استيقظ مبتسماً على صوت العصافير التي غزلت لها عشاً بالقرب من نافذة الغرفة .. وكأنها تغنى لأجله .. عاد يبتسم في خجل وهو يحاول التحرر من جسدها المستكين فوقه دون أن يوقظها .. استطاع أخيراً إبعادها عنه .. غطاها كطفلة صغيرة ونهض يمارس بعض التمرينات الخفيفة يحرك بها فقراته التي تشنجت ألماً بسبب رقدته غير المريحة۔۔۔۔۔
بدل ملابسه ليذهب إلى المطار ويحجز تذاكر السفر .. سيعود إليها قبل أن تستيقظ .. كتب لها ورقة صغيرة ليخبرها بخطته الصباحية حتى لا تنزعج .. هم بمغادرة الغرفة ولكنه ما أن فتح الباب حتى فتحت هي عينيها فابتسم قائلاً :
- صباح الخير يا ندى
لم ترد تحيته بل نفضت عنها الغطاء وغادرت فراشها لتتعلق بذراعه قائلة :
- أين ستذهب وتتركني ؟
- لماذا ترتعدين مجدداً ..؟ أقسمت مراراً بأنني لن أتركك
- أنت كاذب كنت تنوى الهرب لولا استيقظت أنا في الوقت المناسب
زفر في ضيق وناولها الورقة التي كتبها لها ليخبرها عن وجهته .. قرأتها في عدم اهتمام قائلة :
- انتظرني .. سآتي معك
- لا داعٍ لترهقي نفسك .. سأعود سريعاً
- هل نسيت أنني أريد الذهاب للبنك
مط شفتيه وجلس في استسلام على حافة الفراش قائلاً :
- حسناً .. اذهبي لتبدلي ملابسك
- سأبدلها هنا
اتسعت عيناه استنكاراً بينما تابعت في لا مبالاة :
- الحمام أخر الممر .. هناك الكثير من الرجال بالخارج
- وماذا عني ؟
هزت رأسها قائلة :
- أدر ظهرك .. أو اغمض عينيك
رفع حاجبيه ساخطاً فأردفت بصبر نافذ :
- هيا لا تضيع المزيد من الوقت
رمقها في غضب وأسرع يغادر الغرفة مغلقاً الباب بعنف خلفه ...
*****
التفت إليها عندما التصقت به فجأة بينما يسيران على جانب من الطريق المزدحم .. كانت قد غطت شعرها بقبعة صوفية ووضعت نظارة داكنة فوق عينيها .. هو نفسه لم يكن ليتعرف عليها .. يكفى كونها بلا مساحيق .. ولكنها رغم ذلك كانت ترتعد خوفاً
سألها في شيء من العتاب :
- ماذا بكِ ؟
أجابته في توتر وهى تتطلع إلى الوجوه الكثيرة التي تتحرك حولها :
- أخشى أن يكتشف أحدهم هويتي
- اطمئني حتى خورشيد نفسه لم يكن ليكتشف هويتك
- أتظن ذلك ..؟!
- نعم .. على أية حال بعد ساعات قليلة سنغادر فرنسا كلها إلى وجهة لا يتوقعها أحد .. وهناك لن تحتاجي للتنكر مجدداً
حولت عينيها إليه في رجاء قبل أن تتأبط ذراعه في تلقائية نقلت كل توترها إليه فتوقف عن السير وتعلقت عيناه بوجهها في صدمة .. فهمست في ذعر وهى تزداد التصاقاً به :
- باسل هل لاحظت شيئاً مريباً ؟
- كلا
- لماذا توقفت إذاً ؟
جاهد ليتحكم في انفعالاته قائلاً :
- أبحث عن وسيلة نقل توصلنا للمطار
- سيارة أجرة
- الأفضل أن نأخذ الأتوبيس .. هناك محطة قريبة في الجهة المقابلة
ما كاد يتنفس الصعداء لكونها تركت ذراعه وحررته من فيض الكهرباء التي سرت به منذ لمسته حتى عادت تطبق على كفه لتجذبه عدواً إلى الجهة الأخرى .. تحرك معها مسلوب الإرادة يتلطم في خضم من المشاعر لم يستوعبها لكثرتها ربما .. وربما لأنه لم يصادفها من قبل۔۔۔
الشعور الوحيد الذى استطاع تفسيره .. هو ذلك الإحباط الذى انتابه عندما تركت يده ما أن وصلا إلى المحطة ...
وقفت تنتظره على بعد أمتار من شباك حجز التذاكر في مطار شارل ديغول .. شبكت أصابعها في توتر وهى تنقل عينيها بينه وبين الموجودين حولها في هلع يبلغ ذروته كلما اقترب أحدهم منها أو نظر إليها مصادفة .. أين خورشيد الآن ليرى ذلك الفزع الذى يلاحقها أينما ذهبت ؟
سقطت دموعها لا إرادياً وهى تتذكر أيامهما الأخيرة معاً .. هو أيضاً كان يعلم بأن صفقة الألماس هي الأخطر على الإطلاق .. المخاطر أحاطتها بكل الجهات .. بدءاً من الشرطة والقانون وصولاً لأفراد العصابة التي استقل عنها ليعمل بمفرده ويفوز بنصيب الأسد من كل صفقاته ..
بقدر صلابته كان مرتعداً خائفاً .. لم يكن يجيد إخفاء مشاعره عنها .. فهي الوحيدة التي تفهمه كما يفهمها .. لكم رجته أن يعيد التفكير بشأن هذه الصفقة الملعونة ولكنه أصر على المجازفة غير عابئ بتوسلاتها ولا حتى بتحذيراتها .. فقط وعدها بأن تكون صفقته الأخيرة .. صفقة العمر كما أطلق عليها .. وبعدها سيلحق بها إلى فرنسا ليعوضها عن كل الخوف والمعاناة التي عاشتها بسببه ..
والقدر لم يمهله ليتمم هروبه الكبير .. الموت كان أسرع من الشرطة في القبض عليه .. كان أسرع حتى من أفراد العصابة الذين بدأوا في مطاردته بغية الانتقام منه ....
شهقت وتراجعت في فزع عندما لمس أحدهم ذراعها فجأة .. وضعت يدها على صدرها لتهدأ أنفاسها المضطربة بينما هز باسل رأسه وتنهد مستنكراً قبل أن يغمغم معتذراً :
- عذراً .. لم أكن أقصد أن أسبب لكِ كل هذا الخوف
ابتلعت ريقها صامتة وتعلقت بذراعه ليغادرا المطار .. رجفتها هذه المرة قللت من نشوته .. شعوره بالالتزام نحوها وضرورة تخليصها من الخوف الذى يلازمها فاق أي إحساس آخر داخله 1a
قال بعد فترة :
- الطائرة سوف تقلع في تمام السابعة .. سنذهب الآن إلى البنك لتنهى إجراءات حسابك .. بعدها نتناول شيئاً ونعود إلى الفندق لنستريح قليلاً ونستعد للسفر
في فرع البنك الدولي قدمت طلباً لسحب رصيدها كاملاً .. لم يكن المبلغ كبيراً فقد اعتادت أن تمتلك أضعافه قبل تلك الكارثة التي حلت بها .. ولكنها رغم ذلك جلست تنتظر الموافقة بقلق وصبر نافذ .. ماذا لو علموا عن علاقتها بـ خورشيد .. ربما لن يكتفوا حينها بمصادرة المبلغ فحسب .. قد تتعرض للمساءلة القانونية هي أيضاً ..؟ هل يمكن أن تدخل السجن بدلاً منه ؟
- ندى مصطفى .. ندى مصطفى
تنبهت عندما ربت باسل على ذراعها ليوقظها من شرودها قائلاً :
- ندى .. ندى .. موظف البنك يناديكِ
هزت رأسها في قلق ونهضت لتذهب إلى مكتبه .. هم باسل أن يتبعها ولكنها استوقفته قائلة :
- كلا .. انتظرني هنا
- هل أنت على ما يرام
- نعم .. فقط لا أريدهم أن يكتشفوا أننا معاً
قطب حاجبيه قبل أن يومئ برأسه متفهماً .. عاود الجلوس مستسلماً لوجهة نظرها إلى أن خرجت إليه بعد قليل تحمل حقيبة بلاستيكية .. أشارت له بطرف عينيها فتبعها إلى زاوية متطرفة .. سلمته مظروفاً كبيراً يحتوى المبلغ الذى سحبته للتو قائلة :
- احتفظ بجزء منه يكفى نفقاتنا حتى نصل جنوب أفريقيا ثم ضع بقيته في حساب جديد باسمك
قال وهو يتطلع إليها متفحصاً :
- أي وقت تريدين فيه أن تستقلي بنفسك عنى اخبريني فقط .. وأقسم بأن أعيد لك نقودك كاملة 2 a
ربتت على كفه وهمست بابتسامة باهتة :
- أعلم ۔۔۔۔۔
ربما لم يكن هذا المبلغ ليمثل لها شيئاً لو لم يعد هو كل ما لديها حالياً .. كان يمكنها أن تنفقه في أيام معدودة لو شاءت .. لكنه بالنسبة لـ معدم مثله كان ثروة حقيقية لم يحلم أن يمتلكها يوماً .. على الأقل في المستقبل القريب
أنت تقرأ
في قبضتي
Short Storyتطلع إلى نفسه فى المرآة ساخطاً : ما جدوى كل هذه العضلات المفتولة إن كانت المرأة الوحيدة التى يريدها لا ترى فيه رجلاً ..؟! نعم .. سيحيا عبداً لعام واحد .. واحد فقط .. سيعيش فيه العبودية ويستسيغها بكل مرارتها وآلامها .. سيتقبل الهزيمة بقلب رحب ما دامت...