27- الحركة الأولى

83 11 33
                                    

#منذ عامين
جلست على سريرها و في أذنها سماعتها على اعلى صوت بموسيقى عميقة تلمس فؤادها فتقلب فيه المواجع. لم تقدر على رؤية أي فرد من أسرتها ولا تحتمل النظر إلى وجوههم الشاحبة و الحزينة التي تؤكد بكل نظرة رحيله. ترغب لو تنزل السلالم فتجده جالس في بيته القريب منهم على الكرسي الهزاز في التراس كعادته و يقرأ كتاب من كتبه فتقفز إلى جانبه و تقرأ معه قبل إنهاء القراءة بجملته الشهيرة

"يموت المُعلِم ولا يتعَلَم" (هذا مثل مصري) لقد حسها دائما على القراءة و قد فعلت فعلاً. لكنها في ذلك اليوم لم تعرف كم سوف تعشق الكتب و رائحتها و ملمسها لأن كل شئ فيهم يعيد ذكراه لها، ذكرى جدها العزيز. سمعت طرق الخدم على الباب لطلب حضورها للعشاء و كعادتها طردتهم و فشلت كاترينا هي و نايت في إقناعها بالنزول للعشاء بعدما فاتها وجبة الفطور و الغذاء بالفعل. تنهدت و اتجهت إلى مكتبها حيث سحبت ورقة و قلم رصاص وجلست بالموسيقى في أذنها ثم بدأت تكتب ما يجول في خاطرها

'حين تحدثنا عن الموت يا جدي، أكنت تعرف أن نهايتكَ قريبة؟ قلت لي دائماً أنه أصعب شئ في الموت ليس الفراق في حد ذاته، بل التعايش مع فراغ الفراق وكلما تعلقنا بالمتوفي كلما تصاعد التحدي. وقتها قلتَ أنه عليَّ التحلي بالقوة و الصبر، أكنت تحدثني الآن؟
أتذكر في أحد الأيام تحت نخلة بيتك الذي بفرنسا سألتُك عن الموت نفسه، سألتُكَ عن فلسفة الموت و كيف يَختار. لا أتذكر أغلب كلامك يا جدي لكني أتذكر أهمه... أتذكر ما لمس روحي و أود لو أراكَ الآن فأسأله لكَ.
يومها قلتَ لي أن أسلوب الإختيار هو معضلة يتم حلها، لكنكَ مُتأكد أنه ليس هناك متوفي واحد مات قبل تأدية دوره في الحياة فكلنا خُلقنا لهدف و إذا تم هذا الهدف مات الهادِف وإلا أُخِلَ التوازن. يومها زرعت في سؤال عن من أنا؟ قلت أنه في لحظات المرئ الأخيرة هو يستعيد أهم ذكرياته ومنها يحكُم على ذاته بنفسه. فيرى بعينه فيما أفنى عمره، ما الذي حققه حتى مماته و هل كان يستحق، والأهم أنه يرى أي نوع من البشر كان هو... أكان عادل أم ظالم، كان مجرم أم مُنقذ، كان محبوب أم منبوذ.

#الآن
رفعت عينها الفضية للكتلة السوداء التي سوف تقتلع رأسها قريباً. إنها النهاية و لم تجد مفر سوى الإستفادة من آخر لحظات حياتها بالتفكير و التسائل بصمت

"هل أديتُ هدفي في الحياة؟ هل فعلت يوانا؟ يا ترى من كُنت في حياتي و ماذا فعلتُ بها." رفعت نظرتها إلى نايت "آسفه نايت... أبي... أمي... كاترينا"

"يا حمقاء" فتحت عينها و نظرت خلفها يساراً حيث وجدت أسود الرأس يهز ذيله البني بقوة في غضب و أنيابه حادة بزمجرة تحدي. أمامه المستذئبة السوداء على الأرض بعدما نطح صدرها بقوة برأسه فدفعها بعيداً نسبياً. أخذت وهلة تدرك ما يحدث قبل رفع رأسها للسماء و الإبتسام

عبيد أم أمراء؟حيث تعيش القصص. اكتشف الآن