الفصل الأول :رحلة على متن السفينة(١)

547 7 7
                                    

رُبمَا كَانَت اللَّيْلة الماضية اَلأقصر فِي حَياتِي ، كم تمنَّيْتُ أن لََا تَنتَهِي وأن لََا تُشْرِق الشَّمْس ، أو أن لََا يَصِل نُورهَا نَافِذة غُرفَتَي . . .

يَا إِلَهي لَم أَشعُر أَننِي على سَطْح تِلْك السَّفينة العمْلاقة وبجانبي أُخْتِي الصَّغيرة لَارَا ، والدُّموع تَملَأ وجْههَا ذَا الملامح الطُّفوليَّة ، وَشامَة مُمَيزَة أَعلَى شفتهَا . فِي نَظرِي الدُّموع شَيْء زهيد يَجِب أَلَّا نُنْفقَهَا إِلَّا على كُلِّ شَيْء جميل ، يَجِب أَلَّا تذرف لِلْحزْن أو حَتَّى لِلاشْتياق . . . اِنْتبَهتْ إِلى أُخْتِي لَارَا حِينمَا كَانَت تصيح بِصَوت عالٍ ( سأشْتَاق لَكُم ) ، حِينهَا نَزلَت دُموعي بِشَكل غزير ، وكأنَّني بِذَلك هَدمَت نظريَّتي عن الدُّموع . . صُورَة أُمِّي الرَّاحلة تَكونَت فِي ذِهْنِي فَجأَة ، تِلْك الدُّموع كَانَت مِن أَجلِها ، نظريَّتي لَم تَتَغيَّر فِي الحقيقة ، فالدُّموع تذرف أيْضًا لِأَجل أُمِّي .

أَمسَكت أُخْتِي لَارَا يَدِي وَهِي تُودِّع أَبِي وَأخِي اَلصغِير ، ذَلِك اَلشقِي كان سببًا فِي رحيل أُمِّي . . . تَعالَت أَصوَات بُوق السَّفينة مُنْذِرة اَلجمِيع بِانْطلاقهَا ، حَيْث اِرْتجَفتْ بَعْض اَلقُلوب خوْفًا مِن اَلرحِيل ، أو رُبمَا حرقَة على وَدَاع الأحبَّاء ، وَلوَّح المودِّعون والْمسافرون بِأيْديهم ، ذَلِك الإيماء اَلذِي اِتَّفق اَلجمِيع على أَنَّه لِلْودَاع وأملا بِاللِّقاء . . .

اِنْسحَبتْ الحبَال اَلتِي كَانَت مُمْسِكة بِالسَّفينة اَلتِي تَحمِل على متْنهَا جُموعًا مِن النَّاس بِمخْتَلف الأجْناس حَامِلة على كَاهلِها مشاعرهم ، فَرحُهم وغضبهم ، هُمومهم كالْجبال يَأمُلون أن يُلْقُوا بِهَا فِي جَوْف البحْر ، كُلهُم أملا بِالْعوْدة كطفْل صغير مُشْتاق لِحضْن أُمِّه الدَّافئ . وَعلَى صَوْت النَّوْرس وكلمَات الودَاع بَدأَت السَّفينة بِالابْتعاد عن الشَّاطئ ، وَكُل يَنظُر إِليْهَا مِن وُجهَة نَظرِه ومَا يَدُور فِي خَاطرِه ، أَحدُهم يراهَا كَسَفينَة التَّايتينْك وقلْبه يَفز مِن مَكانِه فزعًا مِن تِلْك الفكْرة ، وهناك مُدرِّس لِمادَّة التَّاريخ واقفًا بِبدْلَته البالية وَبشعْرِه الأشْعث اَلذِي خالطه الشَّيْب ، شعر كأنَّهَا سَفِينَة كُولومْبوس تَستكْشِف العالم اَلجدِيد ، وَعاشِق تَصوُّر كأنَّهَا تَغُوص فِي بَحْر شعر بِأبْيَات لِلْحبِيب ولقائه .

 الأرض الضائعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن