ما أن ابتعدا عن البنك خطوات قليلة حتى صاحت به :
- أنا جائعة جداً
ابتسم في إشفاق قائلاً :
- حسناً .. ها نحن عائدان إلى الفندق
- لن آكل شيئاً من طعامه
- سأشترى لكِ من المطاعم هناك ما تريدينه
- ولماذا لا نشترى من هنا ؟
- الأسعار هنا مبالغ فيها
- يكفى أنها نظيفة
زفر بضيق ولم يعلق فأردفت ساخطة :
- معك نقود كثيرة فلا تكن بخيلاً
- أنا لست بخيلاً .. قليل من الحرص واجب حتى نجد مصدراً آخر للنقود
أشارت إلى مطعم على بعد خطوات منهما وهتفت كطفلة :
- فقط واحدة من هذه البيتزا الساخنة .. رائحتها الشهية زادتني جوعاً
- لو طاوعتك في الإنفاق سوف نتسول بعد شهر واحد
- ولو طاوعتك أنا فسوف نموت قبل أن ننفقها
غمغم محذراً :
- ندى ...
قبلت وجنته في توسل هامسة :
- باسل .. أريد بيتزا من هذا المطعم
ابتلع ريقه في انفعال هامساً بصوت مختنق :
- هذه المرة فقط
اتسعت ابتسامتها وهى تهز رأسها موافقة قبل أن تتأبط ذراعه إلى المطعم الفاخر .. اشترى واحدة .. قدم لها العلبة وسحبها للخارج فهمست متذمرة :
- إلى أين ؟
- ستتناولينها في الخارج
- ولماذا لا أتناولها هنا ؟
- لأن هذا سيضيف علينا المزيد من التكلفة لا طائل منها
قادها رغماً عنها إلى أحد المقاعد المتناثرة على الرصيف وجلس بجوارها منتظراً كي تنتهى من طعامها ولكنها وضعت الصندوق على فخذيها وظلت تتطلع إليه ساخطة .. هتف في دهشة :
- ماذا حدث ؟ لماذا لا تأكلين ؟
- تريدني أن آكل هنا كالمتسولين ؟!
- المتسولون لا يأكلون هذه البيتزا
رمقته في عناد فأردف بشيء من القسوة :
- متى ستدركين أن وضعك تغير الآن .. نانا هانم ماتت مع خورشيد .. أنت الآن ندى .. الفتاة التي يجب أن تكافح لكى تعيش .. إن كان الله قد منَّ عليك ببعض النقود .. فاعتبريها فرصة حتى تستطيعي تدبر حياتك مجدداً .. عليك أن تشكريه على رحمته بك لا أن تبددي نعمته بتهورك
دمعت عيناها ووضعت الصندوق جانباً وهمت بالنهوض فأمسك بها قائلاً :
- لا تكوني طفلة .. هيا اجلسي وتناولي طعامك
- كلا .. لم أعد جائعة
زفر بصبر نافذ قائلاً :
- وماذا نفعل بهذه البيتزا ؟
- كلها أنت
- أنا لا أريدها
- أعطها لأحد المتسولين .. أو القها في صندوق القمامة لم يعد الأمر يعنيني
- بعد كل ما دفعناه ثمناً لها ؟!
نهضت في لا مبالاة ورفعت رأسها في كبرياء قائلة :
- هيا لنعد إلى الفندق
تحركت بالفعل لتذهب ولكنه اعترض طريقها ووقف يتطلع إليها في حيرة فهتفت في غضب :
- أنت أهنتني .. لم أعتد أن يذلني أحد بهذه الطريقة .. حتى ولو كنت قد أصبحت فقيرة فجأة .. فهذا لا يعنى أن تحول حياتي جحيماً بحديثك المستمر عن مصيبتي .. على الأقل امنحني بعض الوقت لأتأقلم معها كي لا أجن ..
غمغم في تلعثم :
- أنا ......
صرخت به في مزيد من العصبية :
- أنت لا تفهم معاناتي .. لا تقدرها حق قدرها .. لم تجرب أن تخسر كل شيء في لحظة واحدة .. مع العلم أن لا شيء لكَ حتى تخسره
ابتسم في مرارة قائلاً :
- ومن قال بأنك خسرت كل شيء .. لازال لسانك السليط كما كان بل وأسوأ أيتها المتعجرفة
لمعت عيناها وهى ترمقه في مزيد من الغضب .. فأمسك رأسها العنيد بين كفيه ليطبع فوق جبهتها قبلة اعتذار هامساً :
- أنا لم أقصد إهانتك
تحولت نظراتها إلى عتاب صامت تلاشى بعد فترة فعاودت الجلوس ولكنها لم تلمس صندوق البيتزا .. ابتسم وهو يتناوله ليقدمه لها بانحناءة قائلاً :
- تفضلي نانا هانم ..
أخذته من يده في تذمر وما لبثت أن غمغمت في لهجة آمرة :
- أين علبة المياه الغازية ..؟ لن أستطيع أن أبتلعها بدونها
رفع حاجبه استنكاراً قبل أن يضحك قائلاً :
- عذراً نانا هانم لقد نسيت
رفعت ذقنها قائلة :
- أعذارك كثرت جداً .. هيا اذهب واحضرها
عاد بعد قليل يحمل علبة مياه غازية قدمها لها قائلاً :
- طلباتك أوامر يا نانا هانم .. ولكن أرجو أن تنتهى سريعاً من وجبتك حتى نستعد للسفر
فتحت الصندوق واستنشقت رائحة البيتزا في نشوة قبل أن تقضمها متلذذة .. أشارت إليه كي يشاركها طعامها قائلة :
- لماذا لا تأكل ؟
- البيتزا لا تناسبني
- جربها .. ستروق لك
- كلا
- لماذا ؟
- كفى عن الحديث و تناولي طعامك حتى نذهب
كشرت واستمرت في تناول طعامها صامتة بينما جلس هو يراقب المارة في صبر نافذ حتى قالت أخيراً :
- ها أنا قد انتهيت
- هيا بنا إذاً
نهضت لتتبعه عندما لاحظ أنها بالكاد انتهت من نصف البيترا فقط .. فقال معاتباً :
- لماذا لم تكمليها ؟
- شبعت
- البيتزا معظمها نشويات سريعة الهضم .. بهذه الطريقة ستشعرين بالجوع قبل أن نصل الفندق
مطت شفتيها وهزت كتفيها في حيرة فأجلسها مجدداً وحاول أن يطعمها رغماً عنها ولكنها أطبقت شفتيها في إصرار فهتف ساخطاً :
- بالله يا ندى .. قليل من الإحساس بالمسئولية ..!
- ماذا تريدني أن أفعل .. حتى وإن طاوعتك فمعدتي لن تطاوعني
- أسنانك سوف تطاوعك
- وماذا لو أصابني مغص وتقيأت بعدها ؟
- كلا لن يحدث
رمقته مستنكرة واستمرت تهز رأسها في عناد ولكنه لم ييأس بل أمسك بشريحة من البيتزا وقربها من فمها مبتسماً مدللاً كمن يطعم طفلاً صغيراً مشاكساً .. ذكرها بلا قصد بما كان يفعله معها خورشيد كلما أراد أن يرغمها على تناول طبقها كاملاً .. بادلته ابتسامته في حنين وقضمت قطعة من شريحة البيتزا شاردة قبل أن تتنبه لواقعها وتزيح يده لتضع ما تبقى منها في فمه بدلاً من فمها
كان قد تذوق البيتزا من قبل مراراً ولكنها لم تكن لذيذة بهذا القدر .. هذه أشهى بيتزا تذوقها في حياته .. بل أشهى ما تذوقه من طعام على الإطلاق .. أيكون ثمنها المضاعف هو ما منحها هذه النكهة المميزة أم أن الشهد بها تسرب من شفتيها عندما قضمتها قبله ؟
ظل يتطلع إليها حتى ابتلع شهدها كاملاً ولعق شفتيه مسحوراً بها .. نهض فجأة وجمع ما تبقى منها قائلاً في توتر :
- سأحتفظ بها لك عندما تشعرين بالجوع مجدداً
- هل تظنني سأكلها باردة ؟!
زفر وهو ينظر إليها في غيظ قائلاً :
- سوف نسخنها .. هيا بنا ..
أنت تقرأ
في قبضتي
Short Storyتطلع إلى نفسه فى المرآة ساخطاً : ما جدوى كل هذه العضلات المفتولة إن كانت المرأة الوحيدة التى يريدها لا ترى فيه رجلاً ..؟! نعم .. سيحيا عبداً لعام واحد .. واحد فقط .. سيعيش فيه العبودية ويستسيغها بكل مرارتها وآلامها .. سيتقبل الهزيمة بقلب رحب ما دامت...