بدأَ أحمدُ يشرحُ لَنا سببَ دهشتِهِ، جميعُنا التفَّ حولَهُ ونحنُ نستمعُ بإنصات؛ حيثُ أمسكَ الحشرةَ بيدِهِ وقال: (هذهِ الحَشرة تُدعى "كمبيكا...... "، في الحقيقةِ كانَ اسمًا غريبًا وطويلًا وأكمل أحمد: "عاشَتْ مُنذُ 425 مليون سنَة ويعتقدُ العلماءُ أنّها أقدَم حَيوان عاشَ على اليابسةِ في التّاريخِ ".
نظرَ إلَيْنا والدَّهشة تقفزُ من عيونِنا وأردفَ قائلًا :(أعلمُ أنّ ما قلتُهُ غريبًا على مَسامِعكم ولكن هناك الأغربُ من ذلِك)،
قاطعَه عُمر:(أَغربُ من اسمِ تلكَ الحشرةِ؟)،ردّ عليه كَمال بغضَب:(دعوهُ يُكمِلُ)، ثمّ نظرَ إلى أحمد وقالَ:(أكملْ ... أكمِلْ).
ردّ أحمد وكانَ يتحدّثُ واثقًا:(هذه الحشرةُ انقرضَتْ منذُ زمنٍ بعيدٍ، ربّما مُنذ ملايين السّنين).
سألهُ الرّجل الّذي كان برفقةِ زوجتِه(وَيُدعيانِ أحمدُ وَحَنان):
(وكيفَ تعلمُ كلّ هذا؟ أقصدُ هل أنتَ واثقٌ مِمّا تقولُه؟).
ردّ أحمد: (بالطّبع؛ لقد درستُ علمَ الأحياءِ في الجامعةِ وقرأتُ كتبًا كثيرةً في هذا المَوضوع، واعلموا أنّ مِثل هذه الأَشياء يَصعُبُ تصديقُها ولكِن ...).
قلتُ لهُ بعدَ أن رأيتُه قد سكَتَ: (ولكِنْ ماذا؟)
تنهّدَ وقالَ: (في الحقيقةِ ليس الغريبُ فقَط في هذهِ الحشرةِ، المكانُ هنا كلُّه غَريب، فالموجةُ الّتي كانتْ ستُردينا قَتلى تشَكّلَتْ بِلا سببٍ علميٍّ، تلكَ المَوجات لا تتشكّلُ إلّا بعد حدوثِ زلزالٍ عنيفٍ. الأشجارُ والنّباتاتُ هُنا غريبةٌ ولا أعلمُ مُعظمَها حتّى المألوفة مِنها شكلُها مُختلف، حتّى الشّمس هنا تغربُ أَسرع من المُعتادِ؛ وهذا له تفسيرانِ : إمّا النّهار هنا قصيرٌ أو أنّ الوقتَ يمرُّ أسرع).أمسكَ كمالُ بأحمد سريعًا وأخذه جانبًا وأصبحا يتحدّثانِ بصوتٍ منخفضٍ ممّا جعلَ القلقَ والحيرةَ يرتسمانِ على مُحاي الجميعِ.
ومن ثمّ اتّجهَ أحمدُ نحوَ الحشرةِ فأكمل قائلًا بصوتٍ عالٍ: (ربّما لا أكونُ واثقًا ممّا أقوله، في الحقيقةِ أنا متعبٌ وجائع، واحتمال خطأ كلامي واردٌ بنسبةٍ عاليةٍ).
ولكنّ كلمات أحمد الأخيرة لم تطمئن قلوبَنا لأننا جميعًا نعلمُ أنه الآن بدأ يكذب وأن غرابة هذا المكانِ نشعر بها جيّدًا.
واصلْنا السّيرَ بعدَ ذلكَ وشعرتُ بالتّعبِ والجوعِ الشّديدينِ حتّى أنّني كدتُ أفقدُ الوعيَ.
طلبَتْ حنانُ منّي التّوقّفَ قليلًا كيْ نرتاحَ، فقدَماها لا تستطيعانِ حَملِها حسبَ وصفِها. بدأُ عمرُ بالتقاطِ بعضَ الثّمار الغريبةِ من إِحدى الأشجارِ كانَ لونُها برتقاليٌّ ولَها رائِحة زكيَّة، ولكنّ أحمد حذّرَ عمر من تناولِها ولكنّه أبى الإنصاتَ للنّصيحة،
قال عمر مازحًا: (لن أنتظرَ قدومَ البيتزا)، وبدأ بالتهام تلكَ الثّمار حتّى أنّها أثارت إعجابَه كثيرًا، وأخبرَنا بأنّه لم يتناولْ كطعمِها من قبل.
أرادَتْ حنانُ تجربتَها ولكنّ زوجَها أدهم منعَها خوفًا عليها.
لم يجرُؤ أحدًا على مشاركةِ عمر تذوّقها رغم أنّه أخبرَ الجميعَ بأنّه لن يستطيعَ وصفَ جمالِ مذاقها السّاحِر.سَمعْنا صوتَ ماءٍ قريبٍ، ركضْنا جميعًا صوبَ ذلكَ الصّوتِ بسُرعةٍ فائقةٍ، وصلْنا إلى نهرٍ صغيرٍ والماءُ فيه شديدُ النّقاء، حتّى أنّنا استطَعنا رؤيةَ الحجارةِ المُتراصّة في أسفلِ النّهرِ، شربنا مِنه بشكلٍ جنونيٍّ كانَ عذبًا ومنعشًا. تعالَتْ أصواتُ الضّحكاتِ الّتي كانت تُخفي في حُجراتِها القلقَ والحيرةَ ربّما ظنًّا مِنّا ولو للحظةٍ أنّنا قد نجوْنا.
عينايَ كانَتا تُراقبانِ كمالَ بِلا قوةٍ مِنّي، كانَ يجلسُ مُحرّكًا الماءَ بيدِهِ وكأنّه يفكّرُ بشيء جعلَهُ يُحدّقُ في النّهرِ بشكلٍ مخيفٍ.وفجأةً بدأتْ حنانُ بالصّراخِ على زوجِها: (كَفى أرجوك، سئمتُ من تعليماتِكَ السّخيفةِ، اغربْ عن وَجهي).
شعرَ زوجُها أدهم بالحرَجِ وأصبحَ ينظرُ إلينا بخِزي ويحاولُ أن يمسكَها ويقولُ لها: (حسنًا حسنًا اهدئي أنا آسف)، نظرَت إليهِ والدّموع تنهمرُ من عينيها وصفعَتهُ على وجهِه وقالتْ له بصوتٍ مخنوقٍ: (استيقظ ... ما الّذي يحدثُ لك؟ يا إلهي)، وهمّت بالرّكضِ مبتعدةً عنهُ، كانَ أدهم يريدُ أن يلحقَ بِها، أشرتُ له بيدي أن يتوقّفَ، وقلتُ له: (لا تقلقْ سأُرافقُها، كلّ شيء سيكونُ بخيرٍ).
ركضتُ خلفَها وكأننّي أضعتُها وسطَ تلكَ النّباتاتِ الكثيفةِ. سمعتُ صوتًا كأنّ هُناك شخصًا يمشي على الحشائشِ، تبعتهُ سريعًا وإذ بي ألمحُ لارا، نعم كانَت هي ولكنّها تحاولُ الهربَ مِنّي، باتَ المشهدُ وكأنّهُ سرابٌ و صرختُ بأعلى صوتي: (لارا ، لارا لِمَ تهربينَ منّي؟).
ركضتُ نحوها بسرعةٍ كبيرةٍ فتعثّرْتُ وسقطتُ. وفجأةً وجدتُ نفسي على سطحِ السّفينةِ مرّةً أخرى ولارا تُمسكُ بسكّينٍ وتجرحُ يدها والدّماء تنزفُ منها. نهضتُ واقتربتُ منها بخطواتٍ مُترنّحةٍ وعيناي لا تُصدّقانِ ما يحدُثُ، قلتُ لها وأنا أرتجفُ:
(آه لارا لارا لارا ... ما الّذي تفعلينَه؟ توقّفي أرجوكِ)، ضحكَت حينها ضحكةَ ساحرةٍ لعينةٍ وتحدّثتْ وهي تُشيحُ بنظرِها عنّي:
(ألَم تتمنّي موتي في كل يوم تستيقظينَ فيهِ وتنظرينَ في المرآةِ وتسأَلينَ نفسكِ بكلّ قساوةٍ لماذا هي وأَنا لا؟).
أجبتُها باستغرابٍ: (عمَّ تتحدّثين؟
هل أتمنّى موتكِ؟!)
قاطعَتني وردّت بصوتٍ مخيفٍ: (يا لكِ من حَقودة يا سالي، أنتِ تغارينَ منّي لأَنّ جميع الشّبّانِ يريدونَ مُحادثتي وأنتِ لا أحد يسعى للاقترابِ من وجهكِ البشعِ).
صرختُ في وجهِها وقلت: (توقّفي عن الحديثِ أنتِ لستِ لارا، أنتِ شيطانٌ لعينٌ ماذا فعلتَ بأختي؟).
ثمّ نظرتْ إليّ نظرةً حادّةً وركضَت نحوي.وإذ بي رجعتُ مكاني وأنا مُلقاةٌ على الأرض، نظرتْ إليّ حنان ومدّتْ يدَها لِتُساعدَني على النهّوضِ. سألتني باستغرابٍ: (مع من كنتِ تتحدثينَ؟).
نظرتُ إليها وكأنّ الكلماتَ ماتَتْ في فمي، إنّ ما حصل لي جعلني أُحدّق بها بطريقةٍ مُرعبةٍ فأوجسَتْ حنان خيفةً، وأمسكَت بيدي حتّى كأنّي استيقظتُ من أبشعِ كَوابيسي.
سألتني بقلقٍ مُريبٍ مرّةً ثانية: (هل أنتِ بخير؟).
حاولتُ استجماعَ قُوّتي وقلت: (بالطّبع).كانتْ ستقولُ شيئًا ولكنّني قاطعتُها سريعًا وقلت: (أنا من يجبُ عليّ أن أسألك هل أنت بخير؟ ما الّذي حدثَ؟).
ردّت وكأنّ الحزن بدا يلفّها: (أتقصدينَ زوجي أدهم! في الحقيقةِ لم أعتد مشاركة أحد بأسراري الشخصيّة).
وافقتُها الرأي وقلت: (معكِ حق فكَما يقولونَ "البيوتُ أسرارٌ"... ولكن ألا ترينَ أنّ المكانَ هنا مختلفٌ؟).
ردّت حنانُ بحيرةٍ: (ماذا تقصدينَ بمختلف؟)
أجبتُها: (أقصدُ هنا وسطَ هذا المكانِ المجهولِ، ربّما يجبُ علينا أنْ نتشاركَ أسرارنا، فبعض الأسرارِ ستقتلنا إنْ بقيَتْ داخل الصّندوق).ابتسَمتْ حنان وبدَت كأنّها مقتنعةٌ بكلامي وبدأت بسردِ قصّتِها ...
أنت تقرأ
الأرض الضائعة
Mistério / Suspenseرواية الأرض الضائعة رواية خيالية وغموض، عن رحلة على متن السفينة لم تكن سفينة عادية، تاهت في أرض غريبة، ربما تلك الأرض كانت من عالم آخر........