ناحتْ مطوقة ٌ فحنَّ حزينُ وشجاهُ ترجيعٌ لها وحنينُ جرتِ الدُّموعُ منَ العيونِ تفجُّعاً لحنينها فكأنهنَّ عيونُ طارحتهما ثكلاً بفقدِ وحيدها والثُّكلُ منْ فقدِ الوحيدِ يكونُ بي لاعجٌ منْ حبِّ رملة َ عالجٌ حيثُ الخيامُ بها وحيثُ العينُ من كلِّ فاتكة ِ اللِّحاظِ مريضة ٍ أجفانُها لِظُبا اللِّحاظِ جفونُ ما زلتُ أجرعُ دمعتي من غلَّتي أُخفي الهوى عن عاذلي وأصونُ حتّى إذا صاح الغُرابُ بِبَيْنهم فضحَ الفراقُ صبابة المحزون وصلوا السُّرى، قطعوا البُرى فلعسيهم تحتَ الْمَحامل رَنَّة ٌ وأنينُ عاينتُ أسبابَ المنيَّة ِ عندما أرخَوا أزمَّتَها وشُدَّ وضِينُ إنَّ الفراقَ معَ الغرامِ لقاتلي صعبُ الغرامِ مع اللِّقاءِ يَهونُ مالي عَذُولٌ في هواها إنَّها معشوقة ٌ حسناءُ حيث تكونُ مونولوج العزلة طالب همّاش أطفأتُ مصباحي لأغفو أيها الليلُ العتيقْ! أطفات مصباحي.. أنا حزناً إلى حزنٍ أضمُّ مصاحفي وأغطُّ في نومٍ عميقْ. نمْ هانئاً يا أيها الليل العتيقْ! فأنا أقمتُ صلاةَ وقتي وسكنتُ نوماً لا يفيقْ. أجاهدُ في النفسِ حزناً قديماً وأغلقُ بابيْ.. أنا كيفَ أعلنُ عن عزلتي وعلى الباب يبكي غيابيْ؟ سكنتُ مع الليلِ إذ سكنَ الليلُ أبكي عليّْ! يدايَ على الصدرِ تلمسُ رجعاً حزيناً، ورأسي ينامُ يتيماً على ركبتيّْ! متدلّياً كشجيرةِ صفراءَ فوق النهرِ قبري تحت أغصاني وأكفاني بقربي. يا أيها الراعي دعِ الأغنامَ ترعى عشبَ أيامي وحبّي! وانهضْ بحزنكَ يا رفيقَ الناي واعزفْ لحنك البالي على أطلالِ قلبي! تعالَ لنصغي إلى الناي يا سامعي! تعالَ لنصغي إلى صوتِ أيامنا الضائعِ! قمري فرخُ حمامٍ ساهرٌ والليلُ سطحٌ للهديلْ. أيها الحبُّ أنا الساهرُ أبكي لحبيبي.. وعلى السرو يناجيني الكناريُّ الجميلْ! والشبابيكُ كتابُ العشقِ قد أغلقتها لطفاً بحزني أيها النايُ فقلبي ثقّبتهُ زهرةُ الدمّ وروحي جرّحتها الريح والعشقُ مناديلُ رحيلْ! يا حماماتُ ترفقّنَ بحبي لا تطيري بالهديلْ! وراءَ سياجِ الحديقة تجلسُ عاشقةٌ من دموعٍ لتنصتَ للريحِ تحتَ غصون الخريفْ! تحنُّ إلى الحبّ لكنهُ غائبٌ وتحنُّ إلى الحزنِ لكنه ساكنٌ في أعالي الحفيفْ! وتنسى يديها على راحتيّ إذا أسرفَ الحورُ بالهَدْيِ تاركةً نحلةَ الحبِّ في شفتيَّ تمصُّ رحيقَ النزيفْ! وراءَ سياجِ الحديقةِ طيّبتُ أحزانها بالغناءِ وأهديتها ورقاً (أصفراً) وجمعتُ بمنديلها الحلو كلَّ بكاءِ الخريفْ! يا ليلُ ما أكملتُ أغنيتي ولا شاختْ على عمري المواويلُ! قلبٌ كفيفُ الحزنِ يبكيني إذا رحلوا وفي روحي إذا غابوا تجرّحني التراتيلُ. حطَّ الحمامُ على نخيل الروحِ نواحاً على ثكلٍ فلا انصرفَ الخريفُ بحزنهِ عني، ولا انقطعَ الهديلُ المرُّ عن حزني.. ولا مرّتْ على ليلى الأناجيلُ عذراءُ من حزنٍ شفيفْ. جلستْ كسنبلةٍ تراقبُ من نوافذها الخريفْ. عينانِ تنكمشانِ كالعصفورِ في غضنٍ حزينٍ و(أصابع) بيضاءُ تغزلُ في الغروبِ حكايةً من ياسمينْ! عذراءُ يغفو قربها نهرٌ، ويذبلُ في حقيبتها الخريفْ! على شاطئ البحر عند الغروبِ. تنامُ الحكاياتُ متعبةً ويصيرُ على الموج أن يتأمّلَ مرآته ويذوبْ. يصيرُ على الغيم أن يترحّلَ مثل التماثيلِ بيضاءَ نحو كنيسةِ حقلِ النصوبْ. يصيرُ على الشمسِ أن تستضيء بماساتها الحمرِ والأرجوانِ العتيقِ لتفتحَ محرابها للغروبْ! على مفرقِ الليل تبكي الربابةُ من وحشةِ الناس يائسةً وتدقُ على حائطِ الموتِ: يا أبتي الموتُ لم يبق إلا القليلُ القليلْ! وتعولُ ريحٌ على شجرِ الحورِ مرّ العويلْ. يقعدُ النايُ في الليل مستوحشاً وكئيبْ! يقعدُ الناي في معبدِ الليلِ فرداً سلبياً يجمّعُ كلَّ أغانيهِ من حولهِ كاليتامى ويبكونَ حولَ ضريح الغريبْ! حينَ ماتَ المغنّي بكينا كلانا أنا والربابةُ أختي بكيتُ عليها، تباكتْ عليَّ بكينا على الناي منفرداً في الأغاني! بكينا على جدّنا الشيخ ماتَ وخلّفنا نائحينَ.. نغني ككهّانِ ليلٍ عتيقٍ فأختي اعتراها الخريفُ وأيلولُ بالاصفرار اعتراني. على وجهها يا غريبْ: شموعٌ من الآسِ يذرفُ دمعاتها الليلُ فوق كتابِ المغيبْ! ولو كانَ عمري طويلاً لعمّرتُ من هدهداتِ ضفائرها السودِ كوخاً على شجر الكينياءْ! ولو كانَ قلبي حزيناً لمشّطتُ شَعْرَ البكاءْ! وقلتُ تعالي إلى وحشتي يا صغيرةُ إن كلامَ الرياحِ على الحورِ مُبْكٍ!، وأسدلتُ فوق مسائي قميصَ الغريبْ! ولو أن روحي تعزفُ بالناي كوّرتُ من عشبِ روحي عشّاً ليسكنهُ العندليبْ. وما كانَ حزنكَ؟ هذا مساءٌ محرّمْ. تدلّتْ عناقيدُ ما كنتُ تهوى وجاءتْ جرارٌ من الخمرِ عتَّقها أنها من تواقٍ مندّمْ. وما كانَ.. لو أخذَ النومُ هذا الكرى بمعاقدِ أجفانها سنةً أن تفيقَ فقبركَ كلُّ الفضاءِ وكونٌ من الفضّةِ واللازورد المذّهبِ يرتادهُ الفقراءُ وأعلاه بدرٌ جميلٌ كمريمْ. ولو أنتَ تدري رأيتكَ تحملُ قبريَ، فاحتارَ من أمركَ اليوم أمري.. وفاضَ على شفقِ الروحِ شيءٌ من السكرِ حتى الندمْ. وما كانَ حزنكَ أنني من فرقتي أتألّمْ! بكى صاحبي حين أمسك بالناي بعد فراقٍ طويلْ! تذكّرُ مرَّ المواويل، والعشقَ في أولِ العمرِ، والفتيات اللواتي كذبنَ على قلبهِ القرويّ وطيّرنَ قبل أوان الهديلْ! بكى صاحبي! قال: كنت أغازل أنثاي بالناي عند الغروب فعلّمتها وحشتي وتعلّمتُ منها البكاءَ على من أحبُّ، وحزنَ أغاني الرحيلْ! وها قاربَ العمرُ أن ينتهي والعيونُ الكليمةُ تعمى وما زالَ ينحبُ في الروحِ نايُ الرحيلْ! قمرٌ أبيضُ في شرفاتِ الليلِ ونجمٌ يهبطُ أدراجَ الملكوتْ. ما لي من كلِّ الناسِ وروحي تقطفُ من شجرِ العزلةِ أزهارَ الياقوتْ؟ سألتُ الحزينةَ عن اسمها وسألتُ اسمها عن كلامٍ حزينْ! سألتُ أصابعها عن خواتمَ ضائعةٍ، وأساورَ من ذهبٍ وعقيقٍ، فأجهشَ بين أناملها الخمس صوتُ الرنينْ! قمرٌ يغرقُ الليل في الروحِ ثم يلاشيهِ عذبُ الغناءِ، حنينُ الصبايا لأولِ زغرودةٍ طيّر النايُ أنغامها في سماءِ الحماماتِ أنتِ الصلاةُ إلى الأمّ وهي تمسّدُ بالطَّيبِ حزنِ المسيحِ وتشعلُ قنديلها لهلالِ محرّمْ! أنتِ أيقونةُ الثكل وهي تقطّرُ من فضّةِ الليلِ دمعاتِ مريمْ! وحساسينُ صبحٍ مغمّسةٌ بالدموعِ، عصافيرُ داشرةٌ، بلبلٌ في غصون الصدى يتألّمْ! أنت ما يجعلُ الروحَ تبكي على عمرها، والمحبُّ إذا ما قضى نحبهُ.. يتندّمْ. الأفقُ أقمارٌ مفتّحةٌ وحبرُ الليلِ منسكبٌ على حقلِ القرنفلِ والغروبُ يعبُّ من تبغِ الجبالِ بنشوةٍ ويهزُّ فوقَ طفولةِ الريحانِ أجراسَ النعاسْ. نامتْ صبيّةُ حبيَ البيضاءُ فاتكأتْ لتحرسَ نومها من وحشةِ الحلمِ الغراسْ. يا طائرَ الإنشادِ لا ترسلْ غناءَ مسائكَ الشفافَ فوقَ النبعِ إن حبيبتي تغفو ونومُ حبيبتي في المهدِ درّاقٌ وآسْ! نأينا عن الحبّ يوماً فغابَ القطا، والحمامُ انتأى والغمامُ على الساحلِ. أأبقى حزيناً أطلّ كطائرِ صيفٍ على جدولي؟ وتبقى السماءُ البعيدة أحلى على السفحِ تبقى الأباريقُ سهرانةً في سطوح النبيذِ وتبقى تحوك يداكِ رسومَ الوداعِ على المخملِ. ... أطرّزُ يوماً على ثوب عرسكِ ما ضيّع الحبُّ من كلماتٍ وألقي قميصي على الشوكِ لا تحسبيني حزيناً من الحبّ إني أحوكُ سوادَ الليالي على مغزلي! يا هديلُ التي مرَّ عمري على عمرها كالحمامِ وطرنا صغيرينِ في أولِ الحبِّ حتى بلغنا الغيومَ وصرنا بطاركةً عاشقينْ! يا هديلُ التي ما ركضنا مع الريحِ إلا لنسبقَ أيامنا، ونخلّفها نادمينْ! يا هديلُ كبرنا!.. وها نحن كهلين في آخرِ العمرِ نجلسُ قدّام بوابة البيتِ منتظرينَ على مللٍ ما تأخّرَ من كلِّ تلك السنينْ. طولَ الليلِ تئنُ الريحُ المهجورةُ في البيتِ وتبكي في أرجاءِ العزلةِ أجراسُ الموتِ، ويحتضرُ النايْ! وطوالَ الليل أدقُ على جدرانِ الصمت لينهضَ من آبارِ الوحشةِ جثمانُ أسايْ! .. طول الليل ينوحُ غريبٌ مكتهل الروحِ ويجمعُ مبكاهُ إلى مبكايْ! يا لابساً ورقَ الخريفِ، وجبّة َ الوقتِ الجريحْ! ستهبُّ ريحْ ستهبّ ريحْ. يا أيها الليلُ المهاجر منذ آلاف السنينْ! قد نامتِ الأبوابْ. فاقطعْ بفأسكَ وحشتي من جذعها المرّ الحزينْ! بالله يا حطّابْ! الكمانُ الصموتْ. الكمانُ الذي كانَ أمَّ الأيتامِ روحي، وأرضعني الدمعَ من ثديهِ المرّ حتى رواني. الكمانُ الذي رعرعَ الثكلُ أيامه ورعاني.. وطيّرني كالعصافيرِ فوقَ سطوحِ البيوتْ. الكمانُ الذي ذُرفتْ دمعاتُ حياتي على صدرهِ لا يموتْ! سمعتُ بآخرةِ الليل أغنيتينِ تدقّانِ بابي. فأصغيتُ.. هذا صداي القديمُ يعاودُ حزني، وذاكَ الغناءُ الأبحُّ من الريح صوتُ غيابي. هل أسمي الغماماتِ فوق سطوحِ الغروبِ مناديلَ حبّ، وأوراقَ حزنٍ تطيرها الريحُ فوق القرى ورقهْ... ورقهْ. هل أسمي البحيراتِ حين تطيرُ الحماماتُ فوقَ حقول الهديلِ غياباً يلّونُ وجهَ المساءِ، ويرمي على ليلنا أزرقهْ. هل أسمي الصغيرةَ أمّاً لعائلةِ النحلِ وهي تربّي الحساسينَ في شجرِ البّنّ زقزقةً... زقزقهْ ما انتبهتُ لحزنِ العصافيرِ ديّارةَ المغربِ. ما انتبهتُ.. تنهّدَ نايٌ بعيدٌ على شجرِ الليل ما بيننا والحمامةُ غنّتْ هديلاً على مذهبي! يا هديلُ الصغيرةُ لا تجعليني حزيناً فإني طرّزتُ حبّكِ في مخملِ الليلِ حتى وجدتُ الحياةَ خيوطاً من الوهمِ تلعبُ بيْ! وها أنذا كلما حُكْتُ ثوباً جديداً بكفِّ الحريرِ تلبّسني الحزنُ ديّارةَ المغربِ!
" محيي الدين بن عربي"