55

1.4K 31 0
                                    


لم يكن يعانى من ثقل وزنها سابقاً .. ولكن هل وزنها خف بالفعل لهذا الحد ؟

مددها على سرير بغرفة خصصها لضيوف لا يعرفهم ووقف يتطلع إليها في ألم .. وجهها لم يصب بأية خدوش .. ابتسم مرغماً .. لازالت تجيد الحفاظ عليه في مثل هذه المعارك الوحشية .. لكنها تبدو شاحبة .. بشرتها ما عادت تلك الوردية الناعمة التي لطالما فاقت ورودها الحمراء نضارة ورونقاً .. وأيضاً ثوب العاملات الذى أحضروه لها لا يليق بها أبداً ...

أطلق تنهيدة طويلة واستدار لتستقر عيناه في إحدى زوايا الغرفة حيث الحقيبتين اللتين أحضرهما من باريس منذ أكثر من عام .. ترقدان كالموتى في انتظار أن تأتي لتبث فيهما الحياة ..

تأوهت فجأة ولثمت شفتيها في وهن فأسرع ليحضر لها كوباً من الماء لعلها ظمأى .. انحنى ليسقيها عندما تمتمت بلا وعى :

- باولو .. ليون ...

نهض فزعاً وأسقط الكوب من يده ليصطدم بالأرض وتتناثر شظاياه فوقها .. كانت مع باولو إذاً كل هذا الوقت .. وهو من ظن أن لقاءها به في ذلك المقهى كان عابراً وبأنه لم يترك فيها أثراً .. لم يتخيل أبداً بأنها يمكن أن تلجأ إليه مجدداً .. 
لأكثر من عامين أضناه البحث عنها هو وعبدالله أيضاً .. لكم توسل إليه الأخير كي يرافقه إلى أمريكا ولكنه أرغمه على البقاء في جوهانسبرج لربما تعثر فيها مصادفة .. حتى الشهر الفائت فقط اتصل به ليسأله عن الجديد بشأنها فأجابه حزيناً يائساً بأن لا جديد.. ليست المرة الأولى التي تفعلها غير عابئة به .. 
ومن يكون ليون هذا ؟ أتراها قد أنجبت منه أيضاً ؟ 

تأوهت مجدداً فالتفت إليها بفضول عجز عن مقاومته .. انحنى فوقها وهزها لتستيقظ .. استمر يناديها حتى فتحت عينيها أخيراً وتطلعت إليه تائهة قبل أن تتنبه له .. همست باسمه في لهفة وهى تحاول النهوض لتعانقه لولا آلامها المبرحة التي أرغمتها على الاسترخاء مجدداً

تطلع إليها في مزيج من الإشفاق والغضب .. يبدو أنه مضطر لتأجيل فضوله لوقت آخر .. على الأقل حتى تتخلص ذاكرتها من تشوشها .. ليس عليه الآن سوى أن يسعفها .. لم يعد يحتمل دموعها وتأوهاتها المعذبة أكثر من هذا .. تنهد بعمق وأمسك بسماعة الهاتف ليستدعي الطبيب مجدداً

حقنها الطبيب بالمزيد من المهدئات .. وكتب له حفنة من المسكنات والمراهم والمضادات الحيوية فلم يجد مفراً من الذهاب إلى الصيدلية حتى يحضرها بنفسه .. لا يجب ان تعلم الصحافة بوجودها في منزله

استيقظت في صباح اليوم التالي تشعر بحال أفضل رغم إنهاكها .. سكنت في سريرها فترة استرجعت فيها الأحداث التي مرت بها منذ أمس .. لم تكن تقصد أن يضبطها متلبسة وهى تتلصص المعلومات عنه .. عثر عليها في أسوأ لحظاتها مهانة ومذلة ...
أطلقت تنهيدة طويلة وتحاملت لتقف على قدميها .. تحركت بخطوات متثاقلة وغادرت الغرفة .. كأنها مريض تجاوز الثمانين من عمره ..!

لم يلفت انتباهها اتساع الردهة ولا فخامة أثاثها بقدر ما لفت انتباهها عدم وجوده فيها .. تجهم وجهها في حيرة قبل أن تنصت لصوت الموسيقى التي انبعثت من إحدى الغرف الجانبية فتوجهت إليها على عجل بقدر ما استطاعت .. قرعت بابها فلم تجد صدى مما دفعها لفتحها بصبر نافذ .. كان مندمجاً في أداء بعض التمرينات العنيفة فلم يشعر بها .. ظلت ترقبه في حنين حتى توقفت الموسيقى واستدار ليتفاجأ بوجودها على بعد خطوات منه

شكله أبهى كثيراً من كل صوره التي ملأت الجرائد والمجلات وحتى من المرات القليلة التي تلصصت عليه فيها من بعيد .. كان أجمل حتى من أحلامها به ... 
اقتربت منه خطوات قبل أن تدرك عدم مبادرته للترحيب بها فتوقفت حرجاً .. استيقظ من شروده وتقدم منها .. ابتسمت فى ارتباك منتظرة حديثه إليها ولكنه لم يقل شيئاً بل حملها صامتاً وغادر الغرفة ليضعها فوق أريكة وثيرة .. ظل يتطلع إليها بوجه متجهم أصابها بالدهشة قبل أن يبتعد عنها قائلاً :
- سأغتسل بسرعة وأحضر لكِ طعاما
- باسل ...

قال دون أن يلتفت إليها :

- أعلم أنك جائعة

أصابتها غصة في حلقها أفقدتها النطق .. لا يبدو سعيداً بعودتها إليه .. وليس من حقها أن تلومه وهى من نبذته أولاً ... 
عاد بعد قليل يحمل صينية عليها عدداً من الأطباق رصها فوق سفرة بيضاوية جميلة من خشب الآرو .. الـ تي شيرت الأسود ذو الأكمام القصيرة أبرز عضلاته الصلبة التي ازدادت تناسقاً وقوة .. شعره الأسود الفاحم الذى مشطه للخلف تناثرت إحدى خصلاته لتزين جبهته وتزيده إغراءاً وجاذبية 
نظر إليها وحثها على التقدم ولكنها لم تتحرك فقال بصوت هادئ :

- الطعام جاهز يا نانا هانم 
لم تبتسم لدعابته الثقيلة .. تهكمه فيها كان واضحاً .. شعرت بأنه يسخر منها خاصة وهى ترتدى هذه الملابس الرخيصة التي تسولها من أجلها .. عاد يكرر بصبر نافذ :

- نانا هانم ...

صاحت ساخطة :

- ما دمت تعلم أنني هانم تعال واحملني إذاً 
قطب حاجبيه لحظات قبل أن يتقدم ويحملها بالفعل .. تسارعت أنفاسه عندما أحاطت عنقه بذراعيها مستمتعة برائحة معطر الاستحمام الفاخر التي انطلقت من جسده لتنعش أنفاسها المتعثرة .. قاومت رغبتها الملحة للعبث بشعره المبلل لتعيد تنسيقه كما تنسق زهورها .. لولا جفاءه الواضح لفعلتها ... 

وضعها فوق كرسٍ حول السفرة كمن يلقِ عن كاهله حملاً يثقله .. استدار ليبتعد فهتفت مستنكرة :

- ألم تتناول فطورك أنت أيضاً ؟

- تناولته من ساعتين

- ربما جعت مجدداً

هز رأسه نفياً فأردفت في تدلل :

- تعال لتطعمني .. ذراعي لا زالت تؤلمني 
عبرت ومضة من الحنين ملامحه قبل أن يهتف في جفاء :

- من الأفضل لكِ أن تعتمدي على نفسك حتى تتعافى سريعاً 
نهضت في غضب لتقف على قدميها قائلة :

- إن كنت تتعجل ذهابي يمكنني أن أغادر فوراً

هم أن يرد ثورتها بأعظم منها لولا جرس الباب الذى تصاعد رنينه فجأة فاستدار إليه في قلق قبل أن يلتفت ويحملها ليعيدها إلى الغرفة التي باتت فيها ليلتها .. 
هتف غير مبالٍ بصدمتها ولا اعتراضها :
- لا تغادري هذه الغرفة مهما بلغ فضولك

في قبضتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن