#17

307 40 25
                                    


عدتُ إلى المنزلِ مبكرًا وقد عجزَت نفسي عَن تحملِ الأفكارِ الخبيثةِ التي راحت تدبُّ في رأسي..
عجزتُ عن ملءِ الأوراق التي تكومت على مكتبي، ولم تفارق عينيّ - مهما حاولتُ - ملفًا تركتُه في زاويةٍ ما فورَ دخولي إلى غرفتي، ولم يرغب عقلي بأنّ يُحتَلَ بأي شيءٍ إلا بما كُتِبَ في أوراقِه.

شعرتُ برياحٍ باردةٍ عاتيةٍ تلامسني فورَ خروجي من المركزِ الصحيّ.
كانَ نوفمبر على مشارفِ الانتهاء، وعلى وشكِ أنّ يسلمَ مكانَه لشهرٍ قارسٍ بعدَه يُفترضُ بأنّ يكونَ شهر البهجةِ..
تلبدت السماءُ بالغيوم وحجبت عن الدُنيا ملمسَ أشعة الشمسِ الدافئة.. وكأنّه منظرٌ حزين..

ربما كانَ الطقسُ دافئًا كفايةً ليهطلَ غيثٌ قليل، فالحرارةُ لم تكن منخفضةً جدًا يومَها إلا من تلك الرياح الباردة، ولكن الغيومَ في ذلكَ المساءِ احتفظت بدموعِها لنفسِها..
كالغيومِ تلكَ تمامًا.. قررتُ أنّ أفعلَ المثل وأسيرَ إلى منزلي رافعةً رأسي، أحملُ في كتفي حقيبةً بداخلِها مصيرُ زوجي مخطوطٌ على ورق..

أضمرَ نوفمبر بدفئه لنفسِه يومَها..
تركنا عراةً بخسرانِنا أمام دنيا باردةٍ لا ترحم..

رحبَ بي الصمتُ حين دلفتُ لمنزلنا، ووفقًا للميعادِ المعتاد لم تتبقى إلا ساعةٌ حتى يصل جيمين كذلك.
أخرجتُ الملفَ المعنون باسمِه، بدونِ أنّ أسمحَ لنفسي برؤيةِ خطِ زميلتي عليه، ورميتُه على الطاولةِ قربَ المطبخ.
وقفتُ هناك.. وكلُّ إنشٍ في جسدي يُطوى ويُدهسُ بفوضى أحاسيسٍ لا تُحتمل..

أيقعلُ أنّ تشعرَ بخواءٍ شديدٍ وامتلاءٍ بشتى الأشياء في الوقتِ ذاتِه؟

لم أعلم حتى.. أكانَ من المفترضِ أن أصرخَ أو أصيحَ أو أنوح.. أو هل أهرُب.. أو هل أبقى هناك هكذا..
تسارعت أوامرٌ كثيرةٌ تصدرُها مختلفُ الأحاسيسِ إلى عقلي فعجزَ المسكينُ عن تلبيةِ أيٍ منها.

لا أذكرُ كن مضى من الوقتِ وأنا واقفةٌ هناك بدونِ حراك، أكررُ في ذاكرتي لحظاتي معَه في يومِ زواجِنا، ذكرياتي طوالَ الأيامِ التي قضيتُها معه، واليومُ الذي رأيتُه فيه لأولِ مرة، وليلةُ المأدبة.. وجونغكوك..

مضى وقتٌ طويل..
وكأنه أزلّ طويــلٌ جدًا.. ولكنه كذلكَ بدا لي وكأنّه كانَ أمسًا ليسَ إلا..
مضت سنتان تحديدًا..
سنتان منذُ أنّ أتى إليّ طالبًا الفرار..
سنتان منذُ أن شعرتُ بأناملِه تحسسني..
سنتان منذُ أن تخليتُ عن رفيقِ حياتي..

قبل سنتين، في نوفمبر.. أمطرت..
كانَ الدفءُ يومَها في معركةٍ ضاريةٍ مع مقربِ الشتاء..
ولكنها ما عادت تُمطر.. ما عادَ هناكَ معاركٌ يخوضُها الدفء..
والحياةُ القارسةُ هذه.. لا تعرفُ الرَحمة..

مَطرُ نوفمبرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن