كان الإسلام فى عهد التطبيق النبوى ديناً سهلا مرنا متفاعلا بسيطا، فقد كان الرسول الكريم بالغ الرفق وبالغ الفهم بأحوال ومجريات المجتمع من حوله وكانت آيات التنـزيل واضحة كاشفة وجامعة مانعة، وكان تصاعد المجتمع -مجتمع الصحابة- فى الاستجابة للسماء تصاعدا منطقيا لإذابة رواسب العصبية وخرافات الجاهلية، ومن التفاعل والتمازج بين مجتمع النبوة وبين التنـزيل تأسست الأطر العامة والقواعد الكبرى التى لم يكن هدفها ضبط مجتمع النبوة بعينه بل كان المغزى هو التعبيد والتمهيد بالغ الوضوح لمنهاج وسبيل يسير عليه أى مجتمع بأى ثقافة طالما استظل بالروح الإسلامية؛ لذا فإن الآيات لا تمثل فقط أحكاماً لنازلة أو قضية زمانية مكانية، ولكنها فى البعد الثانى تشيِّد وتؤطِّر القواعد الكبرى لهذا الدين والروح والسمت والصفة المميزة له، فلما توفى رسول الله وبدأ عصر الخلافة الراشدة ترك رسول الله إرثه الطبيعى-الشريعة- للمسلمين كافة، وليس لفئة أو قبيلة أو قوم وكان إرثه كاملا خالصا صافيا نقيا.
ورغم الخلافات السياسية بين الصحابة فى الحقبة الراشدة، إلا إنها لم تؤد إلى تغيـيرعميق أو كبير على المستوى الشريعى حيث كانت الأجواء متشابهة والمجتمعات قريبة العهد بالحقبة النبوية، وقد كان الاحتكام لرأى الصحابة كمرجعية دينية هو احتكام نابع من سبق معرفتهم وحسن تقديرهم للتغير الطفيف الذى مس مجتمعاتهم، وحتى هذا الحين لم تكن مصطلحات الفقه أو الفقيه بمعناها الذى وصل إلينا قد ظهرت بعد، فالحفرية التاريخية للكلمة آنذاك كانت لا تتعدى معنى العلم والفهم عامة، كما استُقِر على ذلك المعنى فى سياق آيات القرآن،{مَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} النساء78، {كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الأنعام65، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} هود91، وحين ولَّت الخلافة الراشدة وبدأ الملك الأموى، بدأ متزامناً معه عصر التخصص وظهور العلوم الإسلامية بدءً بالفقه ثم التفسير والحديث حتى آخر السلسال، إلا إننا نستطيع أن نقسم التراث فى مجمله إلى شقين رئيسين، أولاً التراث الروائى وهى العلوم التى اهتمت بالرواية كالحديث والتفسير والسيرة والمغازى، وثانياً التراث الفقهى وتأسيس قواعد العلوم المستحدثة كالقواعد الفقهية، ومقاصد الشريعة وأصول الفقه وعلوم القرآن، وكما بيَّنا وناقشنا طرفاً عن الشق الأول من التراث الروائى فى المقالات السابقة وأكدنا أن تقديس هذه الكتب ووصف بعضها بالصحة الكاملة يتنافى مع أصول التعقل وطبيعة البشر، نناقش فى هذا المقال ما جناه الشق الثانى من التراث الفقهى على المسلمين.
أنت تقرأ
الإسلام الآخر _ إسلام حر
Historical Fictionإسلام حر _ يعني إسلام بعيد عن أي شئ علق به إلا نص الدين _ إسلام بحيري