الفصل السادس والاربعين

478 22 7
                                    

الفصل السادس والأربعون
أخيرًا سُمح له بالزيارات، وكانت زهراء أول من جاء لزيارته بالطبع.
شعر بأن الروح عادت له برؤيتها أمامه، ولم يهتم حتى بأنها لا تنظر له بنفس اللمعة المعهودة في عينيها، جلس مقابلًا لها فقد كانت الزيارة هذه المرة في الساحة المخصصة للزيارة وليس مثل زيارة ساجي له.
لايزال  وجهه يحمل آثار الضرب الذي تلقاه بشكلٍ واضح.
مد يده يرغب في إمساك كفها وهو يقول بشوق واضح:
- زهراءِ لقد اشتقت لكِ كثيرًا، لا تعرفين ما حدث لي في الفترة السابقة!
سحبت يدها من خاصته وهي تقول بخفوت:
- واضح من الكدمات على وجهك ما حدث لك، لقد أخبرني المحامي بأنك تورطت في مشاجرات مع السجناء مما أدى لوضعك في الحبس الانفرادي لمدة طويلة.
سحب يدها مرة أخرى ليغلق عليها بين كفيه، وهو يقول بصوت عالي مستنكر:
- غير صحيح بالمرة، هذا افتراء، هم من اعتدوا عليَّ بتحريض من ساجي.
قربت حاجبيها وهي تقول بصوت خفيض للتأكد مما سمعته:
- ساجي! هل أنت متأكد، أعني من أخبره بما حدث؟ متأكدة بأن غسق لم تفعل فهي حريصة على أن لا يعرف أحد ما حدث لها خصوصًا هو.
لم تكن تتحدث معه في الواقع، بل تفكر بصوت عالٍ، لكن آدم استاء من أنها تفكر في كيفية معرفة ساجي للأمر، ولم تهتم لما حدث له هو!
- لا يهم كيف عرف؟ أخبرتكِ بأنه حرض عليَّ المساجين ليجعلوا حياتي جحيمًا هنا، كما أنه أخبرنِي بكل وضوح بأنه لن يتوقف عن أذيتِي حتى عندما أخرج من هنا.
سحبت يدها بقوة هذه المرة، وقالت وهي تنظر له نظرة مبهمة لم يفهم مغزاها:
- وماذا كنت تتوقع منه بعد أن عرِفِ بأنك اغتصبت زوجته!
ضرب الطاولة الحديدية بقبضته حتى التفت له أحد الحراس، لكنها أشارت له بعلامة أن كل شيء بخير، فكز على أسنانه وهو يقول بصوت منخفض كي لا يلفت الأنظار له أكثر:
- ليست زوجته، طلقها قبلها بشهور قبل أن أتجوزها أنا، كما أنها لم تعد له حتى الآن حسب علمي، إذًا لماذا هو غاضب؟ يدعي الرجولة لأنني مسجون هنا، عندما أخرج سوف أعلمه كيف تكون الرجولة الحقيقية.
عادت بظهرها للخلف وكتفت ذراعيها وهي تقول بصوت هادئ، بدا مستفز بالنسبة له:
- وماهي الرجولة الحقيقة سيد آدم؟! ثم ما شأنك في رجوع غسق لساجي من عدمه؟
ازدرد ريقة وشحب وجهه بشدة، فقد وضعته بين المطرقة والسندان:
- الأمر ليس كما تعتقدين زهراء، أنا فقط قلت ذلك من حرقتِي؛ ساجي استغل ضعف موقفي وقام برشوة بعض المساجين ليجعلوا حياتي جحيم هنا، وهددني بأنه لن يتركني وشأني، ماذا تتوقعِين أن تكون ردة فعلي.
- تلك هي المشكلة؛ منذ أن حدث ما حدث وأنا أنتظر منك ردة فعل تنبئني بأنك نادم على الجريمة الشنيعة التي اقترفتها بحق من كُنت تتدعي حبها لسنوات، لكنك لم تفعل للأسف، شهور وأنا أزورك مع ابنك هنا وكل ما تقوم به هو إخبارنا بما ستفعله بعد الخروج من هنا وكيف ستغير اسمك حتى لا تتأثر في العمل، بل إنك تفكر في رفع قضية كي لا يوضع اسمك ضمن المجرمين ذو القضايا الجنسية، لكنك لم تفكر في الندم أو التكفير عن ما فعلته، لم تفكر في تأثير ما حدث حتى على ابنك، هل تعلم حاله في كل مرة أحضره معي هنا وهو يرى والده بين المجرمين، بل هو واحدٌ منهم!
ضغطت على جبهتها بإصبعي السبابة والإبهام وهي تتابع:
- يا إلهي أصبحت أشعر بالذنب كلما جاءت سيرتك أمام غسق أو ما فعلته لها، كأني أنا من فعلت ذلك أو تسترت عليك!
ترقرقت الدموع في عينيها ولم تلبث أن سقطت دون وعي منها، وتحشرج صوتها حتى خرج باكيًا:
- أنت لا تفكر إلا في انتقامك السخيف من ساجي، لماذا لأنه قام بإهانتك منذ زمن عندما قمت أنت بخطبة زوجته منه! هل كنت تريد منه أن يأخذك بالحضن ويقدمها لك مثلًا؟
ثم أي إهانة التي تتحدث عنها لا أعرف! أنت الذي لم يكتفِ بما فعلته عندما خطبتها منه، رغم شكك في علاقتهما، لكنك استمريت في اللحاق بها وإظهار حبك المزعوم لها في كل مكان خصوصًا أمامه، ماذا كان غرضك وقتها؟ هل كنت تتوقع منها أن تترك ساجي
وتهرب معك مثلًا أو تطلب منه الطلاق؟ ربما تشعر بالإهانة لأنها اختارته هو لا أنت؟
هل لا زلت تحبها آدم؟
رفع عينيه إليها وقد هاله منظرها الكسيِر؛ زهراء لم تكن يومًا امرأة ضعيفة مكسورة يمكن لأحد أن يبكيها، بل هي من كانت تكسر كل من يحاول الاقتراب من كرامتها.
لا زال يذكر منظر كاظم وهو يترجاها لتعود له وهي لم تنظر له حتى، بل تصرفت كأنه غير مرئي بالمرة، تخطته وأكملت شرح باقي صورها للجمع الغفير الذي لم يصدق بأن هناك رجلًا يبكي أنثى بتلك الدرجة وهي لا تلين له!
وها هي الآن تبكي من أجله، بل من أجل ما فعله وجعلها تعاني بسببه، قد لا يكون نادمًا على فعلته تجاه غسق، لكنه نادم وبشدة على ما سببه من ألم لزهراء، زهراء التي يعشقها حتى النخاع ويكابر منذ سنين، يا إلهي ها هو على وشك خسرانها مرة أخرى، هذا إن لم  يكن قد خسرها بالفعل!
أمسكت حقيبتها وقالت وهي تستعد للمغادرة:
- لن آتي لزيارتك لمدة، سوف أذهب في رحلة عمل، عليَّ أن أتخلص من الضغط العصبي الذي أنا فيه الآن، لا تقلق سوف أتفق مع دودي على أن يأتي لزيارتك عندما تقدر أمه على اصطحابه.
وقفت وهي تقول في نبرة جعلت قلبه ينشطر لنصفين:
- إلى اللقاء آدم، ربما وداعًا.
********
بعد أن أرسل لها المحامي جميع أوراق القضية حسب الاتفاق مع سراج أخذت عدة أيام تدرسها، لم تفهم القسم الجنائي فأعطته لساجي عله يجد به ثغرة أو شيء يخرج مُنى من ورطتها، فهو لا يزال مصر على عدم الرجوع للوطن دونها، خصوصًا بعد أن قرر إياد العودة ليدير الشركة من هناك، فقد ظهر لهم بأن هناك تقصير كبير ويجب على أحد منهما أن يتولى الأمر بسرعة.
أما هي فقد تولت أمر التحويلات المالية والرسائل النصية التي بعثت من هاتف مُنى من المزرعة، كذلك الموقع الالكتروني الذي يدير تلك الشبكة، كان معقد للغاية وعليه حماية قويه جدًا، يجب الدخول للدارك ويب كي يتمكن العميل من إيجاد ما يرغب به من بضاعة؛ كما أن إدارته تتطلب مهارة عالية في الحواسب وشبكات النت، كي لا يتم اختراقها أو تتبعها من أي جهة أمنيه أو غيرها.
السؤال الذي كان يطرح نفسه وبقوة، من أين لمُنى بتلك المعرفة؟
دخل عليها ساجي المكتب لكنها لم تنتبه له إلى أن سمعت صوت صغيرها يناغي، فرفعت رأسها عن الحاسب الآلي لتجدهم أمامها.
ابتسمت وهي تقوم وتقترب من عربة طفليها تقبلهما.
رفعت رأسها لساجي فوجدته يبتسم! كم باتت تكره تلك الابتسامة التي أصبحت جزءً منه مؤخرًا.
عادت لمكانها دون أن تنطق بحرف، ليقول هو بمودة زائدة:
- مرحبًا لكِ أيضًا، لا داعي لأن تظهري كل تلك السعادة لرؤيتنا.
لم تزح نظرها عن شاشة الحاسب وهي تقول بفتور:
- ومن قال بأني سعيدة لرؤيتك؟
وضع يده على صدره مكان القلب:
- آه، لقد أصابتني الرصاصة في مقتل!
حركة رأسها بزاوية قليلة لليمين مع نظرة عين للأعلى في معني(لا أهتم)
أنزل الطفلين ووضعهما أرضًا في المكان المخصص للعب؛ فقد جهز لهم واحد منذ فترة حتى يقدر على جلبهما معه للعمل.
ثم اقترب من مكتبها وقال بجدية هذه المرة:- هل وجدتِ شيئًا؟
تابعت النقر على مفاتيح الجهاز:
- أعتقد بأني وجدت، المكالمات لم تخرج من هاتفها أو محيط المزرعة إلا في خلال الأشهر الماضية، وهذا غير منطقي، لو كانت هي من تديرها لماذا لم تظهر منذ البداية، خصوصًا وأن شبكة الاتصال ليست جيدة دائمًا في المزرعة، بل لم تتحسن إلا في السنتين الأخيرتين، من الأولى أن تظهر قبل ذلك، أو يظهر في اتصالات بالخط الأرضي.
وضع كوب القهوة  والشطائر التي أحضرها معه، ولم تلاحظها في البداية ثم جلس في الكرسي بجانبها وهو يقرب القهوة لها ويضع الشطيرة على  طبق من البلاستيك من الواضح أنه أحضره معه أيضًا، ثم أخذ يرتشف من قهوته ويقول في اهتمام كأنه يفكر في شيء:
- معكِ حق، لقد لاحظت بأن الحساب البنكي لم يُفتح إلا منذ شهور فقط، كذلك التحويلات لم تكن بتلك المبالغ المهولة التي يمكن أن تغري أمي كي تجازف بسمعتها وتدخل في أعمال مشبوهة.
تأملت شطيرتها فوجدتها كما تحب أن تأكل، قضمت منها لأنها كانت جائعة جدًا فقد خرجت مبكرًا للعمل دون إفطار ولم تأكل شيئًا خلال النهار لانهماكها في العمل.
شعرت به ينظر لها ب..
لا لن تصدق إنه حب، لكن تلك الابتسامة تعلو ثغره، مثل كل مرة!
وضعت شطيرتها وتظاهرت بأنها تتابع العمل وهي تقول مبعدة عينيها عنه:
- هل تعني أن هناك من قام بالإيقاع بها؟ هذا ليس منطقي لماذا قد يتكبد أحدهم تلك المشقة للإيقاع بها، أعني من الواضح بأن الشبكة قائمه منذ زمن، وقد قاموا بزج اسم زوجة خالي بها فقط؛ لكن السؤال من فعل ذلك وكيف؟
لاحظ أنها لا تقول أمك أبدًا، حتى لا تشعره بالعار ربما أو تقلل منه؛ هل لا زالت تهتم بأمر حزنه، أم هي فقط تفعل ذلك بحكم العادة.
فهي دائمًا كانت تراعي الجميع ولا تحب أن تذكر أحد بشيء يؤذيه أو يقلل منه، حتى العمال في منزل المزرعة، الساعي في الشركة أو السائق، لم تقم يومًا بالتكبر عليهم أو الشكوى من العمل أو حتى مناقشة الصفقات ذات المبالغ الكبيرة أمامهم  حتى لا يتحسروا على أنفسهم.
هذا ما كررته له كثيرًا حتى يفعل مثلها وفعلًا أصبح مثلها بعد فترة، لكنها هي الأصل.
خلل شعره بغضب وهو يتذكر بأنه تجاهل كل مميزاتها ليلهث خلف انتصار تافه أمام عائلته انتصار مزيف لم يكن سوى فشل ذريع في الواقع.
أنهت شطيرتها ومدت يدها تأخذ شطيرتُه، فتحتها أولًا فقد توقعت أن تجد بها نوع من اللحوم كعادته لكنها وجدتها وللصدفة الغربية نفس مكونات شطيرتها!
عقدت حاجبيها، لكنها التهمتها دون استئذان من شدة الجوع.
رفع عينيه وهو يسمع صوت استمتاعها بالأكل، ليجد أنها أنهتها:
- صحه لا داعي للاستئذان.
مسحت فمها بمنديل وهي تقول:- لا داعي لتلك الحركات، لقد جلبتها لي من الأساس، فأنت لا تأكل شطائر الخضار أبدًا.
- من قال ذلك لقد أصبحت نباتيًا.
جحضت عينيها وهي تصرخ به:
- ماذا؟! منذ متى! لا أصدق! أنت فقط تريد إحراجِي؛ من رابع المستحيلات أن تصبح نباتيًا.
عقدت ذراعيها ونظرت له في تحدي، تلمع عينيه بلمعة تعرفها جيدًا؛ لكنها لن تجعله ينتصر عليها.
عاد بظهره للكرسي وهو ينقر على الطاولة:
- منذ شهرين تقريبًا، الأمر ليس هينًا، بصراحة لا أعرف كيف تفعلين ذلك طوال السنوات الماضية؟ خصوصًا أن مدرب الرياضة الذي أتعامل معه أعطاني نظام خاص يجب أن اتبعه، حتى احصل على البروتين اللازم لتقوية العضلات، لكني مستمر به، لنرى إن كنت أقدر على الصمود أم سأنهار أمام شريحة لحم مشوية؟
لا تريد أن تصدق ما يقوله لها قلبها، هي تحلم هذا غير ممكن، لقطع الشك باليقين سألت:
- لماذا؟ أعني لماذا قررت فعل ذلك والآن بالذات؟
لمحة من الحزن ظهرت في عينيه واختفت بسرعة، ليقول بهدوء وقد زالت ابتسامته أخيرًا:
- لماذا؟ لأني أريد أن أكون مثلك، أشارككِ كل ما تفعلينه وتحبيه؛ لطالما شاركتني كل شيء أحبه، بدءً من عملي حتى حبي للسفر وعشقي للتصوير الذي لم أخبركِ يومًا عنه، لكنكِ عرفتِ بذلك من تلقاء نفسك.
زفر وأنزل عينيه وهو يتابع في خزي:
- لقد تجاهلتُكِ كثيرًا رغم حبك الذي نمى بداخلي مثل يثمة جريسية.
- مثل ماذا؟!
رفع عينيه لها ليجدها تنظر له بتساؤل:
- إنها نوع نادر جدًا من النبات الذي ينمو بين الصخور دون الحاجه لزراعته أو الاعتناء به، وأنا كنت الصخرة الصماء التي فجرتها من خلال زرع جذور حبك فيها.
نفس الشعور الذي يعتريها مؤخرًا عندما يلقي عليها غزله الصريح، سرعة ضربات القلب، فراشات ترفرف في البطن، إحساس بأنها تطير بين السحاب، والأسوأ بالنسبة لها هو تلك السخونة التي تكتسبها فجأة جراء تدفق الدم لخديها علامة على الخجل!
تنحنحت لتغير الموضوع وتزيل عن نفسها الخجل:
- إذًا أنت تتفق معي أن هناك من قام بتوريط زوجة خالي؛ لو عرفنا من هو وقتها نقدر على إخراجها من القضية بسهولة.
عرف غرضها ولم يمانع؛ يكفي بأنه تأكد من تأثيره عليها مرة بعد الأخرى، انحنى ليحمل صغيره بين ذراعيه فقد لاحظ أنه بدأ في البكاء ليهدئه:
- في الواقع أمي لها أعداء كثر، فهي لم تترك أحدًا إلا وقامت بإيذائه بلسانها على الأقل؛ لكني أشك في شخص معين، سوف أقوم بالبحث أولًا قبل أن أتخذ الخطوة القادمة ضده.
هزت كتفيها ولم ترد في البداية، تابعت العمل لمدة بسيطة وهو يقوم بتغير حفاظة تيم بتقزز واضح؛ عضت على خدها من الداخل كي لا تضحك أو تبتسم على منظره.
أما هو فقال وهو يكاد يفرغ ما في معدته من التقزز:
- ماذا تقومين بإطعامهما؟
انفجرت بالضحك بمجرد أن أنهى جملته، بقت تهتز كلها لعدة دقائق وهو ينظر لها بغضب.
أجبرت نفسها على كتم الباقي من ضحكتها لتقول وهي تضم شفتيها:
- لا تتكلم عن صغيريَّ بتلك الطريقة، ثم قلت لك مئة مرة لا تحضرهما للعمل، لا يجوز، المكتب للعمل وليس لكي تلعب مع الأطفال.
رفعت حاجبها كأنها تذكرت شيء للتو:
- لماذا أتيت؟ فهذا وقت عملي هل تريد أن ترمي حمل الطفلين عليَّ بإحضارهما هنا؟ كنت أعرف بأنك لن تتحمل المسؤولية لوقت طويل، كل القصة تمثيلية رخيصة لأصدق أنك تغيرت، وأنت لم ولن تتغير أبدًا!
- هلا توقفتِ عن الحديث قليلًا
قال بصوت صارم رغم انخفاضه مما جعلها تصمت بالفعل.
- لقد أتيت الآن لأني أريد التحدث في أمر هام، وأنتِ ترفضين الخروج معي، كما أني لا أرغب في الحديث أمام فرح.
لوت فمها وهي تقول باستهزاء:
- وما هو هذا الأمر الهام الذي لا تريد لفرح معرفته، ولا تقدر الحديث فيه معي إلا بمفردنا؟
- زواج أيهم وميلا.
ارتخت ملامحها قليلًا ثم تسربت ابتسامة حالمة لشفتيها:
- حقًا هل سيتزوج أيهم وميلا أخيرًا، يا إلهي أخيرًا قصه حب حقيقة تكلل بالنجاح.
لا يعرف لماذا شعر بأن كلماتها ضربته في مقتل دون أن تقصد ذلك حتى؟
ابتلع الغصة التي في حلقه ثم قال كأن الأمر لم يؤثر به:
- ميلا اتصلت بي لتخبرني بأن أيهم قرر أن يغلي الزفاف بسبب وضع سجن أمي، مجرد حفل بسيط في عقد القران، لكنها تخشي من ردة فعل فرح، ربما تقوم بشيء ليلغي الزواج!
- ولماذا يلغي أيهم الزفاف؟
نظر لها ساجي بملامح مبهمة دون أن يقاطعها، لكنها تنتبه له.
تابعت بنفس النبرة الهادِئة التي يتخللها بعض الحسرة، أو هو تخيل ذلك:
- ميلا انتظرت أيهم لسنوات، حتى يعترف بحبه لها، من حقها أن يقام لها الزفاف الذي تخيلته وتمنت الحصول عليه.
وضع تيم أرضًا ثم التفت لها قائلًا:
- أيهم يرى أن الوقت غير مناسب، وهي ترفض التأجيل، لذلك اقترح هو أن يختصر الاحتفال ويجعله ليوم عقد القران، ميلا ليس لها أقارب تقريبًا، الرجال بصفة عامة لا يهتمون بإقامة حفلات ضخمة للزفاف.
أطلقت ضحكة عالية مستفزة ثم نظرت له من أعلى لأسفل:
- حقًا لا تحبون الاحتفال بالزواج؟ ماذا عن حفل زفافك من روبين! أقصد المهرجان الذي أقمته ودعوت له الجميع، حتى أنك أطلقت فيه الألعاب النارية وقمت بمراقصتها علنًا.
وضعت سبابتها أسفل خدها لتسأل:
- ذكرني من الذي يكره أن يراه الناس يحتضن زوجته ويراقصها علنًا.
منذ مدة وهو ينتظر منها أن تتحدث عن الزفاف أو تلمح له، منذ حفل  تالين بالواقع، أما قصة الرقصة فهو ينتظر منها ذلك منذ يوم زفافه، وقبل حتى أن تقوم روبين بتقبيله!
نعم كان ينتظر لومها له منذ تلك اللحظة، رغم أنها لم تتعود على لومه سابقًا لكن في اللحظة التي أجبرته فيها روبين على الرقص شعر بأن غسق لن تغفر له!
وهل ستغفر له الباقي كي يطلب منها أن تغفر عن تلك الزلة!
اقترب منها ناظرًا في عينيها لعلها ترى الصدق بهما:
- لم أرغب في الحفل، لم أخطط له ولم أعلم به إلا قبله بعدة أيام، أعترف بأني كنت سعيد بوجود أصدقائي حولي و..
قاطعته بصرامة:
- لا يهمني اعتذاراتك الواهية ولا تبريراتك التي لن تقنعني ولا تغير ما حدث.
أولته ظهرها كي لا تخونها مشاعرها ويظهر الحزن على محياها، أخذت بضع ثواني قبل أن تقدر على النطق مرة أخرى:
- ميلا تستحق زفاف كما تريد، لا تدعي بأنك حزين على والدتك فلا أحد يفعل، سراج يتصل كل دقيقة بفرح ليتغزل بها ويطالبها بالعودة له، وتالين لا تعرف بما حدث لوالدتك،
كون أن لا عائلة لميلا لا يعطيكم الحق بأن تجوروا على حقها في ما تريد، كفوا عن استغلال الغير.
عقد حاجبيه وقال في صدمة:
- استغلال! هل قمت باستغلالك سابقًا لتتهمني بهذه التهمة الآن؟
جلست على الكرسي ورفعت يدها تعدد له:
- عندما لم تقيم عزاء لأهلي وأقامت واحد لوالد روبين بل ذهبت كي تواسيها، وأنا لم أرى أي منكم طوال أسابيع  حتى قرر خالي زواجي منك؛ عندما لم أحظى بزفاف ولا تدعي بأني كنت صغيرة وقت زواجنا، كان يمكنك أن تعلنه بحفل بسيط حتى بعد أن أصبح فعلي، لكنك ساومتنِي حتى على خاتم الزواج!
كان تود أن تكمل لكنه قاطعها:
- لقد أقمنا عزاء لعمتي وزوجها وابنها الصغير، لم يكن في البلد طبعًا لأن جدي رفض أن تدفن في مدافن العائلة.
جلس على الكرسي وهو يمسح على وجهه:
- لقد ذهبتِ للمقبرة الخاصة بهم عدة مرات في المدينة، ألم تلاحظِي بأنها تقع بقرب باقي مدافن القاسم.
تذكرت بأنها لاحظت ذلك من اليوم الأول و قد استغربت عندما عرفت بأن جدها منع دفن والدتها بمدافن العائلة، إذن كيف تكون مدفون هناك! لكنها لم تخبر أحدًا؛ لأن خالها طلب منها ذلك.
-اشترينا مقبرة من أفراد العائلة المقيمين بالعاصمة دون إخبار جدي، ولأننا دفعنا مبلغ كبير لم يهتموا بهوية من سيدفن بها؛ حتى العزاء أقمناه هناك وقد حضر زوج عمتك وابنه وصهره، أعتقد لكن عمتك لم تحضر ورفضت الاعتراف بكِ.
أنا وأبي فقط من نعرف ذلك حتى سراج لم نخبره، إياد أيضًا يعرف بالطبع وعمي بلال رحمة الله عليه، أما أنتِ فقد أصابكِ انهيار عصبي، بقيتِ في المستشفى تحت الملاحظة، كنتِ تصرخين عند استيقاظك من النوم أو رؤيتك لأي زهور في الغرفة.
- زهور! ماذا تعني لم أفهم.
- ألا تذكرين حقًا؟! إصابتك  لم تكن خطيرة وعندما أفقتِ قمتي بالبحث عن باقي أسرتك عندها وجدتي عمتي ميته مغطاة بكومة زهور كذلك شقيقك؛ شاحنة النقل التي اصطدمت بكم كانت تحمل طلبية زهور لإحدى المعارض، كنتِ تصرخين مثل المجنونة وأنتِ تحاولين إزاحة أكوام الورد والنبات عنهم؛ هذا ما أخبر به الناس الذين أسعفوكِ الطبيب، وبعدها أصبحتِ تكرهين رؤية الورد حتى في المكتب لذلك منعت إحضاره واكتفيت بالصبار
ومنعته من البيت دون أن أخبر أمي بالسبب حتى لا تضايقك وأنا غير موجود.
زاد انعقاد حاجبيه وهو يسأل:
- ألم تلاحظِي أني لا أجلب لك الورد أبدًا.
كلامه صدمها بشدة، لم تكن تعلم كل هذه الحقائق، رغم أنها تذكرت بعض الصور المتقطعة عند حدِيثه، كما أنها تذكرت نفورها من الورود التي أحضرها لها آدم.
عند ذكر آدم في عقلها شعرت بتقزز وعادت ذكريات الحادث لها مرة واحدة، لتجري ناحية الحمام وتخرج كل ما في معدتها.
انحنت تريح رأسها على المغسلة وهي تشعر بالتقزز مرة أخرى، طرقات على باب الحمام هي ما جعلتها ترفع رأسها لتشاهد وجهها الذي أصبح لونه أصفر كما أبيضت شفتيها.
-غسق هل أنتِ بخير؟
جاءها صوته القلق، لتأخذ نفسًا ثم تقوم بغسل وجهها بالماء، وأخذت تربت على خديها حتى يعود لهما لونهما الطبيعي.
بعد قليل خرجت من الحمام ولا يزال واضح عليها علامات الاضطراب، بحثت عن حقيبتها حتى وجدتها أخيرًا مع أنها كانت أمامها طوال الوقت ثم قالت وهي تتجه للخارج:
- لدي موعد مهم يمكنك ترك تيم وتيام مع  فرح أو المربية.
ثم اغلقت الباب خلفها دون أن تعطيه فرصه للرد.
وقف مكانه مذهول من ما جرى للتو!
************
في الوطن أنهى سراج مكالمة مع المحامي المكلف بقضية والدته، ثم خرج من غرفته يبحث عن والِده، وجده جالس في غرفة جده يتحدث له دون أن ينتظر إجابة منه، فهو غير قادر على الرد بسبب حالته الطبية، مع أن نظرة عينيه تقول أنه يفهم كل ما قاله سليم له.
تنحنح سراج بصوت عالي فالتفت له سليم، أشار بيده بأنه يريد أن يتحدث معه في أمرٍ هام وخرج من الغرفة، ليلحقه سليم إلى غرفة المكتب.
دخل وأغلق الباب خلفه، وجلس خلف المكتب كالمعتاد.
قال سراج وهو يفتح الرسالة التي أرسلتها غسق له على هاتفه النقال:
- هذا آخر ما توصلت له غسق، وساجي لا يزال يبحث في أمر الحساب البنكي، لقد كنت أتحدث مع المحامي للتو، وأخبرني بأن ذلك يساعد موقف أمي في القضية كثيرًا.
لم يهتم بقراءة الرسالة أو حتى النظر لها، قال بعدم مبالاة:
- جيد لكن ما دخلي بالموضوع؟
أغلق هاتفه وهو يقول بصوت خفيض محاولًا أن لا يظهر غضبه:
- ماذا تعني أن لا دخل لك في الموضوع؟ هل نسيت بأنها زوجتك وأم أولادك.
مصححًا له، حرك سبابته في علامة نفي وهو يقرن فعله بالقول:
- ليست زوجتي، لقد طلقتها قبل أن يتم القبض عليها بمدة.
- أبي!
- ماذا هل أكذب؟ لقد طلقتها ولم تعد هناك أي صفه تجمعني بها؛ يكفي أني تحملت منها ما لا يقدر رجلٌ غيري على تحمله، فهي لم تدخر جهدًا لأذية كل شخص في منزل عائلتي، بل هي كانت دومًا تعايرني بفجر! لا تعرف الكلمات القاسية التي كانت تلقيها على مسامعي في كل مرة أذهب فيها لزيارة شقيقتي؛ لدرجة أني أصبحت أخفي عنها سفراتي لها وأطلب منك أن تكذب معي، وفي النهاية اكتشفت أنها تآمرت لقتلها.
لم يجد سراج الكلمات المناسبة ليقولها، فوالدهُ محق، لكنه لم يقدر على تقبل تخلي الجميع عن والدته، رأى الحزن في عيني ابنه ليقول بنبرة أقل حدة:
- لم أتدخل يوم في معاملتها لتلك اليتيمة ولا حتى لفرح، كنت أقول هذه أمور نسائية وهن قادرات على حلها،  كنت دائمًا أقول بأنها زوجتي ويجب أن أتحملها مهما كان، بحجة أن لا مكان لها إلا بيتي بعد كلام والدها؛ لكنها أخذت صمتِي على أنه ضعف وقلة حيلة.
قام من مكانه ولف حول المكتب ليضع يده على كتف سراج الذي أحنى رأسه في خجل أو ربما خزي:
- صدقني يا بُني أنا لا أشعر بالشماتة ناحيتها، ولست سعيد حتى بوضعها، لكني لا أقدر على مساعدة، نفسي أصبحت لا تتقبلها ولا تتقبل فكرة مساعدتها حتى وإن كانت بريئة.
لم يقدر سراج على الرد عليه، ماذا سيقول، هو شخصيًا يقوم بذلك مجبرًا، فقط لأنها والدته وهذه واجبه ناحيتها، لكنه داخله شيء لا يرغب في ذلك، ربما هذا سبب في تقصيره تجاه القضية ورمى الحمل على ساجي وغسق!
***********
وصلت للطبيبة النفسية بعد وقت قليل، سمحت لها السكرتيرة بالدخول فورًا، فقد قامت بالاتصال بها فور خروجها من المكتب تبلغها بالحالة التي أصابتها.
كانت لا زالت ترتعش وتشعر بالقرف الشديد، لدرجة أنها تقيأت أكثر من مرة في طريقها لها.
بمجرد دخولها لغرفة الطبيبة أخبرتها بكل ما حدث وأخبرها به ساجي؛ كذلك ردة فعلها على ذكرى زهور آدم.
كانت تمشي في الغرفة  ذهابًا وايابًا وهي تفرك أعلى ذراعيها بكفي يدها في طريقة توحي بأنها تريد طمأنة نفسها أو ربما لتهدأ روعها!
بعد أن أنهت حديثها ظلت تفرك يديها بنفس الطريقة وصدرها يعلو ويهبط بطريقة ملحوظة للناظر.
لم يظهر على ملامح الطبيبة شيء كالعادة، فقد قالت في هدوء:
- هلا جلستِ من فضلك؟
جلست على مضض على حافة الكرسي
من دون مقدمات قالت:
- غسق أنتِ حتى الآن لم تتحدثِي عن واقعة الاغتصاب، بل إنك ترفضين الحديث عن التفاصيل حتى معي.
شحب وجهها وانكمشت على نفسها بطريقة مؤلمة للقلب.
أخرجت الطبيبة من الثلاجة الصغيرة الموجودة في مكتبها علبة عصير ليمون وقدمتها لها؛ بعد أن ارتشفت منها عدة رشفات تابعت الطبيبة كلامها:
- أولًا لم أكن أعرف بأنك أصبتِ بانهيار عصبي سابقًا، ربما هذا يفسر الكثير.
رفعت عينها لها في تساؤل، لتبتسم لها الطبيبة وهي تقول بنبرة حنونة:
- لا تشغلي بالك هذه أمور تهمني أنا كطبيبة في تشخيص حالتك فقط؛ دعينا نكمل حديثنا، ما حدث لك يعتبر نوع من أنواع الانتكاسة.
عقدت حاجبيها وقالت باستغراب:
- انتكاسة!
هزت الطبيبة رأسها بعلامة موافقة وهي تقول:
- سوف أشرح لكِ الأمر، عندما ذكر ساجي موضوع الزهور وتذكرتِ ردة فعلك عندما أحضر لك آدم باقة الورد الكبيرة، قام عقلك الباطن بربط احساسك بعدم تقبل وجود الورد وقتها وأنكِ أجبرتِ نفسك على تقبل هديته وابقائها في شقتك، حتى لا تجرحيه وكذلك تثبتِي لمن حولك بأنكِ تخطيتِ ساجي وتحاولين إعطاء آدم فرصه؛ بما حدث عندما وافقتِ على الزواج من آدم وما تبعه من اغتصابه لكِ.
قطعت حديثها بعد جملتها الأخيرة لتستوعب غسق ما حدث لها، فهو كثير؛ خصوصًا وأن عقلها لم يعالج بعد أمر الاغتصاب بل يحاول أن يضعه في خانه النسيان بعدم ذكره في أي مناسبة.
مرت فترة غير قصيرة عندما نطقت غسق:
- هل سأظل على هذه الحالة كثيرًا؟ أعني متى يختفى هذا الشعور؟
أنزلت الطبيبة كفي غسق وأمسكتهما بين خاصتها:
- سيختفي، أؤكد لك بأنه سوف يختفي، لكن عليكِ أولًا أن تخرج ما في داخلك.
ارتعبت نظراتها:
- ماذا تعنين؟
- أعني ما فهمته غسق؛ يجب أن تخبريني عن الاغتصاب، يجب أن تخرجي ذلك الحمل من داخلك وترميه عنك للأبد، من أجلك غسق، صدقيني قد تكون هذه المرة الأولى التي تحدث فيها انتكاسة لكِ ولكنها بالتأكيد لن تكون الأخيرة، إلا إذا...
سحبت يدها منها وضمتها لصدرها وهي تفكر؛ كيف ستفعلها كيف!
تحاول منذ ذلك اليوم المشؤوم أن لا تذكر ما حدث، لدرجة أنها قررت بأن لا تشهد ضد آدم في المحكمة حتى لو أجبرتها سارة، حمدًا لله أنه اعترف وجنبها تلك الحرب التي كانت ستنتهي بخسارتها لسارة، كما خسرت فرح.
أخرجها من تفكيرها صوت الطبيبة وهي تقول بصوت حازم نوعًا ما:
- عليكِ أن تبدئي في إخراج تلك السموم من تفكيرك وإلا سيأتي اليوم الذي تطفو على السطح وتتحكم بكِ وقد تحول حياتك إلى مأساة.
أخذت شهيقًا طويلًا وتركت دموعها تنزل دون أن تمنعها، ثم قالت بصوت محشرج:
- ماذا تريدين أن تعرفي؟
- أريدك أن تتكلمي، احكي عن ما حدث، ابدئي من أي مكان لا يهم.
مسحت وجهها بكفيها ثم عادت للوراء وبدأت في الحديث المتعسر، الحديث الذي تجنبته حتى بينها وبين نفسها، الحديث الصعب، بل الأصعب على الإطلاق.
*******
ظل ساجي يفكر في ما الذي أخطأ فيه كي ينقلب حال غسق وتخرج مسرعة بتلك الطريقة المريبة، ذهب لإياد أولا عله يجد عنده الإجابة بعد أن وضع الأطفال عند فرح والمربية
بالطبع لم يحكِ له عن التفاصيل مجرد فكرة عامة عما جرى
- لا أعرف لماذا خرجت مسرعة بتلك الطريقة وأين ذهبت؟ اتصل بها من وقتها لم تجب عن اتصالاتِها في البداية ثم أغلقت الهاتف.
حاول أن يهدأ من روعه:
- ربما لم تغلقه متعمدة، بل فرغت بطارية هاتفها؛ لماذا تفترض الأسوأ!
ظهر عليه عدم الاقتناع وهو يسأله:
- وماذا عن ما حدث قبل أن تخرج من المكتب؟
- لم يكن بها شيء وفجأة تغير حالها مئة وثمانين درجة؟
حاول إيجاد شيء لكنه قال وهو ويحرك يده في الهواء:
- لا أعرف بصراحة، النساء لديهن هرمونات قادرة على تغيير مزاجهن من أبيض إلى أسود في ثانية واحدة اسألني أنا.
لم يفهم ماذا يقصده لكنه قرر تجاهل الأمر.
- دعك من أمر غسق الآن، أريدك أن تقنع إياد بإقامة حفل زفاف ميلا تستحق ذلك.
حرك رأسه في حرج:
- في الحقيقة ميلا أجبرته على ذلك وإلا لن تتم الزواج؛ وهو كان محرج من أن يخبرك أو يخبر سراج بالأمر، فطلب مني تولي المهمة.
ضحك بشدة حتى وقع على ظهره من شدة الضحك؛ ليعقد إياد حاجبيه:
- بت لا أصدق تصرفاتك ساجي، هذه أول مرة أراك تضحك بها بتلك الطريقة منذ سنوات.
- لقد تخيلت منظر أيهم وميلا تؤنبه وتفرض عليه حفل الزفاف، ثم تأتي فرح لتلغي كل ذلك، يا إلهي ماذا سيفعل وقتها؟
- الأمر ليس مضحك بالمرة، أيهم لا يستطِيع الوقوف في وجه فرح، وفرح لا تتقبل ميلا ولا أي امرأة أخرى، تخيل بأن تكون في مكانه هو بين نارين، صدقني وضعه يبكي لا يضحك.
- معك حق أعتذر.
قام بتغيير الموضوع فهو رغم صداقته الوثيقة بإياد لا يحب أن يتدخل بينه وبين إخوته أبدًا:
- إذًا متى نويت العودة للوطن؟
- في أقرب وقت، الطبيب أكد لنا أن وضع سابين جيد والسفر لن يؤثر على الحمل.
- إياد هل أنت متأكد من تلك الخطوة؟ أعني العيش في الوطن ليس سهل بالنسبة لوضع سابين.
نظر له إياد بنظرات حارقة مستنكرة ليقول بسرعة:
- تعرف إني لا أحكم عليها، لكني أتكلم من حكم تجربتي، أمي جعلت حياتي مع غسق لا تطاق، لم يمر يوم إلا وذكرتني بعمتي وما فعلته، جدي لم يدع فرصة أمام الأقارب إلا ولمح بكونها ابنة فجر التي حملت بها س..
ابتلع باقي الجملة، لكن إياد فهم ما يعني
- صدقني الجميع تآمر لجعل حياتنا لا تطاق، أخشى أن تعاني من ما عانيت سابقًا، لماذا لا تترك المجال مفتوح لعودتك إن لم تقدر على التأقلم هناك، بعض البشر يستمتعون بأذية غيرهم وتخريب حياتهم.
- لا تقلق لقد وضعت هذا الاحتمال في بالي؛ لا تنسى أني عشت معك حياتك كلها، أنا فقط أريد أن أثبت لسابين بأني لا أخجل منها، ومستعد لمواجهة العالم وهي بقربي، زوجتي وأم ابني.
*****
استمرت الجلسة لوقت طويل أو هكذا هيئ لها، رغم أنها لم تتكلم إلا عن بداية معرفتها بآدم و كيف مالت له في البداية وحاولت اعطاءه فرصة، لكنها أرادت التروي أولًا حتى لا يكون زواجها منه مجرد انتقام من ساجي أو ردة فعل عما بدر منه آخر مرة ذهب وتركها ليلحق بعزاء والدة روبين( كما تعتقد هي).
عادت للمنزل منهكة القوي لم تتكلم مع أحد، بالكاد قضت بعض الوقت مع طفليها ثم وضعتهما في الفراش ليستغرقا في النوم فورًا.
فعلت هي المثل، دون أن تستجيب لثرثرة فرح، حول زفاف ميلا الذي ترفضه، فكيف لها أن تقيم زفاف في ظروف مُنى الحالية!
استيقظت صباحًا لتبدأ جولتها الاعتيادية بعد الصلاة، من التغيير للطفلين واطعامهما ثم صنعت قهوتها وأخذت تقلب في هاتفها لتجد رسالة من ساجي فتحتها 
إلى تلك القاطِنُة بقَلبِي
سَلام عَلى قَلبِك أينما كُنت.. أمَّا بَعد؛
أريدك أنْ تَعرفَي جيدًا أنّ وجُودك يُشكّلُ فارقًا عظيما بقلبي ورَوحِيَّ وبَالي، وانّي أحِبُّك قلّبًا وقالِبًا ورَوحًا وتفصيلًا الآنَ ولاحقًا وبعدَ عُمرٍ طويل.. وأنّ الحياةَ دوُنك باهِتةُ واللحظاتَ دهورا..
أحِبُّك أكثر مِنْ وَصفِ الكَلِماتِ وأحرُف كُلِّ اللُغاتِ، وأني وَجدّتُ فِيك ما رَغبتَ فِيه كَما أحبَبت وأحبَبَتُ حتّى ما لم أرغبُ..
تَكفيِني عنْ العَالمِ يا كُلّ العَالمَ يا وَتينُ قَلبيَ.. أنا مَسْكَنُك وسَكَّيِنَتك ومَلاذُك الِآمن وَ دِرعَك وجَيشَك وكَتائبك إذا رَاهنَ عَلى هَزِيمَتكَ الحَاقِدون.
اتصلت فورًا به وهي تشتعل غضبًا، بمجرد أن رد صرخت به:
- من الذي سرقت منه أبيات الشعر التي أرسلتها لي؟
ابتلع ريقه بصوت مرتفع:
- صباح الخير لكِ أيضًا غسق، هل أعجبتكِ لقد كنت متأكد من ذلك عند...
- لا تحاول الكذب، قل من الذي أرسل لك هذه الأبيات لا تكذب وإلا لن يخاطب لساني لسانك للأبد.
- حسنًا، لقد قام سراج بإرسالها لي، ولأنها تعبر عن حالتي قررت أن أرسلها لكِ كي..
قاطعته للمرة الثانية أو الثالثة لا يعرف بالضبط:
- كف عن ذلك الهراء، ولا تقم بتلك الحيل مرة أخرى وإلا!
أغلقت الخط في وجهه دون أن تعطيه فرصة للرد، ورمت الهاتف بغضب وهي تشتم.
على الناحية الأخرى كان ساجي يقف مذهول ينظر للهاتف الذي بيده
ليأتيه صوت تالين من خلفه:
- هل أغلقت الخط في وجهك؟
أجابها وهو لايزال تحت صدمة ما حدث:
- لا أصدق بأنها فعلت ذلك؛ ولماذا؟ لأني بعثت لها قصيدة غزل!
صححت له:
- لأنك سرقت قصيدة معروفة ومنتشرة وقمت بنسبها لنفسك؛ لو كان الوضع عاديًا بينكما  كنت سأقول بأن تلك مبادرة في منتهى الرومانسية، لكنك لا تزال تحاول إثبات حبك لها، إذن كلامك يجب أن يكون منبعه القلب وليس صفحة (مروة عصمت)!
نظر لها وقد بدا الغضب يلوح في عينيه:
- أنتِ أيضًا تعرفينها!
رفعت حاجبيها وأنزلتهما في تأكيد، ليكور يده ويضرب رأسه في غضب، مما جعلها تضحك على منظره.
احتضنت رأسه وهي تكتم ضحكتها ثم قبلت أعلى رأسه:
- لا تغضب، فقط المرة القادمة حاول أكثر، لديك فرصة خصوصًا أن إياد سوف يعود للوطن، إذن لن يبقى للعمل سوى أنت وهي، استغل كل ثانيه لتعوضها، النساء كائنات رقيقة ، كل ما نريده حنان وكلمة طيبة، احترام واحتواء، أعطيها ذلك ستعطيك حياتها.
زفر في يأس:
- لا أريد حياتها أريد قلبها، وثقتها، أريد أن أستعيدها.
ابتعدت قليلًا لتنظر له:
- لا ساجي لا تحاول استعادتها، فغسق الماضي ماتت يوم تزوجت عليها، يجب أن تجعلها تحب ساجي الجديد وإلا لن تنال شيئًا.
ظل صدى كلماتها يتكرر في أذنه عدة مرات حتى سمع صوت رنين هاتفها، وسمعها تتحدث مع سابين كما تنبأ.
أغلقت الخط بعد مكالمة قصيرة نسيبًا لتقول له:
- أنها سابين تعاني من أعراض الوحام، مسكينة لا تتحمل القيئ مع أنها لا زالت في الشهور الأولى، لو تعرف بأن بعض النساء يستمر معهن لغاية الولادة ماذا تفعل؟!
ناقوس ضرب في رأسه عند سماع تلك الكلمات، قيء، حمل، غسق، آدم!
****
يتبع

غسق الماضي الجزء التانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن