أيها المسلمون: تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهنّ، وأجَلَّ قَدرَهنّ، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) [الأحزاب: 32]، زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.
أُولاهنّ: خديجة بنت خُويلدٍ -رضي الله عنها-: المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه.نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: "ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي"، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا.
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير -رحمه الله-: "خديجة أوّلُ خَلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة".
عظُمَت الشّدائِد على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء" (رواه أحمد).
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- منها سوَى إبراهيم.
أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب – أي: لؤلؤ مجوَّف -، لا صخَبَ ولا نصَب" متفق عليه.
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: "قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي" متفق عليه. قال ابن القيّم -رحمه الله-: "وهي فضيلةٌ لا تُعرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنّي رُزِقت حبَّها" (رواه مسلم).كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول: "إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد" (رواه البخاري).