23«حين تتهاوى الأقنعة»

3.3K 525 156
                                    

ظننتُ بأنَّ أبي سيكون سيفي ودرعي، ظله الذي يلجأ إليه قلبي عند انكسار السماء فوق رأسي، كنتُ أراه كحصن منيع لا يُخترق، كجبال شامخة لا تنحني أمام الرياح، لكنّي لم أكن أعلم أن تلك الجبال نفسها ستُسقطني في وادٍ موحش، وأن الحصن الذي احتميت به سيترك بابه مفتوحًا أمام ريح باردة، تقتلعني من جذوري وتبعثرني في عتمةٍ لا تعرف نهاية.

أشعر بظلامٍ كثيف يزحف إلى داخلي، كخنجر حاد، يُمزقني، حتى غدوتُ أتشبث بالأطياف البعيدة، أُعاتبها بصمتٍ، أصرخ داخلي كي أجدني، فأجده يختفي خلف ضباب الذكريات.
خذلني أبي، وتركني لأقف وحدي في عالمٍ غير عالمي، أبحث عن نورٍ وسط العتمة، عن يدٍ تُربّت على كتفي فتخبرني بأنني بخير.

لكني اليوم، أقف وحدي، أدرك أن الأحلام التي عشتها كانت مجرد وهمٍ، وأن الأمان الذي رجوته لم يكن سوى سراب.

من ذاكرته المليئة بالخبث والشرور، كان يتذكر تلك اللحظات التي جمعته بينه وبين ابنته المسكينة التي قُتلت غدرًا..

_أنا عارفة إنك بتتعب معايا كتير يابابا، بس أوعدك أول ما أبقى كويسة واتعالج وأقف على رجلي، هخليك ترتاح وأنا أهتم بيك

نبست بها المسكينة «فرحة» التي تربت على كتف والدها لتخفف عنه الحمل، لا تعلم أنه يكيد لها المكائد وينصب لها الفخوخ، مسكينة، ماتت غدرًا..

_بابا حضرتك اتأخرت برا كدا ليه، وحشتني أوي!
نطقت بها واقتربت بجسدها الهزيل نحوه تقبل يده بحنانٍ بالغ ثم ضمته لها بحبٍ كبير.

رأته أمانًا، فكان الخوفَ والأسى،
رأته سراجًا، فأطفأ نورَ السما،
ظنَّته ملاذًا، وهو موجٌ يعصفُ،
حسبته سندًا، فانحنى واستباحَ الخفا،
رأته ملاكًا، فإذا به وحشٌ جريح،
حسبته ضياءً، وهو ليلٌ كالعمى،
كان الأملَ في عينها، فصار دمعًا يسيل،
كان حياةً، فصارَ الموتَ والردى.

تحدث "حسني" بنبرة كأنها نافذة مظلمة تطل على أعماق الشر المتجذر في نفسه، ممسحًا آثار الذكريات عن ذاكرته وكأنه ينفض الغبار عن صفحة لا يريد لها أن تُرى، ارتسمت على وجهه ابتسامة باردة، لا تعكس سوى الاستهتار بالحياة التي أخذت، وكأنها كانت مجرد سلعة عابرة، لا أكثر ولا أقل:

_تضعفني إيه، هي كدا كدا كانت ميتة وإحنا كنا محتاجين بت عشان نبعتلهم البضاعة، راحت للأي خلقها مع أمها، المهم نقدر نطلعك عشان أنا همشي الأطفال دول بكرا، الموضوع بدأ يوسع ومبقناش عارفين نلمه إزاي.

أما الآخر، فقد زين وجهه بابتسامة تشبه شفرة خنجر، تومض بلمعانٍ من خبثٍ لا يعرف رحمة، استعاد لحظات مضت، منذ اليوم الذي نسج فيه خيوط خطته الملتوية بإحكامٍ حول «علي» و«سليمان» مغريًا إياهما بأحلام الاستثمار الكبير، لكنه دسّ لهما في ذلك الوعد طُعمًا خبيثًا يسحب أموالهما نحو شبكته التي كانت تحت الإنشاء، متقنًا لعبة الظلال حتى أصبح كل شيء جزءًا من مسرح جريمتهما.

ابني ابنكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن