الفصل الرابع والعشرون
ركز أنظاره القلقة على وجهها المتوتر في انفعالاته الطبيعية، فليس من السهل على أي أم أن تتلقى خبر مرض فلذة كبدها ودخولها للعناية الفائقة، وما حدث مع ابنتها ليس بالأمر الهين، فالحادث على ما يبدو مروعًا للغاية، نظرت له "نادية" مطولاً عاقدة العزم على عدم التراجع عما قررته، استطردت مضيفة بنبرة تحمل الندم:
-كفاية إني كنت مقصرة في حقها السنين اللي فاتت
رد عليها "معتصم" بحذرٍ:
-ماشي بس ....
-سيبها على راحتها
قالها "وحيد" بلهجة هادئة لكنها صارمة قطعت على ابنه أي مجال للنقاش أو المجادلة، لم يكن أمام الأخير بدًا من الاعتراض، تنفس بعمق ورسم ابتسامة باهتة على ثغره قائلاً:
-حاضر
ثم ربت على كتفي "نادية" بحنوٍ مكتفيًا بالتزام الصمت، اقترب "نبيل" منهم مضيفًا بجدية:
-إن شاء الله نطمن عليها
ردت عليه "نادية بنبرة راجية وقد لمعت أعينها:
-يا رب
استخدم الطبيب "مصطفى" يديه في الإشارة قائلاً:
-هستأذن حضراتكم تقعدوا في الكافيتريا اللي تحت لحد ما يتم السماح بالزيارة
تطلع إليه الجميع بنظرات متنوعة كان السائد فيها الرفض من قبل "نادية"، فأكمل موضحًا بهدوء جاد:
-صعب كلكم تفضلوا متواجدين هنا في الطرقة، ده لراحتكم ولراحة المرضى كمان
ردت "نادية" معترضة:
-وبنتي؟
وقف قبالتها قائلاً:
-اطمني، أنا بنفسي هابلغ حضرتك، لكن صدقيني وقفتك هنا مش هاتقدم ولا هتأخر، وماتنسيش حضرتك لسه قايمة من تعب شديد
دعم "وحيد" موقفه مضيفًا:
-د. "مصطفى" عنده حق يا "نادية"، تعالي نشرب حاجة وهنيجي عندها، احنا مش رايحين في حتة!
اضطرت أن تستسلم –مؤقتًا- أمام إصرارهما الجاد بالتواجد في الكافيتريا الملحقة بالمشفى لبعض الوقت، لكنها لن ترحل أبدًا عن ابنتها.
.......................................................
ظل صدى كلمات "نبيل" يتردد في عقله ليضاعف من إحساسه بالذنب وتأنيب ضميره، فكر مليًا بأنها حتمًا مخطئة في اختيار ذلك النمط السيء من الحياة لتسلكه، لكنه كان مجحفًا في معاملتها بتلك القسوة والخشونة لمجرد رغبتها في الانتقام –كما تزعم- ممن سلوبها استقرار حياتها، فبالرغم من تهديداتها المتواصلة إلا أنها فعليًا لم تفعل ما يسيء للعائلة، بل على العكس كانت سمعتها شخصيًا هي المستهدفة، ولم تعلن في أي موقف عن وجود صلات أو روابط أسرية بينها وبين زوجة أبيه، احتار "معتصم" في تلك التركيبة العجيبة من شخصيتها، ورغم ذلك لم يرفق بها، كان يفضل تحميلها الذنب كاملاً على أن يشعر بالندم نحوها، هي لا تستحق أن تنال جزءًا من تفكيره، فاختياراها نابعة من عقلها وليس نيابة عنها، إذًا هي الملامة الوحيدة على ما وصلت إليه أمورها، اتخذ سيارته الملاذ ليهرب ممن حوله وخاصة نظرات زوجة أبيه التي تلومه صراحة على ما حدث، أثر الابتعاد والانزواء مع نفسه ليستعيد ثباته، ويسيطر على ارتباك وتخبط مشاعره وأفكاره، لكن تعكر صفو سكونه مع تجسد طيف "آسيا" على الزجاج الأمامي لسيارته، كان وجهها كما رأه آخر مرة، ملطخًا بالدماء، وعينيها الفيروزيتين تفيضان بالدمع الغزير، انتفضت حواسه وتسارعت دقات قلبه مع تلك الهيئة التي تخيلها، كانت نظراتها إليه مليئة بالعتاب، اخترقته وأشعرته بشيء ما، ابتلع ريقه بتوتر، وحاول أن يضبط اضطراب أنفاسه، تمتم مع نفسه محاولاً إبعادها عن ذهنه:
أنت تقرأ
المُحترَمُ البَرْبَريُّ ©️ - كاملة ✅
عاطفيةعادت لتنتقم من الأقرب إليها كالغريب، فوجدته يقف أمامها كالحائط المنيع، لم يجمعهما سوى الكره العنيد، لكنها سرت في عروقه مثلما تجري الدماء في حبل الوريد المحترم البربري رواية اجتماعية بين قطبين شرسين #منال #منال_سالم