كنا كخيطين من ضوءِ قمرٍ،
يلتقيان في غياهبِ ليلٍ ممتدٍّ كعمرِنا،
فلا يضيعهما الظلامُ، ولا تُطفِئ الرياحُ نورَنا.تمدّ يدك كالجسرِ حين أتعثر،
وتقول لي: "هنا بيتكِ، لن تنهاري؛
فأنا منكِ، وأنتِ مني، وكلانا للآخر جبالٌ وجدارُ."كانت أمواج البحر تنحسر وتعود وكأنها تنفس الأرض ذاته، في حين راحت الشمس تميل نحو الأفق ترسم بظلالها خطوطًا ذهبية على صفحة الماء.
جلس «مُهاب» و«غنى» على الصخور المتناثرة، وأمامهما علبة صغيرة مغلقة بإحكام تحوي الزلابية التي ابتاعها «مُهاب» في طريقهما.
غاصت «غنى» في صمتها وعيناها معلقتان بالمدى البعيد، وكأنها تبحث في الأفق عن إجابة لأسئلة لم تستطع صياغتها، كان وجهها شاحبًا، وعينيها مغرورقتين بحزن ثقيل، لكن ملامحها لم تخلو من ذلك الوميض الخافت الذي يشير إلى أمل لم ينطفئ بعد.
اقترب «مُهاب» قليلًا يمد يده ويحاوطها من دون أن يفرض وجوده، وقال بصوت هادئ لكنه مشحون بالثبات:
_الدكتور قال إنك محتاجة تبدأي تتكلمي... حتى لو الكلام صعب، أتكلمي معايا أو مع عم «متولي» أو حتى مع اللي تحسيه هيريحك المهم ما تكتميش جواكِ، اتفقنا؟"
رفعت إليه بصرها وعيناها مترددة، لكنها استطاعت أن تتنهد أخيرًا، وكأن الكلمات التي كانت حبيسة في صدرها بدأت تبحث عن مخرج، وهمست:
_بس الكلام مش هيغيّر حاجة، كل اللي حصل، واللي عملوه فيا.. الكلام مش هيرجعني أنا.رفع «مهاب» حاجبيه قليلًا ثم مد يده ليأخذ قطعة زلابية من العلبة ويناولها لها برفق، وابتسم ابتسامة صغيرة ومازال ينظر إليها بعينين يشع منهما الإصرار:
_الكلام لوحده مش كفاية، بس هو أول خطوة، زي البحر ده؛ كل موجة بتبتدي صغيرة وبعدها تبقى أقوى لحد ما توصل للشط، أنتِ كمان لازم تبدأي حتى لو البداية ضعيفة المهم نبدأ.
راحت أصابعها المرتجفة تمسك الحلوى من بين يده بالعود المغروس بها كما الأحزان مغروسة بقلبها، لم تأكلها بل ظلت تتأملها وكأنها قطعة صغيرة من عالم آخر، ثم قالت بصوت مبحوح:
_وأنا لو فشلت؟ لو الكلام وجعني أكتر؟هز «مُهاب» رأسه بسرعة وكأنه يطرد هذه الفكرة من عقلها، مال نحوها وصوته صار أقرب إلى الهمس لكنه مليء بالقوة:
_بصيلي، «غنى» أنا هنا... ومش هسيبك، حتى لو الدنيا كلها بقت موج، أنا هبقى صخرتك اللي تعتمدي عليها، هتتعبي؟ آه
هتخافي؟ يمكن
بس هتقعي لوحدك؟ مستحيل، لأن أنا هفضل جنبك وسندك، واوعدك كل اللي فات ده مش هيتكرر تاني في حياتنا.كانت كلماته كنسمة دافئة اخترقت برودة خوفها، شعرت بشيء يتحرك داخلها، كأن جدارًا صغيرًا قد انكسر ليتيح للنور الدخول، ابتسمت ابتسامة باهتة لكنها حقيقية، ووضعت قطعة الحلوى في فمها.
أنت تقرأ
ابني ابنك
Romanceبعدما مضينا في سُبل لا ننتمي لها، التقينا كما التقاء الشرق والغرب سويًا، لنصنع مجدًا يخصنا، حيث لا فرق بين ابني وابنك، نحن جميعًا أبناء أب واحد، وأم واحدة. تُهدينا الحياة صدف عجيبة، منها الطيب والخبيث، وتعاملنا كضيوفٍ ثقال فتُعطينا من كل ما لذ وطاب...