الفصل الثاني :الضّياعُ في المَجهول(١)

249 6 7
                                    

ضوء الشمس القوي جعلني أستيقظ، وضعت يديّ أعلى عينيّ حتى أرى جيدًا، ومن ثم نهضتُ سريعًا وذهلت ممّا أرى، كنت على شاطئ ومن خلفي كأنّها غابة عظيمة، وبرودة غريبة جعلتني أرتجف؛ فالجوّ كان باردًا بعض الشيء بالرّغم من سطوع الشّمس، وجموعًا من النّاس حولي يتمتمون والغرابة تسيطر على وجوههم، أصبحت أبحث سريعًا في قسمات وجوههم عن ملامح لارا ولكنّها لم تكن هنا، ربما لم تنجُ، بدأت بالبكاء حينها، نظرت إلى رجل يطمئن زوجته بالرّغم من أنّه خائف، كان يبدو عليه ذلك ولكنّه يحاول إخفاء خوفه من أجلها، كم تمنيت أن تكون لارا بجانبي، كم أحتاج لشخص يساندني في هذه اللّحظات.
تقدّم حينها رجل نحوي وجلس بجانبي وسألني: هل أنتِ بخير؟
لم أميّزه في البداية ولكن حينما علمت أنّه هو، كأنما شيء رقص في داخلي.
حرّكت رأسي مثبتة سؤاله، مدّ يده ليصافحني وعرّف عن نفسه: أُدعى كمال، أعلمُ أنّ لقاءنا في السّفينة لم يكن جيّدًا، ولكن ...... .
قاطعته بابتسامةٍ وقلت له: لا عليك، أنا سالي.

رجلٌ من وسط الجموع نهض وصرخ
قائلًا: حسنًا، استمعوا إليّ ..... .
والجميع ينظرُ إليه بدهشةٍ وترقّب، بدأ الجميع بالاقتراب منه، ساعدني كمال بالنّهوض، واقتربنا من ذلك الرّجل، كان قويّ البنية وملامحه حادّة وغير مريحة يُدعى جابر، وبدأ يقول: أعلم أنّنا ضائعون، ولكنّنا نجونا بأُعجوبة، علينا أن نلملم شتات أنفسنا، وأن نتكاتف مع بعضنا للخروج من هنا، يجب أن نكونَ يدًا واحدة.
قاطعهُ شابٌّ كان يديرُ ظهره لنا قائلًا:
حتّى هنا خطابات الزّعامة، يا لك من أحمق.

ركض جابر نحو الشّاب وكان يُدعى عمر وبدأ بدفعهِ وهو يصرخ في وجهِه : ماذا قلت؟
هل تظنّ نفسك قويًّا؟
واستمرّ بدفعه ولكن عمر لم يحرّك ساكنًا، ثم بدأ الجميع بتفرقتهم.

تلك الحسناء (نور) بدأت تصرخ: كفّوا عن ذلك، الآن ليس الوقت المناسب لإثبات رجولتكم.
نظر إليها جابر بنظرةٍ حادّة وقال بتهكّم: لولا أنّك فتاة لرأيت مني شيئا لن يعجبكِ.

حينها نظرَ إليهِ كمالٌ بتحدٍّ وردّ عليهِ (وماذا ستفعلُ لها؟؟؟)، أمسكتُ بكمالٍ وقلتُ له بصوت خافت:( دعكَ منه، هيا فلنمضِ من هنا)، ردّ جابر بنبرةِ المُنتصرِ: (أرى أنْ تسمعَ كلامَ زوجتك، قبل أنْ تفقدَ ماءَ وجهِكَ أمامَها).
احمرّ وجهُ كمال كثيرًا وبدأ يحاولُ إبعاد يديّ عنه ولكنّني تشبّثتُ به بكلّ قوّتي، لا أعلمُ كيف تجرّأتُ وأمسكتُ برجلٍ عرفته للتّوّ ولكنّ خوفي عليه جعلني لا أهتمّ لكلّ ذلك.

جابر مَضى في طريقِه وقالَ وهو يغادرُ: (سأستكشفُ المكانَ ... من يريدُ أن يتبعَني فليلحقْ بي طبعًا إن كان يريدُ النّجاة)، خطواتُه الثّابتة وطريقة مِشيته تُوحي بأنّ جابرَ شُجاعٌ ولا يَهابُ أي شيء، صحيح أنّه من الممكن أنْ يكونَ ماضيهِ سيّءٌ ولكنّ وجودَه سيكونُ مفيدًا لا محالة، صرخَ عُمر بأعلى صوتِه: (يا إلهي انظروا إلى هذا) وأشارَ بيدهِ نحوَ البحرِ وإذ بموجةٍ عملاقةٍ تشكّلت من العدم قادمة نَحونا بسرعةٍ كبيرةٍ جعلَت الجميعَ يركضُ نحوَ الغابةِ سريعًا.
هناك رجل الْتَوَتْ رجلُه وسقطَ على الأرض، حاولَ عمر وكمال إسناده ولكنّ الرّجلَ كان ثقيلًا وخائفًا والموج يقتربُ بسرعةٍ عاليةٍ،
الجميعُ غادر باستثنائنا، أصبحتُ أُنادي عليهم بأعلى صوت والهلعُ يسيطرُ على قلبي، طلبَ منهم الرّجل المغادرة حينما علمَ أنّه لن ينجو، تركَ عمر وكمال الرّجلَ وأسرعْنا باتّجاه الغابةِ والموج أصبحَ على بُعد بِضع المئاتِ من الأمتارِ منّا، كانت فكرةُ عمر أن نتسلّقَ إحدى الأشجار.
الأشجارُ هنا كانت مختلفة عن الّتي رأيتها في حياتي، لم أر أشجارًا بذلك الطّول الهائل، تسلّقنا الأشجار ولا أعلمَ كيف فعلتُها، كانت هذه المرّة الأولى، رأيْنا الموجَ وهو يُغرق الأرضَ الّتي تحتَنا وسريعًا اختفى الموجُ وابتلعَت الأرضُ الماءَ كأنّها لم تكن موجودة.

الجميعُ بخيرٍ باستثناءِ ذلكَ المسكين الّذي لم يعلمْ أحدٌ اسمَه، اجتمعْنا ثانية نحن النّاجون وأصبحنا نستكشفُ هذا المكان المُخيف.
كلّ شيء هنا غريب ومُوحش، أشجار فائقة الطّول تُغطي بأغصانها ضوءَ الشّمس، نباتاتٌ لم أرَ مثلَها في حياتي، حشراتٌ ضخمةٌ ومقززةٌ إلى حدٍّ كبير.
انتبه أحد الأشخاص ويُدعى أحمد إلى إحدى الحشراتِ وقال بدهشةٍ: (هل هذا معقول!!! )، ردّ عليه جابرٌ وقالَ بطريقتِه الّتي تفتقدُ إلى اللّباقة: (إنّها حشرة، ما الشّيء الغَريب فيها؟ لا تقلْ لي أنّك شاهدَتها وهي تتحدّث).
ردّ عليه أحمد بغضَب: (أنا لم أُكلِّمك، لا تتدخّل فيما أقوله)، ردّ جابر بعد أن حكّ أنفَه: (يبدو أنّ الجميع لا يعجبُه كلامي، ماذا هل اتّفقتم عليّ، أنتم لا تعلمونَ مع من تعبَثون).
ردّ كمال حينها: (طريقتكَ في الكلامِ سيّئةٌ وأُسلوبك فضٌّ ولا ينمُّ على الاحترام)،
اقتربَ جابرٌ من كمال كثيرًا وألصقَ أنفه بأنف كمال، وقال بنبرةِ تهديدٍ: (طريقتي وأسلوبي لم تَرهما بعد).
حينها وكأنّ الدّم فار من رأسي، دفعتُه وقلت له بغضبٍ حتّى أنّ يديّ بدأتا ترتجفانِ: (اسمع يا هذا؛ يبدو أنّك غير مُقدر للظُروف القاسيةِ الّتي تحيطُ بنا ولِما نحن عليهِ الآن، فإمّا أن تتعاونَ معنا وتُعامل الجميع باحترام أو تمضي من هنا وحدكَ.
ابتسمَ في وجهي ابتسامةً جعلَتني أتمنّى موتهِ، وقالَ: (لا يجب عليّ أن أبقى مع حَمقى مثلكم وهمّ بالمغادرةِ ونظر إلى نور مكملًا استهزاءَهُ بِنا وقال لها: (وداعًا أيّتها الحسناء أم هل تريدينَ مرافَقتي؟ وحاولَ إمساكَ يدها ولكنّها أفلتَت يدها مِنه وقالتْ: (مقرف). رحلَ جابرٌ عنّا بالرّغم من أنّني تمنيّت أن يبقى..

 الأرض الضائعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن