للأسف تحدث في جميع أنحاء العالم، المسألة ليست متعلقة بمكانة أو دين أو حتى تعليم، المسألة متعلقة بتربية وشخصية ومرض، البعض يرى أن ذلك حقه بما أنه الزوج أو شريكته وهي ملكهُ لا يحق لها الاعتراض، والبعض يحب إذلال المرأة ليشعر هو برجولته، والآخر يعتبرها طريقة عقاب،
الكثير من النساء لا تفرق بين الاغتصاب والعلاقة الحميمة العنيفة، بل قد تعتبر ذلك شغف زائد فقط، والبعض تخاف أن تبلغ أصلًا أما من تصمت وترضِى ويعتبر نفسه المسؤول عن الانتهاك بطريقة أو أخرى؛ القصة تعود إلى قرون مضت وحلها يحتاج الكثير من التوعية للنساء بالذات.
لم تنطق بحرف فقد ألجمتها الصدمة أما كلمات الطبيبة كانت مثل المسألة اللوغاريتمية تحتاج إلى تفكير جيد لحلها، هي أكثر من يعشق حل تلك المسائل المعقدة.
*********
عادت سارة إلى منزلها لتجد كلبها في استقبالها بلهفة، انحنت تأخذه لحضنها ومشت به لتجلس على أريكتها المفضلة وهي تقول له بصوت مضحك:
- من اشتاق لي؟ من؟ ها من؟ أعرف بأنِي أهملتك كثيرًا بسبب الصغار أعدك بأن أعوضك غدًا سنذهب للحديقة لتلعب مع السناجب كما تحب.
صوت ضحكات عمر جعلتها ترفع رأسها لتراه يقف وهو يستند بكتفه على حافة الباب وينظر لها بحب كالعادة.
وضعت رأسها واستقامت لتقترب منه وقد تلألأت عينيها بنظرة مرحه:
- هل سمعت نكته؟ هيا اضحكنِي معك.
توقف عن الضحك وقد لاحظ نظرته لها التي لن يخطئها أبدًا لكنه قرر المراوغة:
- لا فقد كنت أتذكر كلام حنان ابنة خالتي فهي ذات روح مرحة جدًا.
تبدلت ملامحها للغضب لتكرر قبضتها وتضربه في صدره بقوة، ثم اندفعت لتدخل لغرفتها تاركة إياه بالخارج يتأوه.
لحقها وهو يضحك بمرح أكبر من السابق وقد كبلها من الخلف وغرس رأسه في رقبتها يشتمها ويقبلها برقة.
رغم أن قبلاته أثرت بها لكنها قررت عدم إظهار ذلك له:
- عمر توقف هناك أمر مهم يجب أن نتحدث به.
تابع ما يفعله وهو يقول بين قبلاته:
- أعرفه، أمر مهم جدًا لا يحتمل التأجيل.
قالت بصوت جاد خافت:
- الأسبوع المقبل محاكمة خالي.
شعرت بتصلبه ابتعد عنها ثم أدارها له، لم تستطع أن ترفع عينيها له لكنه قال بصوت أجش:
- انظري لي سارة.
بصعوبة استطاعت رفع جفنيها لتنظر له في نظرة معتذرة، مذنبة
مال يخطف شفتيها بخاصته في قبلة رقيقة حانيه لم ترغب في إنهائها ربما للأبد، لكنه للأسف فعل، زمجرت في رفض فابتسم وهو يخلل شعره ويجرها لتجلس على السرير ثم قرب كرسي طاولة الزينة يجلس مقابلًا لها،
استمر يحدق بها لعدة دقائق قبل أن يمسك يدها ويقول بصوت عميق خافت:
- أعرف وهذا يشعرني بالفخر بكِ وبأخويك لأنكم أقدمتم على هذه الخطوة، والغضب لأنك استثنيتني منها لا أعرف برغبة منك أم من أخويك أم لأنكِ لا تشعرين بأني قريب منك لتخبريني بما يحدث وسط عائلتك؟
هزت رأسها بشدة في نفي وهي تقول وسط دموعها:
- لا،لا، هذا ليس ما فكرت به أبدًا، أنا فقط كنت في الواقع لا زلت أشعر بالعار من ما حدث.
نكست رأسها وقد شعرت بغصة تسد حلقها تمنعها من المتابعة وقد تركت دموعها تنزل دون محاولة لإخفائها.
مسح وجهها بحنان وهو يرفع وجهها له:
- الوحيد الذي عليه بأن يشعر بالعار هو ذلك الحقير، أما أنتِ وأخويك فقد واجهتم مجتمع ظالم يرفض الاعتراف بتلك الممارسات ويفضل أن يغض النظر عنها بحجج واهية، لطالما كنت فخور بكِ وبقوتك في مواجهة المرض لوحدك والآن شعوري يفوق الوصف، لا تجعلِي أحد يشعرك بالعكس حبيبتي كوني فخورة بنفسك.
نظرت إليه غير مصدقة وهي تبتسم بين دموعها:
- لا، ماذا فعلت كي أستحق كل هذا الحب؟! أحيانًا أعتقد بأني مت وذهبت للجنة أو بأنك لست بشري، عُمر أنت نعمة كبيرة.
قاطعها بقبلة أكد بها بأنه بشري وأنها ليست بالجنة بل تنعم بين يديه وتذوب في أشواقه.
بعد فترة طويلة استلقى على ظهره وأما سارة فقد قابلته تنام على بطنها وهي تنظر له بعشق، تركت أصابعها ترسم على صدره دوائر وهي تقول بدلال:
- عُمر أنا جائعة جدًا.
رفع حاجبيه ببطء:
- الآن! ماذا تريدين أن أطلب؟
زمت شفتيها وقالت في دلال أكثر:
- ما رأيك بأن نطلب دجاج، أو لحم مشوي أو حتى سمك أو...
- مهلك، ما هذا؟ اختاري شيء محدد.
- أي شيء به لحم، لقد نشفت بطني من أكل غسق حتى الحليب صويا، أشعر بأن هناك شجرة نبتت في بطني من أكل الأعشاب.
أطلق ضحكة صافية وهو يضمها له ليقول بخبث:
- نحتاج لحرق بعض السعرات الحرارية قبل تلك الوجبات الدسمة التي تطلبينها.
ابتسمت وهي تقترب منه بدقة مدروسة:
- بل بعدها وليس قبل.
- قبل وبعد لن أمانع.
*****
مرت مدة تقارب الشهر منذ بدأت غسق الجلسات الجماعية، طوال هذه المدة وقبلها وهي تتجنب مقابلة تالين وسابين التي انتقلت بشكل مؤقت بما أن إياد أيضًا انتقل بما أن الشركات جمدت بالبلاد فالعمل من هنا أضمن، كما أنه يريد أن يمضي بعض الوقت مع سابين قبل أن يواجه المعركة الكبرى مع فرح.
كانت غسق في الصالة تحاول أن تتواصل مع أطفالها، تيم بالذات لازالت تجد صعوبة في النظر له، صحيح أنها تقوم بحضنه وتغير ملابسه وبعض الألعاب معه لكنها لا تنظر لعينيه أبدًا، تتجنب ذلك بل تخاف من أن ترى بهما ما يؤكد مخاوفها!
دقت الباب لتفتح المربية فاندفعت تالين للداخل دون سؤال بغضب واضح لتوقف غسق ما تفعله أما سارة فقد نظرت لها بتعجب من تصرفها الغير معهود.
وقفت تالين في منتصف الصالة وهي تقول بصوتٍ غاضب:
- هل لي أن أعرف لماذا أنا منبوذة مطرودة من منزلك؟ أنتِ لا تردين على مكالماتي بل قمتِي بحظرِ هذا بالإضافة لرفضك استقبالي هنا وحتى لم تعودي ترسلي الأطفال مثل السابق، ماذا فعلت لكِ كي أستحق كل هذا؟! أم أن زوجك طلب منكِ مقاطعتِي؟ حتى لو فعل ليس من حقه فأنا عمة تيم وتيام.
دون أن تدري وجدت يد سارة تغلق فمها بقوة وهي تقول بغضب مكتوم:
- هلا سكتِ قليلًا، ما هذا قطر دخل علينا، لم نستوعب منك حرف ابلعِي ريقك أولًا ثم أكمليِ.
عقدت حاجبيها لمتابعة وصلة الكلام لكنها لاحظت تغير وجه غسق فحاولت أن تتكلم بهدوء:
- أعتقد بأنه من حقِي أن أعرف سبب كل ما حدث؟
- معكِ حق.
قالتها غسق وهي تتجه ناحيتها لتحضنها ثم أمسكتها من يدها لتجلسها بقربها على الأريكة.
بصعوبة أخرجت الكلمات من حلقها دون أن تنظر لها كي لا تضعف أو تتبين تالين ما تخفي:
- أعتذر تالين حدثت أشياء كثيرة المدة الفائتة، لكن يجب أن تعرفي بأني لم أقم بحظرك أنا غيرت رقم الهاتفِ فقط، كما أني وآدم انفصلنا ونقوم الآن بإجراءات الطلاق المدني.
ظهرت الفرحة جليًا على وجهها، وهي تقول مبتسمة:
- حقًا متى؟ مبارك، أقصد لا عليكِ غسق.
وضعت سارة صينية بها فناجين القهوة وقطع الحلوى وهي تقول لها بحاجب مرفوع:
- أرجوكِ لا تخفي فرحتك أكثر فقد نظن بأنكِ سعيدة للخبر لا سمح لله.
هزت كتفيها في لا مبالة وأخذت ترتشف من قهوتها:
- لن أكذب نعم أنا سعيدة جدًا خصوصًا وأن ساجي قد أنهى زواجه من الأفعى روبين.
قاطعتها غسق بهدوء:
- لا تحاولِي ربط الأمرين تالين، أنا وساجي انتهينا منذ مدة طويلة، عودتنا مستحيلة هو فقط والد أطفالي وما بيننا هو العمل.
شحب وجهها لكنها قالت بإصرار:
- غسق هو لم يطلقها فقط بل قام برفع قضية لبطلان الزواج ونشر الحكم في جميع الجرائد والمواقع الاخبارية؛ ألا يشفع له هذا عندك.
أخذت عدة رشفات من قهوتها ثم قالت بنفس الهدوء:
- لا يفتل الكعك بعد العيد.
كانت جملتها كمن صب الماء فوق الجمر، جمدت الكلمات في حلق تالين بل في حلق ساره معها، لم تنطق أحداهما بحرف لعدة دقائق، حتى كسرت سارة ذلك الجو لتقول دون أن توجه حديثها لشخص معين.
- هل قابلتِ سابين زوجة إياد؟ إنها متحفظة قليلًا لا تحب الحديث لكنِي ارتحت لها تبدو لطيفة.
ردت غسق وقد مطت شفتيها بعلامة لست متأكدة:
- قابلتها عدة مرات فهي تساعدنا في العمل، لكنِ لم أحاول أن أوطد علاقتي معها، لا أعرف أشعر بأنها خيانة لفرح إذا فعلت ذلك؛ أتفق معك بأنها متحفظة جدًا لكنها والحق يقال ليست سيئة أو خبيثة.
أما تالين فقد قالت بتوجس:
- هل لازالت علاقتك مع فرح سيئة؟
رفعت غسق حاجبيها وخفضتهما بعلامة نعم مع هزة رأس بسيطة
تابعت وقد صبت لنفسها المزيد من القهوة:
- أنا شخصيًا لم أكلمها منذ أن رفعت القضية على سراج، لم أتوقع هذا منها سراج لايزال منهار بسبب الطلاق هو حتى لا يهتم بالقضية وسجنه كل ما يتحدث به هو طلاقه لفرح وبعدها عنه، لا يهم الآن عندما يخرج سوف ينسى كل هذا؛ أما بالنسبة لسابين فقد قمت بدعوتها على العشاء في منزلي نهاية الأسبوع هي وإياد.
- ماذا! هل جننتِ؟ وحكيم؟
- ما به حكيم هو من قام بعزيمتهم في الواقع وليس أنا.
تخصرت غسق وقالت في غضب واضح:
- وأنتِ وجدتها فرصة لجعل إياد يندم لأنه ترككِ كي يرى بأنكِ تعيشين حياة رائعة ولم تخسرِ شيء بخسارته بل هو من فعل أليس كذلك؟
اتسعت عينيها بدهشة غير مصدقة لكل ما سمعته لتقول بنفي:
- لا أنا لم أفكر في ذلك أبدًا، لست أنا من قمت بدعوته بل حكيم، بل أني حاولت التملص من تلك الدعوة أكثر من مرة.
اغرورقت عينيها بالدموع وهي تتابع متألمة:
- لقد مسحت إياد من حياتي منذ زمن طويل فهو لم يكن حبًا حقيقيًا، حكيم هو الذي علمني ماذا يعني الحب، هو من أسقاني العشق حتى غرقت به، حكيم ليس بدلًا لأحد بل هو الأول والأخير لطالما كان كذلك، إياد هو من كان وهم علقت نفسي به.
لم تستطِع أن تكمل فقد ضاعت الكلمات بين صوت نحيبها العالي.
لبرهه شعرت غسق بالذنب، منذ متى وهي بتلك القسوة؟ وبأي حق تحاكم تالين من الأساس؟ هل كانت تحاكمها أم تحاكم ساجي بدلًا منها؟ لن تكذب فالسبب الأول لكرهها لها مؤخرًا هو الشبه الشديد بينها وبين ساجي، باتت ترى فيها شقيقها وتخاف بأن تعرف ما حدث فتشمت بها أو بالأحرى يشمت بها ساجي؛ شتان بين زواجه من روبين وزواجها هي من آدم.
في النهاية هي من تحملت الألم من كلتا الزيجتين.
قامت بالاقتراب منها وتهدئتها، لم تحتج تالين إلى الكثير فطيبة قلبها جعلتها ترضى بسرعة، مرت الأمسية على خير وقد طلبت تالين من الفتاتين أن تأتيا للعشاء المقام على شرف إياد و زوجته، وافقت سارة اما غسق فلم تعطي رد جازم، رغم البعد والجفاء بينها وبين فرح لازالت تعتبرها أختها الروحية ولن تقوم بجرحها بتلك الطريقة أبدًا.
********
مرت الأيام والأسابيع وغسق تتابع مجموعة الدعم دون أن تتحدث، كانت فقد تستمع للجميع حتى سمعت إحداهن تسأل:
- ما هو الشيء الذي قد تشعر به المغتصبة؟
أجابت دون أن ترفع يديها مثل المتبع في هذه التجمعات:
- كسرة النفس والمذلة.
سكت وقد تركزت عليها أنظار باقي النساء فهذه أول مرة تتكلم.
ارتعاش قلبها بين ضلوعها والبرودة التي سرت في أطرافها لم تمنعها من أن تتابع كأنها كانت تنتظر الفرصة لتبوح بمكنون صدرها:
- لم أشعر يومًا بالكسرة في حياتي، حتى بعد وفاة والدي وانتقالي للعيش في منزل جدي، شعرت بأني دخيلة، غير مرغوب بي، متطفلة ربما، شعرت حتى بنفور ساجي (وهو زوجي الأول ووالد أولادي)، لم أتعود على طلب شيء من أحد حتى والدي، عندما كنت صغيرة لم تكن حالتنا المادية مستقرة يمكن القول بأننا متوسطي الحال، لذلك كانت أمي دائمًا تحذرني من طلب الأشياء الغالية من ملابس وخلافه، أنا أصلًا لم أكن أهتم كثيرًا بها عكس باقي الفتيات، كنت أعشق الكمبيوتر وعالمه الساحر، وأحب أن أصلحه مع أبي، قضاء وقت في الجراج الذي حوله أبي لمعمل التصليحات كان أروع من التسوق بالنسبة لي، وأمي كانت تحاول تعويضي بأن تجعلني أميرتها بالمنزل لم أكن أقم بشيء من أعمال التنظيف أو الطهي وخلافه، كان تحرص على ذلك كثيرًا فقد كنت من المتفوقين وأركز في دراستي كثيرًا؛ عندما توفيا مع أخي انقلب الوضع لم أجد من يهتم بشغفي ولا من يدللني، وجدت الكره والنبذ من الجميع تقريبًا، أرسلني ساجي للعيش مع فرح بحجة الدراسة كانت أصعب الأوقات عليَّ فلم يكن لي معيل كنت أشعر بأني عالة على فرح وعائلتها، والدها كان دائمًا يغدقها بالهدايا والملابس الغالية، وأشقائه كذلك، صحيح بأن ساجي كان يرسل لي مصروف لكني كنت أخجل من صرفه، فكما كنت أخجل حتى من الأكل عندهم، أحيانًا كنت أشعر بالغبطة من حياة فرح وحب الجميع لها وكنت أتعجب من جفائنا لوالدها، لم أجرؤ على محادثتها في الموضوع كنت أخشى أن تطردني فلا يبقى لي مأوي.
تابعت دون أن تشعر بالدموع التي نزلت أزوجًا على خدها:
- حتى بعد نيلي الشهادة وعملي مع ساجي لم أستطِع أن أتخلى عن حذري وخوفي من النبذ، ولم يساعدني على ذلك أحد، الجميع يلومني لأني لم أطالب بحقي، أي حق ذلك وأنا بالنسبة له ابنة مجد وفجر؟
أي حق والجميع يحملني ذنب لم ارتكبه! أعرف بأن أبي كان زير نساء وأمي فرطت في نفسها، وكلاهما ارتكب ذنب لا يغتفر لكنهما والداي، أنا أحبهما رغم كل شيء غضبت منهما لفترة طويلة، طويلة جدًا لكنِ لأني سامحتهما بل اشتاق لهما، لا أراهما مجد وفجر المذنبان، بل فقط أبي وأمي.
قالت إحداهن في نبرة آسفة:
- يبدو أنكِ تعذبتِ كثيرًا أعتقد بأن ما فعلته بكِ عائلتك لا يقل سوءًا عن ما فعله زوجك الحالي.
مسحت دموعها ورفعت رأسها لتقول لتلك المرأة:
- لم يستطع أي منهم بأن يقوم بإذلاليِ أو حتى الاقتراب من ذلك، كُنت دائمًا أجيد إخفاء ألمي عنهم حتى ساجي، حتى دموعي لم تكن تنزل بسهولة خصوصًا بعد أن كبرت، رغم كل ما فعله لي من إهانات لم أظهر لهم تأثري بها أبدًا، حتى فرح وهي أقرب شخص لي لم تراني يومًا منكسرة، أكثر مرة بكيت عندما قامت زوجة خالي بقتل كلب الحراسة لأني اهتممت به حتى ذلك لم أجعلها تراني منكسرة أو حزينة، أما ساجي فلم يرى مني سوى الحب والرغبة، لم أشعره مرة بحزني أو بمدى ألمي من أفعاله وتصرفاته حتى اقتنع بأن إهانته لا تؤثر بي.
أغمضت عينيها بقوة كأنها تحاول الهروب من شيء:
- آدم تعمد كسري تعمد أن يؤلمني ويشعرني بالمذلة، لم يكن غضب أو رغبة في امرأة، هي رغبة في كسري ليكون هو المتحكم الوحيد بي، ليفرض عليَّ نفسه بأبشع الطرق، كان يعرف بوجود الصغير وسمع صوته لكنه استمر بما يفعله بتلذذ مُرضي، ليزيد من كسري وذلتي، لم يرحم رجائي بل أكاد أجزم بأن ذلك أثاره أكثر، منذ ذلك اليوم وأنا أنهار كل ليلة باكية، ارتعش لمجرد دخولي للمطبخ لوحدي، لازلت لا أستطِيع النظر في عيني صغيري، أشعر بالذل بطريقة لا يمكن تخيلها لا أعتقد بأنِي قد أعود كما كنت من قبل؛ ذلك المدعو زوجي الحالي أذلني وكسر نفسي بطريقة لا يصلح معها جبر.
ما فعلته عائلتي جعلني ابتعد عنها ولا أسامح أحد منهم، حتى جدي رغم عجزه ومرضه لم أشعر ناحيته بالشفقة أما ما فعله آدم فجعلني أفقد الثقة في نفسي.*****
يتبع