[1] حياتها.

189 19 19
                                    

تجلِس بغرفتها ، وحيدة ، تُراقب الشّمس و هِي تغرب من النافذة المُقابلة لها ، فوق مكتبها تماما.
ترسمُ ابتِسامةً باهتة على شفتيها ثم تتنهد تنهيدة طويلة مُغمِضَةً عينيها خِلالها ، تُرجع جسدها للخلف و تستلقي على السرير الذي كانت جالسة فيه منذ ثواني ، تُغمض عينيها بخفّة.. ليس لتنام ، و إنما لتُريحهما قليلا..

دقّات خفيفة على باب غرفتها تُوقِظ استراحة عينيها ، تفتحهما ببطء و تَسأل صاحب الدقات : " ما الأمر أبي ؟" بصوت خفيف ، ناعم و بنبرة لطيفة. لا تريد أن تُظهر له أنها ليست بخير..

هي بخير ، فعلا ! لكنها متعبة قليلا. و لا تريد أن تزيد الضغوط على ظهر والدها المسكين ، فقد عاش ما يكفي ، و تعب بما يكفي.. و حمل الأثقال في قلبه و ظهره بما يكفي.
نال كفايته من الحياة إلى أن صارت هي حياته الواحدة و الوحيدة. لا تريد أن تُثقل هذه الحياة عليه. آري لا تريد أن تجعل آري ثقيلة عليه.

فتح والدها الباب و دخل الغرفة بابتسامة على وجهه كالعادة و سأل : "فلنتناول عشائنا معًا.. أعلم أن الوقت مبكر قليلا ، لكن سبق و أن طبختْ لذا لا أريد أن يبرد الأكل." أنهى كلامه بضحكة خفيفة.

عدّلت هي من جلستها و أجابت ضاحكة : "لم يكن عليكَ أن تحضّر العشاء الآن، لو انتظرتني قليلا لحضّرناه سويا."
ثم نهضت من سريرها كليًّا ، أغلقت نافذة غرفتها ، و خرجت من الغرفة مع والدها.

"رائحة الأكل شهية حقا ، عليك أن تفْتَتِح مطعما يا أبي ! ستحقّق نجاحا باهرا أنا لا أمزح !" قالت هي بينما تتبع رائحة الأكل الشهية.. كانت كالقط الّذي يتبع رائحة السمك..

أدار والدها عينيه بيأس و قال : "كفّ عن قول الترهات و خذي مقعدك و لتأكلي.. تقولين هذا و أنت لم تتذوقيه بعد."

"الأنف هو سيد الأذواق يا سيدي. رائحته تشرح طعمه." قالت ضاحكة و جلست في إحدى الكراسي الثلاثة حول الطاولة.
وضع والدها قدر الطعام وسط المائدة ثم جلس مقابلاً لها بعد أن قدّم لها طعامها.

نظرت هي للكرسي الثالث الفارغ و تنهدت ، لكن أنهت التنهيدة بابتسامة كي لا تثقل على والدها مجددا و قالت بحيوية عكس قلبها الذي ينكسر من الداخل : "ألا تظنّ أنه ينبغي علينا رمي هذا الكرسي ؟ نحن اثنان الآن و لا ثالث بيننا. أمي لن تعود فقد اختارت حياتها بعيدا عنا."
قالت جملتها الأخيرة بصوت خافت ، لكن نظرًا لكونهما الوحيدان هنا فقد سمعها.

تنهد هو و وضع الشوكة التي كان يأكل بها على الطاولة. ثم قال و قد بدا منكسرًا أكثر من انكسارها هي : "من الصعب التّخلي عن الأشياء التي اعتدناها يا آري.." لكن سرعان ما غيّر نبرته إلى أخرى سعيدة و قال : "هذا الكرسي لم يعد لأمك بعد الآن. هو لحبيبك المستقبلي الذي سيكون ثالثنا !"
ضربت هي جبينها بيأس لكن بابتسامة على وجهها.

أنهَيا تناول عشائهما فنهض الأب ليقوم بغسل الأطباق ، راحت آري حينها تتأمل الصور المتواجدة في رفوف الخزانة المتواجدة بصالون المنزل -كما اعتادت دائما- و وجدتْ تلك الصورة.. المفضلة لوالدها.

صُورته هو و أمها حينما كانا شبابًا يافعين. قبل عشرين سنة من الآن ، كانا يعيشان قصة حب ، أقل ما يقال عنها أنها خيالية.. جميلة لدرجة بعيدة عن الواقعية. قصة جعلتها ترفع آمالها عاليا بخصوص الحب ، جعلتها تؤمن بوجود مشاعر قوية كالحب. بوجود شيء حقيقي و أكسجين جديد.

لكن كل شيء اندثر بعدها..

قبل أن تصلَ حتى لتحلّق بجانب الغيوم هي سقطت أرضا بقوة.. منذ أن شَهِدت أكثر مِن شجار لهما..
و آخر شجار كان حينما رأت والدها يبكي لاعنًا كلّ شيء و مُلملِمًا شتات قلبه المكسور من أجلها ، من أجل ابنته ، من أجل آري.

لطالما قطعتْ أمّها وعودا لوالدها بأنها لن تدع نفسها تنسى مجددا.. لكن العمل كان يأخذها بعيدا بعيدا.. إلى أن وصلت أن تطلب الطلاق مُنهيةً بذلك قصة الحب الخيالية بنهاية مأساوية.

ماذا عن آري؟ هي اعتقدت أنها كانت عائقا لأمها لهذا تركتها و رحلت. لكن لربما كان الأمر مختلفا بالنسبة لوالدتها ، فلِكلٍّ وجهة نظره.
لكن بالتأكيد ما كانت لتكون وجهة النظر هذه طيبة. ففي الأخير هي قد هجرت ابنتها الوحيدة و هي بعمر السادسة.

نهاية جعلت آري تُقسم.. جعَلَتها تَعِدُ نفسها أن لا تُغنّي أبدا أو تنطق مجددا باِسم الحب.

"ما من حبّ يدوم" تمتمت بهدوء و هي تواصل تأملها للصورة بين يديها. كانت هذه جملتها. حِكمتها التي تجعلها تدخل لعلاقات 'غرامية' لن تعترفَ بها. علاقات عابرة أين يُتخلّى عنها دائما في اليوم التالي. لكن هذا لا يُقلِقها. بل يجعلها مرتاحة لكونها تتعلم عدم التعلق بأي كائن.

دائما تُبقي علاقة بينها و بين هذا الذي يكون له الشرف أن يحظى بعلاقة عابرة معها.

تنهدت و وضعت تلك الصورة بجيبها. لن تدعها هنا لِيراها والدها كل يوم فينكسر قلبه.

"أبي فلنشاهد فيلما و لنذهب للنوم بعدها. سأختار الفيلم فلتحضّر الفشار" صرخت هي من الصالون و راحت تبحث عن فيلم للسهرة.

الإستثناء الوحيد || C.SBحيث تعيش القصص. اكتشف الآن