40

1.6K 31 0
                                    


ذابت صلابتها تحت وطأة آلامه التي أصابتها .. لم تعد تحتمل المزيد من أحزانه التي تتعاظم لحظة بعد أخرى .. هتفت في لوعة :
- لماذا يضايقك كونى أصبحت أكثر استقلالية واعتماداً على نفسى ؟ ألم يكن هذا ما أردته منى منذ البداية ؟ ألم تطلب منى مراراً بأن أتحمل المسئولية ولو قليلاً ؟ كنت محقاً يوم أخبرتني بأن الأمان يأتي من داخلنا .. وها أنا قد بدأت أشعر به للمرة الأولى في حياتي .. فلماذا أنت غاضب لهذا الحد ؟!
تأملها في ألم ولم يعلق .. إن كانت لم تشعر بهذه الفجوة التي تتعمق بينهما فلا فائدة ترجى من كلماته .. إن لم تكن تبادله ولو القليل من أشواقه فخير له أن يحتفظ بها لنفسه ..
سألها بعد فترة في فضول لم يستطع مقاومته :
- هل هاتفك معطل بالفعل أم أنك أغلقته عمداً ؟
كم كانت تتمنى أن تمنحه كذبة بيضاء لتهدئ من روعه وتداوى عذابه .. ولكنها لم تستطع .. أشاحت بوجهها عنه في خجل .. فصاح غاضباً :
- لم أكن أعلم بأنني أزعجك لهذا الحد ؟
لم تلتفت لتنظر إليه بل استمرت في التطلع إلى نوافذ العرض دون أن ترى منها شيئاً .. عض على شفتيه ليجبرهما على الصمت صوناً لكرامته التي يهدرها أمامها بلا طائل .. ولكنه لم يستطع الصمود طويلاً بل عاد يغمغم في توسل :
- كل ما أريده هو أن أطمئن عليكِ فحسب .. ماذا لو رجوتك أن تفتحيه مجدداً ؟
أغمضت عينيها بقوة وتنهدت صامتة فتوقف عن السير وأمسك كتفيها ليديرها إليه رغماً عنها .. رفع ذقنها ليتعمق في عينيها متسائلاً في لهفة عن سر تبدلها .. دفنت رأسها في صدره فضمها إليه في قوة كادت أن تسحق عظامها فتأوهت في ألم دون ان تحاول التحرر من قبضته .. غمر شعرها بقبلاته حتى رفعت وجهها إليه فأطبق على شفتيها بلا استئذان .. هي من جعلته يدمنها فلتتحمل إذاً نوبات جنونه بها ..
لا تدرى كيف تحررت منه أخيراً ولكنه كان مبتسماً .. رضاه أسعدها بالقوة ذاتها التي ضاعف بها إحساسها بالذنب .. لم يرهقها كونها ستبدأ طريق الفرار من بدايته بقدر ما أرهقها ما وهبته له من طمأنينة زائفة ...
لم يقل شيئاً بعدها .. بل التفت ذراعه حول خصرها في سعادة كاد معها ان يحملها إلى الفندق .. رفعها مراراً عن الأرض مستمتعاً بصدى ضحكاتها الطفولية التي افتقدها طويلاً ..
شدها فجأة إلى متجر الأحذية ليشتري لها الحذاء الذى طلبته منه ذلك اليوم .. كانت قد نسته بالفعل .. ربما لأنها لم تكن تأخذ الأمر بجدية حينها .. فتحت فمها مستنكرة ولكنه أشار لها بالهدوء مبتسماً حتى لا تحرجه أمام البائع
تطلعت إلى قدميها في سعادة .. منذ فترة طويلة لم تشترِ شيئاً جديداً رغم شغفها الدائم بالتسوق .. طلب منها أن تنتعله .. هامساً في أذنيها بأنه يريد لإحساسها به أن يرتقى كما وعدته ..
رفضت دعوته للعشاء بحجة أن لا وقت لها هذه الليلة .. اكتفت ببعض الشطائر وراحت تتناولها معه سيراً متلذذة بوجوده قريب منها .. أرهقهما السير فجلسا ليستريحا في منتزه صغير على جانب الطريق .. بريق عينيه عكس ضوء القمر فزاده تألقاً .. استندت برأسها على كتفه وتثاءبت في طمأنينة تفتقدها .. مسح على شعرها هامساً :
- هل تريدين العودة إلى الفندق ؟
نظرت في ساعة يدها قائلة :
- قاربت العاشرة .. دعنا نذهب
نهضت فتبعها على مضض .. لم يكن يريد لتلك الليلة أن تنتهى أبداً .. تطلع إليها في دهشة عندما عاودت الجلوس بعد أمتار قليلة .. خلعت حذاءها لتبدله بذلك الرياضي القديم فقال مبتسماً :
- قلت بأنك تستطيعين الركض به أيتها المخادعة
- يبدو أنه يحتاج إلى سيارة بالفعل
- دعيني أحملك إلى الفندق
برقت عيناها قبل أن تضحك مستنكرة .. اقترب وحملها فوق ذراعيه فابتلعت ريقها في توتر قبل أن تصارعه ليعيدها إلى قدميها وهى تهتف به في شقاوة :
- قلت أنه يحتاج إلى سيارة وليس إلى شاحنة
ضحك لمزاحها طويلاً قبل أن يسحبها من يدها ليركض بها غير مبالٍ باعتراضها وصراخها .. أرهقت بالفعل فاستسلمت لذراعيه وهو يحملها هذه المرة .. لفت ذراعيها حول عنقه واستكانت برأسها فوق صدره مغمضة العينين حتى وصلا الفندق ..
همس أخيراً :
- يمكنني أن أحملك إلى فراشك أيضاً إن أردت
انتفضت كمن استيقظت من غيبوبة وطلبت منه أن ينزلها ففعل مبتسماً .. قبل جبينها قائلاً :
- سوف تفتحين هاتفك مجدداً
- شرط أن تتصل بي مرة واحدة فقط كل يوم .. فلتكن في المساء حتى تتمنى لي ليلة طيبة
- أيتها الجاحدة ..!
هزت كتفيها في لامبالاة فأردف ساخطاً :
- فلنجعلها صباحاً ومساءً .. أحب يومي عندما يبدأ بصوتك
ابتلعت ريقها بصعوبة وهزت رأسها موافقة قبل أن تركض وتبتعد عنه لكيلا تزداد ضعفاً ..

في قبضتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن