استمر في التحرك حولها كثور هائج بحثاً عن ملجأ بديل عندما فتح الباب مرة أخرى .. كان الرجل ذاته .. اقترب منهما وقدم لهما لفافة تفوح منها رائحة الطعام الساخن وهو يغمغم في نبرة أكثر إنسانية هذه المرة :
- هذا أقصى ما يمكنني فعله لكما .. أرجو أن تلتمسا لي العذر
تقبل باسل عطيته في امتنان وشكره مبتسماً على جزيل معروفه .. عاد الرجل إلى منزله وأغلق الباب فجلس باسل بجوارها وراح يطعمها حتى امتنعت عن تناول المزيد فبدأ في تناول طعامه هو أيضاً .. تعجبت عندما صنع شطيرة كبيرة واحتفظ بها بين ملابسه ..
غمغم مبتسماً لنظراتها التي تعلقت به :- الرجل كان كريماً جداً .. أنا أيضاً شبعت
- هل شبعت بالفعل ؟
- بالطبع ..
رمقته في عدم اقتناع فأردف ليتخلص من نظراتها :
- إن كنتِ أفضل الآن يمكننا أن نبدأ السير
نهضت وتعلقت بذراعه ليلحقا بأقرب محطة تتوقف عندها الحافلة .. شعرت بأنها مشت مدناً قبل أن تغمغم في إنهاك
- وماذا بعد ؟ وكأن هذا الطريق لن ينتهى أبداً
- راودني الشعور ذاته عندما كنا في الحافلة .. فما بالك عندما يكون الأمر سيراً على الأقدام
- ماذا تقصد ؟
- بقدر تعاطفي معكِ .. أجدني شامتاً بكِ
لكمته في مرح وأسرعت تعدو لتغريه باللحاق بها .. فابتسم وسايرها عدواً حتى فعل بعد خطوات قليلة .. أضاءت عيناها الظلام وهى تضحك قائلة :
- أنت قوى جداً على عكس ما تتظاهر به
نظر إليها ولم يعلق فأردفت :
- تبدو ضعيفاً لدرجة الجبن أحياناً
- الضعف والجبن من وجهة نظري مختلفان عن اعتقادك بهما
تأبطت ذراعه وتطلعت إليه في فضول فأردف مبتسماً :
- لا يوجد أضعف من رجل عجز عن حكم نفسه وترويضها
- تتحدث كالفلاسفة .. إلى أي حد وصل تعليمك ؟
- بكالوريوس تجارة
ابتسمت قائلة :
- أنت جامعي إذاً ..!
مدت يدها لتصافحه وأردفت :
- فنون جميلة
- تشرفت بمعرفتك
استمرا في الثرثرة والضحك بصوت مرتفع علهما يقتلان الملل الذى بدأ يتسلل عنيفاً بينهما .. أنهكت وراحت تجر أقدامها في إعياء حتى جلست فجأة في منتصف الرصيف .. جلس بجوارها من دون تردد فهتفت مبتسمة :
- هل تعبت أنت أيضاً ؟- ليس بعد .. ولكن لا بأس من بعض الراحة
فردت جسدها لترقد فوق الرصيف .. تثاءبت في كسل وأغمضت عينيها قائلة :
- ماذا سيحدث لو غفونا هنا قليلاً ؟ لم ننل قسطاً وافراً من النوم منذ فترة طويلة
شعرت بكونها ثرثرت كثيراً ولكنه ظل ساكناً وكأنه لم يسمعها فنهضت لتنظر في وجهه قائلة :
- ظننتك نمت بالفعل .. بماذا تفكر ؟
أجابها في جدية :
- أفكر في استئجار إحدى الشقق المفروشة .. الإقامة في الفنادق سوف ترهقنا مادياً وجسدياً أيضاً .. خاصة وأننا قد نضطر للإقامة هنا فترة طويلة.....
- ألن يكلفنا هذا مبلغاً كبيراً ؟
- ليس أكبر مما ننفقه على الفنادق والوجبات الجاهزة
- هل تقصد بأننا سوف نطهو وجباتنا في المنزل
- بالطبع
- وهل تجيد الطهى ؟
- نعم .. وسوف أعلمك
- وكأنني سأطهو لكَ..!
- سأطهو لكِ أنا أيضاً
- لا أريدك أن تطهو لي .. الوجبات الجاهزة أكثر ضماناً
- وما الذى يضمنها .. محتوياتها مجهولة المصدر أم النظافة المطلقة للقائمين بإعدادها ؟
- يا لك من مزعج .. !
ابتسم صامتاً فنهضت وشدته بالقوة حتى طاوعها إلى جذع شجرة عملاقة نبتت منذ زمن على يمين الرصيف قبل أن تعاود الجلوس قائلة :
- استند بظهرك هنا وافرد ساقيك لأضع فوقهما رأسي .. الأرض صلبة وغير مريحة
- حسناً .. ولو أنني أعلم أن رأسك أصلب منها
عادت تهمس بعد قليل :
- مرر أصابعك فى شعرى حتى أغفو أسرع
ضحك وهو ينفذ ما طلبته منه قائلاً :
- يا لكِ من قطة مدللة ..!
تنهدت قائلة :
- خورشيد كان يفعل ذلك دائماً
أبعد أصابعه في عصبية كاد معها أن يقتلع شعرها من جذوره فصرخت وهى تنهض لتوبخه :
- هل جننت ؟
- حذار أن تذكري اسمه أمامي مجدداً
- لماذا ؟
- لأنني .. لأنني .. يكفى ما فعله بكِ لأكرهه
تطلعت إليه متفحصة وعادت تسترخى كما كانت .. أسندت رأسها مجدداً فوق ساقيه وهى تشير إليه محذرة .. فعاد يمرر أصابعه بين خصلاتها في نعومة هامساً :
- أحياناً أتمنى أن تكون وفاته شائعة غير حقيقية
- أحقاً ؟
- نعم .. حتى أعاود قتله بنفسي عندما تتاح لي الفرصة
سالت دموعها ونهضت لتبتعد عنه .. رمقها في دهشة وتسمر في مكانه يراقبها وهى تركض ساخطة .. لم يكن خبيراً في الحب ولكنه سمع كثيراً عن لعنة الحب الأول .. ويبدو أن علاقتها بذلك الطاغية لم تكن تقتصر على الجسد وحده .. لماذا تغضب هكذا لأجله ما لم تكن قد أحبته بالفعل ؟!هل مات خورشيد وترك لعنته حية في قلبها ؟
أنت تقرأ
في قبضتي
Short Storyتطلع إلى نفسه فى المرآة ساخطاً : ما جدوى كل هذه العضلات المفتولة إن كانت المرأة الوحيدة التى يريدها لا ترى فيه رجلاً ..؟! نعم .. سيحيا عبداً لعام واحد .. واحد فقط .. سيعيش فيه العبودية ويستسيغها بكل مرارتها وآلامها .. سيتقبل الهزيمة بقلب رحب ما دامت...