شهرُ نوفمبر،
ثلاثُ سَنواتٍ بعدَ ليلةِ المأدبَة.°°°
كانَ العرقُ ينقعُ ثيابَه، ولم يكن الطقسُ حارًا كثيرًا، فالخَريفُ كانَ على مشارفِه، ولكنه كانَ يعملُ طوالَ اليوم ليتأكدَ من أنّ الحقولَ في حالةٍ جيدةَ قبلَ حلولِ الشتاءِ القارسِ لحدٍ لم يحتج فيه حتى لمعطفٍ يدفئُه.
كانَ كلُّ جسدِه يحترقُ من العملِ والكِد.ألقى بما في قبضتِه من معداتٍ وشخصَ ببصرِه للسماء واضعًا يدَه على ناصيتِه لعلّه يحمي عينيه من قيضَ الشمس.
افترشَ أمامَه حقلٌ مترامي الأطراف، وامتدت أطرافُه تلكَ حتى أمست الأشجارُ في الأفقِ خطًا صغيرًا يؤولُ إلى مشارفِ غابةٍ فسيحة.ابتسمَ فخورًا بعملِ يدِه مقدرًا تعبَه، متحسسًا رياحَ الشتاءِ وهي تهبُ وتحرقُ بشرتَه الحارة، ثمَ سرعانَ ما حملَ معداتَه مرةً أخرى ومعطفَه عائدًا إلى منزلِه الذي باتَ فيه منذُ ثلاثة سنوات.
كانَ لمن وجداه ملقيًا على الأرضِ الشكرُ الجزيلُ في مساعدتِه، وعلى ذلكَ اعترفَ لهما بكلِّ شيءٍ على أملِ الأيواءِ والاستعطاف، وذلكَ تمامًا ما وجدَه.
كانَ للزوجين العجوزين حقلٌ كبيرٌ سيزهرُ كثيرًا لو أن الرجلَ الكهلَ امتلكَ طاقةً كافيةً لحرثِه بأكملِه، ولأنه لم يحظى بأولادٍ يعينوه، عجزَ عن ذلكَ بمفردِه.
وهنا انبثقَ الاقتراحُ بينهما.. مقابلَ المساعدةِ في الزراعة والحصاد والحراثة، يحصلُ جونغكوك على سقفٍ يأويه وطعامٍ يسدُ رمقَه، وكذلك عائلة.لم تكن القريةُ كبيرةً كثيرًا، ولكنها كانت كذلكَ كافيةً لحدٍ تخلو فيه من أيّ نقصٍ.
كلٌّ يعرفُ الآخرَ فيها جيدًا، ولا يستغرقُ صبيٌّ هاربٌ من منظمةِ المجتمع وقتًا طويلاً حتى يعرفَه كلُّ السكان.في ليالٍ كثيرةٍ، كانَ يقضي الوقتَ في حانةِ القريةِ الأشهر ليقصَّ على القرويين حكاياتِ الطفولةِ في ديارِه القديم.
لم يمضي وقتٌ طويلٌ حتى تعرفَ على أصدقاءٍ كُثر، حتى أنّه بالكادِ اشتاقَ لحياتِه الماضيّة.
ولكن أحيانًا.. يجدُ نفسَه فجأةً يبكي ويبكي حتى ينامَ على إثرِ فتاةٍ لا زالَ حبُّها في قلبِه حاضرًا..كانَ هناكَ الكثيرُ من الفتياتِ لا محالة، ليسَ فقط في تلكَ القرية، بل كذلكَ في القُرى المجاورة، ولكن ليسَ بيدِه حيلةٌ إلا أنّ يقارنها بهنّ.
برأيه هو.. طالما لا زالَ يقارنُها بغيرِها، فهو محبٌ لها..
وبعدَ ثلاثةِ سنينٍ طويلة.. لا زالَ يُقارن.سارَ نحو منزلِه معلنًا حضورَه لأهلِ الدارِ حينَ وضعَ أشياءَه في مكانِها وأبعدَ حذائيه بنيّة أخذِ حمامٍ منعش.
في هذه البلدة، وتمامًا كأي بلدةٍ أخرى، يجبُ أنّ يعملَ كلُّ شخصٍ ليكسبَ قوتَ عيشِه.. لا شيءَ يأتي إليكَ هكذا بدونِ كدٍ واجتهاد.
لكلٍّ عملٌ معين يساعدُ في بقاءِ الآخرينِ، وتمتدُ المساعداتُ بين الناسِ كي تستمرَ الحياةُ معًا..
كان ذلكَ شيئًا لم يعتد عليه جونغكوك على الإطلاق، ولكن مع مرورِ الأيامِ وجدَ نفسَه يعشقُ العيشَ في ذلكَ المكان أكثر من منظمةِ المجتمع.أفضلُ جزءٍ في الأمرِ برمتِه كانَ حريتَه لا محالة..
لكانَ من الصادمِ حقًا في البدايةِ أنّ يعيشَ بدونِ قواعدٍ ولا قوانين تحددُ له تحركاتِه ومصيرَه.
يستطيعُ أن يركضَ في الأرجاءِ ويذهبَ إلى حيثما أراد.. بدونِ حظرِ تجوالٍ يمنعُه من مسامرةِ النجومِ كلَّ ليلة.
مسموحٌ له العيشُ وفقًا لاختيارتِه الخاصّة، وعليه هو وحدُه تحملُ نتائجِها.لم تكن النتائجُ دائمًا هي كلُّ ما تمناه طبعًا، ولكنه على الأقلِ يختارُ ذلكَ بنفسِه، وهو وحدُه من يُلامُ إن سارَ أمرٌ في منحنى خاطئ، وفي يدِه أنّ يقومَ بكلِّ ما يستطيعُه كي يجعلَ العائدَ من خياراتِه إيجابيًا.
لفَ منشفةً حولَ جسدِه حينَ خرجَ من الحمام وسارَ لغرفتِه، ولكنه تفاجأ حينَ وجدَ صاحبَ البيتِ يجلسُ على سريرِه حاملاً مرسالاً في يدِه.
- ما هذا؟ سألَ وهو يفتحُ خزانتَه ليخرجَ ثيابًا ثم يجلسُ بجانبِ الرجلِ العابسِ على السرير.
- أتى تاي جون وأوصلَ هذه حينَ كنتَ في الحقل.. أتت من منظمةِ المجتمع..
تصلبَ جونغكوك في مكانَه محدقًا في وجه العجوز لعلّه يمزح، ولكن الجديةَ كانت جليّةً على تقاسيمِه.
- أمتأكدٌ من ذلك؟ سألَ مستلمًا المرسال من يدِه ليتفحصَه، وبدونِ شكٍ لم يكن مخطئًا.
شعرَ بنضباتِ قلبِه تعلو وتضطرب، فتلكَ كانت أولَ مرةٍ يصلُه فيها أي اتصالٍ من جهةِ المجتمع.
كيفَ عرفوا مكانَه؟ كيف استطاعوا؟ أوجدوه حقًا؟!
لا.. لا يستطيع أنّ يعود، لا يريدُ أنّ يعود!وقفَ الرجلُ متنحنحًا وأردف: افتحه فقط يا بنيّ.. سيجهزُ العشاءُ بعدَ قليل، تعالَ وكُل حينَ تنتهي.
ثم خرجَ وأغلقَ البابَ خلفَه.
أخذَ جونغكوك نفسًا عميقًا متمعنًا في الظرفِ قليلاً أكثر، خائفًا من أن يرى ما في جعبتِه وما قد تخطُه الكلماتُ التي كُتِبَت فيه.
لم يحرك ساكنًا لبضعِ دقائقٍ، يرسمُ في مخيلتِه مختلفَ السيناريوهاتِ الممكنةِ حتى تغلبَ عليه فضولُه.بأيادٍ ترتجفُ وترتعش.. فتحَ المظروف وأخرجَ الرسالةَ المكتوبةَ يدويًّا وشرعَ في قراءتِها.
****
فصلٌ آخرٌ لعلّه يعوضُ تأخيري المتواصل..

أنت تقرأ
مَطرُ نوفمبر
Romanceفي إحدى ليالي نوفمبر حينَ هلَّ المَطر.. فقدتُ جزءًا مني.. أمسى المطرُ ثلجًا.. وقلبي مليئٌ بكلِّ باردٍ في الدُنيا.. #أنا مترجمةٌ لهذه الرواية ليسَ إلا. #الغلاف من تصميم Hope_879 #This story is originally written by Marrilaure, an author here in...