#امــــل
.
.
مضتْ ثلاثةُ ليالٍ على وجود جهاد في منزل الحاج صالح تمكنت خلالها زوجة الحاج من معالجة جراحه واستطاع فتح عيناه ولكنه كان ضعيفاً جداً ولم يتمكن من النطق نظر اليهما ثم اغمض عينه وغطَّ في نومٍ عميق ، فَقَدَ جهاد الكثير من الدماء لذا كان لابد من نقله الى المستشفى ولكن كيف ؟ ومتى ؟ هذا ماشغل فكر الحاج واخذ يخطط لاخراجه من المدينة ونقله الى اقرب مكان آمن .
صباح اليوم الرابع فتح جهاد عيناه بعد ان داعبتها اشعة الشمس التي اخترقت ثقوب السقف ادار رأسه ونظر حوله لكنه لم يستطع التعرف على اي شيء فهمس بضعف :
_ اين انا ؟ هل من احدٍ هنا ؟
كانت زوجة الحاج تعد شيئاً من الطعام القليل الذي كان بحوزتهم وعند سماعها همهمت جهاد اسرعت اليه ونظرت الى عينيه الرماديتين و رغم كل التعب والهالات التي تحيط بهما الا انهما كانتا تنطقان بالكثير وكأنهما مرآةٌ لروحه :
_ عزيزي لقد عثر عليك زوجي بعد ان القى بك مجموعة من الرجال في خربة النفايات القريبة من منزلنا و قد كنت جريحاً وقمتُ بمعالجتك .
كان يصغي بأنتباهٍ شديد ولكنه شعر بالضباب يملئ فكره واحسَّ بأن رأسه فارغاً اردفت زوجة الحاج صالح :
_ مااسمك ياعزيزي ومن تكون وما الذي اوقعك بيد هؤلاء الظلمة الارهابيين ، لقد كنت ترتدي زياً عسكرياً ويبدو انك مقاتلاً فما الذي حصل معك ؟
فكرَّ جهاد بعمق وظل يحدقُ في السقف ولكن دون جدوى كان الضباب يحيط به من كل جانب ولم يستطع تذكر اي شيء :
_ انا لا اذكر شيئاً حتى اسمي لا استطيع تذكره .
فغرت المرأة فمها واتسعت عيناها وصرخت :
_ يا الهي لقد فقدت ذاكرتك بسبب الضربة التي اصابت رأسك .
شعر جهاد بالارهاق والتعب الشديد بسبب تركيزه على شيءٍ لا يذكره و نظر اليها بحزنٍ و ضعفٍ و استسلم للنوم من جديد و كأنه يهربُ من الضباب الذي عمَّ ارجاء ذاكرته الخالية .
شعرت زوجة الحاج صالح بالحزن الشديد لحال هذا الشاب المسكين كانت غارقة في افكارها عندما دخل الحاج الى الدار هاتفاً :
_ لقد وجدتُ طريقةً لنقله الى المدينة المجاورة .
نظرت اليه زوجته بحزن واخبرته عن الحديث الذي دار بينها وبين جهاد :
_ انه لايتذكر شيئاً ياحاج صالح حتى وان نقلناه الى المشفى ، ماذا سيفعلون له و هو لايعرف حتى اسمه .
اطرق الحاج برأسه الى الارض وفكرَّ بروية :
_ دعينا الان نرتب خروجه من هذا الوكر المتعفن وسنفكر لاحقاً بطريقة تدلنا الى اهله ، صمت قليلاً ثم اشرقت عيناه بالامل :
_ الرقم ، الرقم خلف الصورة التي عثرت عليها سأتصل على هذا الرقم .
_ ولكن من اين ستتصل لايوجد لدينا هاتف ؟
_ سأتصل من المستشفى لاحقاً .
كان الحاج قد اتفق مع صديقٍ له يمتلك شاحنة لنقل الخضار على خطة لتهريب جهاد بعد ان اخبره بقصته :
_ ولكنها مجازفة ياحاج صالح ماذا لو فتشوا الشاحنة ؟
_ لن يفعلوا لقد اصبحت معروفاً وهم يثقون بأنك مجرد سائق شاحنة لا غير .
_ سنجازف ياحاج والله ولي التوفيق .
.
.
جلس الحاج صالح عند رأس جهاد واخرج الصورة من جيبه ونظر اليها مطولاً ثم قلبها وظل يطالع الاسمين المتجاورين وفجاءة وضع يده على كتف جهاد واخذ يهزه بلطف ويهمس في اذنه :
_ جهاد ، جهاد عزيزي استيقظ حوراء بأنتظارك .
رفت اجفان جهاد بقوة عند سماعه همس الحاج وفتح عيناه :
_ جهاد هل انت بخير حوراء بأنتظارك .
ظل وجه جهاد جامداً ونطق بوهن :
_ من جهاد ومن حوراء ايها الحاج ؟
ارتسم الحزن على وجه الحاج وزوجته وعَلِمَا انه لا فائدةً ترجى من هذه المحاولة اليائسة :
_ لقد عثرت على هذه الصورة في جيب سترتك ياعزيزي .
وضع الصورة امام وجه جهاد الذي تمعن فيها مطولاً فأزدادت ضبابية افكاره وعاوده الشعور بالارهاق الشديد :
_ لا اعرفها ، من تكون ؟
اجابه الحاج بحزن :
_ ونحن ايضاً لا نعرفها ، ليتنا نعلم من تكون .
همست زوجة الحاج :
_ ياحاج لعله هو جهاد و هذه زوجته حوراء .
نظر الحاج اليها :
_ اصبتِ يا امرأة اظن هذا ايضاً ،
عاود النظر الى الفتاة في الصورة واردف هامساً :
أو لعلها خطيبته من يدري .
كان جهاد يتابع مايقولانه بفكرٍ مشوش :
_ عزيزي في الوقت الحاضر سأطلق عليك اسم جهاد ، اظن انك احد المقاتلين ويبدو ان الارهابين تمكنوا من آسرك ولكن لحسن حظك ظنوك ميتاً والقوا بك هنا والان يتوجب علينا اخراجك من هذه المدينة بسرعة لقد اتفقت مع صديقٍ لي على نقلك فجر اليوم بشاحنة الخضار التي يمتلكها لذا اخلد الان الى الراحة فرحلتك القادمة طويلة ومحفوفة بالمخاطر .
رضخ جهاد لقول الحاج دون ان يفقه كلمة مما قال فرأسه لايزال فارغاً ومشوشاً .
مرت الساعات ثقيلة على الحاج صالح وزوجته و قضيا الساعات الطوال يتأملان جهاد الغافي على السرير المهترئ .
مع بزوغ الفجر سمعا صوت الشاحنة يقترب من منزلهما فتبادلا النظرات الحزينة فقد كانت الاربع ليال التي قضاها هذا الشاب الغريب في منزلهما كفيلةً بأن يستقر في قلبيهما وشعرا بأنهما سيفارقان ولدهما الذي لم ينجباه .
ايقظ الحاج جهاد بهدوء :
_ عزيزي هيا استيقظ لقد حان وقت رحيلك ، قال عبارته ودمعت عيناه واستغرب كثيراً مما اعتراه من مشاعر حب تجاه جهاد :
_ انت مبارك ايها الشاب الغريب لقد تركت اثراً في قلبي رغم انك لم تنطق الا ببضعةِ كلمات ، انت مبارك وستنجو مما انت فيه انا واثقٌ من ذلك .
ابتسم جهاد بضعف حيث اصبح الحاج صالح وزوجته ومنزلهما المتهالك الشيء الوحيد الذي يملئ ذاكرته في الوقت الحاضر .
قام الحاج وصديقه بنقل جهاد الى الشاحنة ووضعا عليه غطاءاً سميكاً واعادا ترتيب الخضار فوقه بشكل مبعثر حتى لا تلفت تعرجات بدنه النظر خاطبه الحاج :
_ عليك بالصبر ياولدي بمجرد عبور نقطة السيطرة عند حدود المدينة سأجعلك تجلس في المقدمة .
اجابه بضعف :
_ حسناً .
_ هيا ياحاج صالح توكل على الله .
ركبا السيارة وعادت زوجة الحاج الى منزلها والدموع تجري على وجهها ولسانها يلهج بالدعاء لهذا الغريب الشاب وتمتمت بحزن :
_ وداعاً ياولدي .
.
.كانت الساعات التي تلت تحرك شاحنة الخضار الاشد رعباً في حياة الحاج صالح كان قلبه ينبض خوفاً على جهاد المسجى تحت الخضار ، حثَّ صاحبه على الاسراع وبعد ساعة ونصف من المسير المتواصل لاحت امامهما نقطة السيطرة :
_ ياحاج ارجو ان تظلَ هادئاً وحاول ان تبدو وكأنك مريض ولستَ على مايرام ولاتنطق بأي كلمة .
كانت يدا الحاج ترتجف كما قلبه :
_ حسناً ، يارب عليك توكلنا .
بدأ السائق يخفف من سرعة السيارة حتى وصل اليهم ، كانت وجوههم الساخطة تثير الاشمئزاز والرعب نظر احدهم الى السائق وبدا عليه انه يعرفه فسارع الى القاء التحية بلطف :
_ السلام عليكم ياسيدي .
اجاب بغلظة :
_ وعليكم السلام ، ارى ان معك احدهم من يكون ؟
_ انه احد قاطني المدينة شعر بتوعك وطلب مني ان أُقله الى المشفى في المدينة المجاورة .
تمعن فيهما بشدة ثم ذهب الى رجل اخر يجلس على كرسي تحت خرقة جعلوها كمظلة تقيهم حر الشمس فهمس الحاج :
_ ما الذي يحدث ؟
اجابه السائق بقلق :
_ لا ادري .
قام الرجل من كرسيه ودار حول الشاحنة ونظر للحمولة بسخط و ظل واقفاً في الخلف بينما الرجلين يرتعشان خوفاً و بالكاد يتنفسان همس السائق :
_ يا الهي ، قُضي علينا .
اشار الرجل الى صاحبه فذهب اليه تحدث معه فقام بالصعود الى ظهر الشاحنة لم يحتمل الحاج صالح المنظر واخذ يسعل بقوة وفجاءة عاد الرجل الى حيث نافذة السائق :
_ عليك الانتباه لنفسك جيداً ، هل فهمت ليس مسموحاً لك بأن تُقل اي احد بعد الان ومن الان فصاعداً سيتوجب عليك دفع ضريبة مرورك من هنا بدون تفتيش .
كان الخوف بادياً على وجه السائق المسكين ونطق بصعوبة :
_ حاضر يا سيدي سأفعل ولكني لا املك المال الكافي .
اومأ له بيده لينطلق :
_ ليس مالاً ولكن جزء من حمولتك ستذهب لاطعام المجاهدين ، هيا تحرك الان وكنْ حذراً .
سار ببطء مغادراً المكان وشعر بأن قلبه على وشك التوقف .
تنفسا الصعداء وكأنهما خرجا من معركة ضارية كان الحاج صالح يبدو شاحباً جداً :
_ يارباه ما الطفك بنا وبهذا الشاب المسكين .
_ كاد قلبي ان يتوقف ياحاج صالح .
_ وانا كذلك .
بعد مسيرة نصف ساعة وبعد ان اطمئنا ان لا أحد يلحق بهما اوقف السائق الشاحنة على جانب الطريق ونزل منها :
_ هيا ياحاج صالح سيموت هذا المسكين .
ساعدا جهاد على الترجل من ظهر الشاحنة والجلوس في المقدمة فسارع السائق الى استئناف المسير واخذت الشاحنة تنهب الارض نهباً من اجل الوصول بأسرع وقت ممكن .
عند وصولهم استقبلهم الطبيب الشاب في الطورائ و كان من الرافضين لكل الافعال الاجرامية التي تقوم بها العصابات الارهابية ولكنهم اجبروه على البقاء في المستشفى وهددوه بالقتل اذا فكر في الهروب والرحيل .
اسرع الحاج صالح ليشرح للطبيب حالة جهاد وما هي الا عدة دقائق و كان جهاد يرقد على السرير حيث طلب الطبيب من الحاج الانتظار خارجاً لحين الانتهاء من فحص المصاب لتشخيص حالته :
_ عذراً ياسيدي هل بأمكاني الحصول على هاتف ؟
واخبره بأمر الصورة والرقم .
اخرج الطبيب هاتف محمول من جيبه واعطاه للحاج :
_ بأمكانك استخدام هاتفي تفضل .
ابتسامة امتنان واسعة ارتسمت على وجه الحاج صالح :
_ اشكرك ياولدي لن انسى معروفك هذا ابداً .
طلب الحاج الرقم المكتوب في الصورة رنينٌ متواصل كان يدق كالناقوس في رأس الحاج ولكن دون جواب ارتسم الحزن على وجهه وهمَّ بقطع الاتصال عندما تناهى الى مسامعه صوتٌ ملائكي :
_ الو ، نعم .
.
.
أنت تقرأ
امــــل
General Fictionتحكي قصة التضحية والجهاد والتوكل على الله والتوبة والانابة اليه.. امل قصة بزوغ فجر الامل بعد ليالي العتمة الطويلة .. تابعونا فبكم نستمر ونمضي .. للكاتبة ندى يعرب