12- خائفة ....
انتظم في الأيام التالية بتدريباته مع أوسكار .. التزم بتعليماته كاملة حتى تولدت بينهما حميمية قوية .. وكأنه يعرفه منذ زمن رغم كونه بالكاد أكمل الأسبوعين معه .. شعر بالزهو وهو ينهل من إعجابه به يوماً تلو الآخر .. كان الرجل يعرف مكامن قوته ويبرزها بلا جهد .. حتى في نقده كان إيجابياً مقنعاً .. تلافى نقائصه في حنو أرغمه على بذل المزيد من الجهد لنيل رضاه أكثر من أي شيء عداه ..
للمران معه مذاق ممتع يختلف تماماً عما كان عليه أيام ذلك الحاقد التافه .. أدرك للتو كم كان مخطئاً عندما ضيع من عمره خمسة سنوات كاملة .. بذل فيها كل طاقاته لنيل بعضاً من تعاطفه بلا جدوى .. شفيق كان خصماً حتى في توجيهاته ونصائحه .. كان يتصيد أخطاءه ليبكته عليها كلما أمكنه .. وفى شماتة عدو لا شريك مصلحة ..!
ولكن لا بأس .. فلولا تمسك ذلك الوغد بذلك الكم الهائل من التمرينات اليومية الشاقة التي أراد بها تعجيزه .. ما كان أوسكار أعجب به من الوهلة الأولى .. ولولا محاولاته المستميتة لأثبات صلاحيته وأحقيته في الأفضل .. ما كان وصل أبداً لما وصل إليه من هذه البنية العضلية الصلبة ..
إن كان شفيق قد أراد به شراً فالله العادل حوله خيراً رغماً عنه ..
كان قد اغتسل وبدل ملابسه عندما اقترب أوسكار ليربت على كتفه قائلاً :
- أحسنت يا بطلى .. جهز نفسك للانتقال بعد غد إلى المعسكر
اتسعت عينا باسل في تساؤل مشحون قلقاً .. فأردف أوسكار موضحاً :
- ستقيم العشرة أيام الأخيرة هناك
- أتقصد إقامة دائمة .. ليل نهار ؟
- نعم .. ما المشكلة ؟
- ألا يمكنني أن أغادر المعسكر بعد انتهاء التدريب .. على وعد بالعودة إليه قبل أن يبدأ في اليوم التالي
هز أوسكار رأسه قائلاً في حسم :
- مستحيل
صاح باسل في عصبية لم يستطع التحكم فيها :
- المستحيل هو أن أترك ندى وحدها في الفندق
- باسل .. هناك قواعد عليك الالتزام بها
- أعلم .. ولكن .. عشرة أيام كاملة .. من سيعتنى بها ؟
- وكأنك تتحدث عن طفلة ..! ندى كبيرة بما يكفى لتهتم بنفسها دون مساعدتك
- ربما كانت كبيرة سناً .. ولكن داخلها طفلة مدللة .. لا تجيد حتى إطعام نفسها في غيابي
ابتسم أوسكار فى تهكم فانتبه باسل إلى أنه تمادى كثيراً في إظهاره لمشاعر كان الأجدر به لو احتفظ بها لنفسه
تقبلت الأمر صامتة وإن كانت ملامحها أظهرت ضعفاً وحزناً زاده قلقاً على مصيرها في غيابه .. سقط قناع الاستقلالية الزائفة التي توارت خلفه مؤخراً .. شجاعتها كانت تمثيلاً لا أكثر .. نزهاتها اليومية بمفردها حول الفندق كانت فقط ليقينها بأنه قريب منها .. ولمعرفتها بأنه لن يتأخر عن نجدتها متى طلبتها منه ..
ولكن ماذا بعد أن يصبح أسيراً لمعسكر مغلق مغادرته ليست بيده .. ؟ إن كانت هذه هي بداية طموحه فهل عليها أن تخسره هو أيضاً مع من خسرتهم جميعاً من قبل ؟
أمسك يدها في إشفاق واغتصب ابتسامة قائلاً :
- عشرة أيام ليست بالفترة الطويلة .. ستمضى سريعاً كالبرق
- متى ستتركني ؟
- ندى .. أنا لن أتركك أبداً
- متى ستذهب لذلك المعسكر ؟
- بعد غد
صمتت في وجوم فأردف في لوعة :
- لو الأمر بيدي .. صدقاً ما كنت تركتك
هتفت في ثورة :
- كلكم تقولون ذلك ثم تتركونني في النهاية .. أنت لا تختلف عن خورشيد .. الأمان الذى وعدتني به سراب لن يدوم طويلاً .. لم يكن إلا وهماً .. الخطر يطاردك أنت أيضاً .. حتى ولو كان طموحاً تسعى إليه .. كلها مسميات لنهاية واحدة ..
أجهشت بالبكاء فضمها إلى صدره ومسح على شعرها في حنان .. هم أن يكرر على مسامعها عبارات كررها كثيراً حتى حفظتها وما عادت لتقنعها .. صمت طويلاً حتى انتهت من البكاء وهدأت .. رفع وجهها لتواجهه .. جفف دموعها بأصابعه قبل أن يقول مبتسماً :
- أنت لست في حاجة لمن يهبك الأمان .. ستكونين أكثر طمأنينة لو فهمت أن الأمان في حد ذاته مسئولية قبل أن يكون إحساساً بالراحة
ابتعدت عنه قائلة في سخط :
- ما أسهل الوعظ عند نقض العهود ..!
- أنا لا أنقض عهدي معك ولن أنقضه .. فقط أريدك أن تعلمي بأن الأمان منبعه أنت .. لابد أن يخرج منك أولاً .. داخلك لا حولك
رمقته في عدم اقتناع فأردف في هدوء :
- منذ صغرى تعلمت أن أخلق الأمان لنفسي أينما كنت .. لا أنكر فضل الكثيرين قدموا لي المساعدة .. بدءاً من والداي والعم فتحي .. وصولاً لأوسكار .. شعاع الأمل الذى أرسله لي الله في لحظة يأس
لم يتبدل السخط فوق ملامحها ولكنه تابع في إصرار :
- ولكنني في المقابل كنت أعرف دوري جيداً .. حرصت قبل كل شيء على أن أملك أساساً يقدمون فوقه مساعداتهم .. ضاعفت جهدي كي أكون أهلاً لعطاياهم حتى لا تسقط هدراً
أغمضت عينيها وتنهدت في عمق فمرر أصابعه بين خصلاتها في شراسة رجت رأسها بعنف جعلها تغضب وتبادله بوابل من اللكمات راح يصدها في مهارة حتى انتابها يأس من إصابته ولو بواحدة منها فهمدت فوق صدره استسلاماً ..
ليتها تعلم بأنها هزمته الآن ..!
جذبها فجأة ليتخلص من توتره قائلاً :
- هيا بنا
- إلى أين ؟
- أنوى تعويضك عن الأيام التي سأمضيها بعيداً عنك
تلألأت عيناها في حماسة فابتسم قائلاً :
- تمنى ما شئت
صمتت شاردة قبل أن تهتف في مرارة :
- تعال نأخذ حافلة الركاب إلى ذلك المنتزه المنعزل مجدداً
تسمرت عيناه فوقها لحظات وما لبث أن تصنع ابتسامه قائلاً :
- وماذا لو تعثرنا في العودة كما حدث سابقاً ؟
- ليتنا نبقى هناك للأبد
- في تلك المنطقة الخربة التي لا بشر فيها ..!
- غياب البشر أجمل ما فيها
أنت تقرأ
في قبضتي
Short Storyتطلع إلى نفسه فى المرآة ساخطاً : ما جدوى كل هذه العضلات المفتولة إن كانت المرأة الوحيدة التى يريدها لا ترى فيه رجلاً ..؟! نعم .. سيحيا عبداً لعام واحد .. واحد فقط .. سيعيش فيه العبودية ويستسيغها بكل مرارتها وآلامها .. سيتقبل الهزيمة بقلب رحب ما دامت...