تراقص مجرى نهر النهّاش ومال بدلال على مملكة المنارة، وعلى متنه انتشرت مئات من القوارب النهريّة الخشبية، تحملها صفحة النهر الرائق وتهدهدها الرياح بحنان.
لم تكن الرحلة سريعة كما خطط لها، إنّما كانت آمنة ويسيرة على غير المتوقع. أصاب الجنود الضجر إثر طول فترة الملاحة النهرية ولاسيما الجوناري غير المعتادين على الإبتعاد عن الغابات واليابسة.
سار قاربان في مقدمة الأسطول، باليان من الخشب القديم المشبع بالماء، إلا انهما كانا اكثر من كافيين بالنسبة لبولدو، فقد غيّر خطته لتتناسب ومجريات الأحداث، وصارت المنارة هدفاً لامعاً نصب عينيه.
صوت طرقات الحذاء على الأرضية الخشبية كان كافيا لجذب انتباه حواس الزينديلو، ولو أنّه أبقى تركيزه على الأفق الصحو أمامه وتجاهل الزائر ثقيل الظلّ الذي لا ينفكّ يستفزّه بأقواله وأفعاله.
منذ البداية شعر بولدو بأن ثانيس فعل به ذلك عمداً، قلّص عدد الجوناري في هذه الغارة وضاعف عدد رجاله السوليتريّين ذوي المعاطف البراقة. ولم يكتف بذلك فقط، إذ وضع على رأس الجيش ذراعة الأيمن، الجنرال شان اللعين.
لم يكن أيّ من الرجلين معجباً بالآخر. جاهر شان بمقته للزينديلو الجشع، بينما اضطر بولدو للدهس على كرامته لبعض الوقت، ومكرهاً انتهج التملّق اسلوباً للتعامل مع الرجل الأصلع الأعور، قليل الحديث كثير التجهّم.
ألقى بولدو بنظرة جانبيّة على الجنرال الواقف قربه، وارتفعت زاوية شفته بابتسامة فخورة حين قال " من الجيد أن العواصف لم تقطع علينا الطريق بعد، سنرسو بأمان على ضفاف المنارة".
كانت بهجته واضحة ،فالتوقعات قضت هلاك عشرات الجنود بسبب سوء الطقس وتقلبات النهر ذي المجرى الحجري، عشرات القوارب كانت لتتكسّر على الصخور كأمواج هشّة لو كان الطقس سيئاً. ولكن كلّ شيء بخير.
" من المبكّر قول هذا" تمتم شان بازدراء، يلتفت بوجهه المتجهّم صوب الأفق الذي اختلط صفاؤه بغيوم دخانية زاحفة. وما لبث ان أدرف" انّ خلفك مئات القوارب لن ترسو في ذات اللحظة، عليك توقّع حدوث الأسوأ".
استشاط بولدو غضباً من أسلوب حديث الجنرال، مزدرٍ وكريه، يحسب نفسه مستبصراً. ولكن ما كان من بولدو إلاّ ابتلاع حديثه الوقائعيّ المرّ وسؤاله مباشرة " ماذا تقترح اذاً؟".
" وما شأني؟ لقد نصّبك الأمير القائد هنا وعليك إيجاد طريقة للوصول إلى الضفة قبل نزول العاصفة "أتى صوت شان الذي كان عن الجهة الأخرى من القارب، يجلس على الأرضية الباردة لينافسها في البرودة، ويصقل خنجره القصير باستخدام صخرة صماء، ليرتفع الصرير المزعج المؤذي للسمع.
تصلّب فكّ بولدو بينما ينظر للرجل في سخط، وفقط حين طالع الأفق بنظراته الناقمة زال أثر كلّ سخط وغضب، واتسعت ابتسامته القبيحة حتى كادت تبلغ أذنيه، اذ رأى مبلغ هدفه أمام ناظريه ليهون كلّ ما دون ذلك.
أنت تقرأ
القرن المظلم : عواصف الشتاء.( مستمرة)
Historical Fiction📌 ركعت عند قدميه تتوسّل الرحمة، تطلب العفو والرضى فقط ليبقي على حياة أشخاص أبرياء. لم تشفع لها عنده جميع العَبَرات والتوسلات، كان جبروته أكبر من حبه لها ولم يتجشّم عناء إخفاء تلك الحقيقة. تراقصت أشباح النار على سور القلعة الحجري، علت صيح...