الفصل الأول :رحلة على متن السفينة(٤)

257 5 2
                                    

وَفجْأَة سَمِعنَا طُرُقا قويًّا على باب غُرْفتِنَا ، اِتجهَت مُسْرِعة لِأَرى مِن بِالْبَاب ، وَإِذ بِرَجل طويل نحيل البنْية بدأ الشَّيْب بِمهاجمة لِحْيته ، مِمَّا أَعطَاه الهيْبة والْوقار ، نظر إِليَّ وَقَال بِصَوت حادٍّ ( اِخفِضوا ذَلِك الصَّوْتِ وَإلَّا . . . . . . . ) ولم يُكْمِل حديثه بل هُم بِالانْصراف سريعًا ، حَتَّى أَنَّه لَم يَسمَح لِي بِالاعْتذار ، كُنْت هَامَّة بِإغْلَاق الموسيقَا حَتَّى سُمعَت لَارَا تَتَحدَّث بِصَوت عالٍ ( مِن ذَلِك اَلبغِيض اَلذِي يَظُن نَفسَه فِي مُسْتشْفًى ) ، أَغلَقت اَلآلَة وطلبتْ مِنهَا أن تَهدَأ وَلَكنهَا اِنْزعَجتْ أَكثَر حِينمَا أَغلَقت الجهَاز ، واحْمَرَّتْ عيْناهَا وقالتْ بِصَوت غَاضِب ( لَيْس عليْك أن تَكونِي دائمًا مُسَالمَة ، أَرجُوك يَا سَالِي لََا تَظهَرِي الضَّعْف لِلْآخرين ) ، رَددَت حِينهَا بِاسْتغْراب ( الضَّعْف ! ! أنَا لَسْت ضَعِيفَة ، أنَا لََا أُريد الدُّخول فِي مَشاكِل مع النَّاس ).

لَم تَرِد لَارَا على ذَلِك بل رَمقتْنِي بِنظْرة تَدُل على عدم الرِّضَا ، فِي الحقيقة لَم أَكُن صَادِقة مَعهَا ، لَارَا على حقٍّ رُبمَا هَذِه عَادَة تُرافقني مُنْذ صِغَري ، أنَا مُسَالمَة أَكثَر مِمَّا يَجِب ، أَذكُر حِينمَا كُنَّا صِغارًا كَسرَت لَارَا المصْباح فِي غُرفَة أَبِي وَأُمي ، واتَّهمتْني بِذَلك ، لَم أَستَطع الدِّفَاع عن نَفسِي ، لََا أَعلَم مَا اَلذِي حصل لِي ، كأن يدًا خَفيَّة ظَهرَت مِن العدم ، وَبكُل قُوَّة كَممَت فَمِي ، كان عَلِي إِخْبارهم أنَّ لَارَا هِي مِن فَعلَت ذَلِك ، كمَا كان يَنبَغِي أن أَخبَر مُديرَة المدْرسة وَأنَا فِي المرْحلة الثَّانويَّة بِمَا فعلتْه الطَّالبة لُبنَى حِينمَا *مَزقَت* ثِيابي ، وحينَمَا سَألتْنِي المديرة لَم أَنطِق بِبنْتِ شفة بل لَزمَت الصَّمْتَ .

فِي لَحظَة مَا ، خطر ذَلِك الرَّجل بِبالي ، مَلامِحه الحزينة والْحادَّة بَقيَت عَالِقة فِي ذِهْنِي ، شَعرَت أَنَّه ذَاهِب إِلى رِحْلَة بِلَا عَودَة ، شُعُور غريب كاد أن يسوقَني إِلى غُرْفته لِسؤاله عن اَلذِي أَوصَله لِتلْك الحالة ، ضَحكت فِي دَاخلِي عِنْدمَا خَطرَت على بَالِي تِلْك الفكْرة ، حِينهَا اِنْتبَهتْ إِلى لَارَا وَهِي تَرتَدِي مَلابِس جَدِيدَة ، ملابسهَا كَانَت كَاشِفة لِكثير مِن جسدهَا ، وَكُنت دَاخلِيا مُعترضَة وَبشِدة على تِلْك الملابس ، لَكِن شيْئًا مَا جَعلَنِي أَصمُت ، هل هُو السَّلَام اَلذِي يُحيطني مِن كُلِّ اِتِّجاه ؟ ؟ ! ، رُبمَا عِنَاد لَارَا وقناعتي بِعَدم اِسْتماعهَا لِمَا سَأقُوله لَهَا ، فِي الحقيقة مَوضُوع ذَلِك الشَّابِّ جَعلَنِي اِلتزَم الصَّمْتُ الكامل . .

نزلْنَا إِلى المطْعم ، كان راقيًا جِدًّا ، وَلَكنَّه كئيبًا والْإضاءة فِيه خَافِتة ، جَلسَت أنَا ولارَا على إِحْدى الطَّاولات ، وكالْعادة لَارَا تَلتَقِط لِنفْسِهَا اَلعدِيد مِن الصُّور ، وَعلَى جَانِب آخر ، كان هُنَاك شابَّان يُراقبان وينْظران إِليْنَا نَظرَة غُرُور ، أملا فِي مُوافقتنَا على دَعوَة لِشرْب شَيْء مَا ، أو حَتَّى تَناوُل طَعَام الغدَاء ، لَارَا كَانَت سَعِيدَة بِذَلك والْبسْمة تَملَأ شَفَتيهَا ، هِي تُحِب أن يَنظُر إِليْهَا الشَّبَاب بِإعْجَاب ، وَإِن أَظهَرت الغضب مِن ذَلِك أحْيانًا .
أثار اِنْتباهي ذَلِك الرَّجل يَجلِس وحيدًا ، وينْفخ دُخَّانًا مِن سِيجارة ، ويحْتَفظ بِتلْك الملامح اَلتِي قابلَتْه فِيهَا أَوَّل مَرَّة ، وَكَان صوْتًا همس فِي أُذُني ( ولمَّ الاهْتمام أَيتُها اَلغبِية ! ! ! ) ، نَظرَت إِلى لَارَا ظننْتُ أَنهَا هِي مِن قَالَت هذَا ، وَجَدتهَا تَبتَسِم لِي ، وَكأَن عيْناهَا تُلمِّح لِشَيء مَا ، أَحمَر وَجهِي مِن نظراتهَا وبدأتْ يَدَاي ترْتعشان ، لََا أَعلَم مَا اَلذِي يَحصُل لِي ، حاولتْ النُّهوض قليلا كيْ أَعدَل اَلكرْسِي ، حَتَّى أَتَمالَك نَفسِي قليلا ، وَلكِن قَدَماي كَانَت ثقيلتان ، وَكَأنهَا غَرسَت فِي أَرْض المطْعم ، سَأَلتهَا بِاسْتغْراب ( مَاذَا ؟ ؟ ! ! لَم تَنظرِين إِلى هَكذَا ؟ ؟ ) ضَحكَت قليلا وقالتْ بِبرود ( ذَلِك الاهْتمام ) ، خفق قَلبِي سريعًا مِن كلماتهَا ، وكدْتُ أَذُوب خجلا مِن تِلْك الصَّغيرة ، .

حاولتْ أنَّ أُزيح بَصرِي عن ذَلِك الرَّجل ، كأنِّي سَمعَت النَّادل يُنادِيه سَيِّد كَمَال ، أنَا لََا أُريد أن أَظهَر لَهَا أَننِي غَيْر مُتزنَة ، وأريد الحفَاظ على هَيبَتِي أَمَامهَا ، نَظرَت لَهَا وكانتْ تَنتَظِر الإجابة ، قُلْت لَهَا بِصَوت خَافِت ( لَارَا لََا تَكونِي سَخِيفَة ! ! أيْ اِهتِمام ) قاطعتْني سريعًا وقالتْ ( لََا عليْك ، لِنطْلب غَدائِنا ) ، سكتَ مُوَافقَة لِأنْهي ذَلِك اَلحدِيث ، وَأنَا خَجلَة مِن نَفسِي ، جَالِسة أَمَامهَا كَأننِي طِفْلَة صَغِيرَة كَسرَت لَعبتْهَا لِلتَّوِّ ، ولَا تُريد أن تَحرَّك ساكنًا حَتَّى لََا تُعَاقِب ، وَلكِن مع ذَلِك لَم يَمنعْنِي ذَلِك الشُّعور أن أَستَرق النَّظر كُلَّ حِين وحين مِن ذَلِك الرَّجل ، لَم أَدْر لِم أَغُوص فِي بَحْر حُزْنِه حَتَّى أَعلَم أسْراره ؟ ؟ ! . وَفجْأَة رأيْتُ أُخْتِي تُغَادِر والنَّادل يَقِف بِجانِبيْ وَكَأنَّه سَألَنِي مِئة مَرَّة عن طَلبِي ، ناديْتُ بِصَوت عالٍ ( اِنْتظِري أَيتُها اَلغبِية . . . . ) واتَّجَهتْ مُسْرِعة إِليْهَا ، فِي الحقيقة ناديْتُها بِصَوت عالٍ حَتَّى يُعيرَني اِنْتباهه ، وأثْنَاء مُغادرتي ضرْبته بِحقيبتي كَأننِي غَيْر مُتَعمدَة ، وَلَكنَّه لَم يُحرِّك ساكنًا ، وَكَأنَّه صنمًا لََا يَشعُر بِشَيء مِن حَولِه ، ( يَا إِلَهي ، مَا هذَا الرَّجل ؟ ؟ مَا اَلذِي سيجْعَله يَنتَبِه لَي ؟ ؟ ، هل أَقُوم بِإغْرَاق السَّفينة حَتَّى يَفعَل ذَلِك ! ! أَخشَى إِنَّ فَعلَت ذَلِك سيبْقى تَحْت تَأثِير صَدمَتِه الشَّديدة ، اَلتِي بنتْ بَينَه وَبيَّن اَلذِي حَولَه حاجزًا ) . .

 الأرض الضائعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن