المقدمة
دخل إلى غرفة أمّه بخطواته الهادئة الرزينة وانتظر قليلا حتّى تتمّ صلاتها، وما إن ألقت سلامها ذات اليمين وذات الشمال حتّى نظرت له بقلب متقطّع تكاد تقرأ ما سينطق به بعيون قلبها واضحا في عينيه
مدّت له ذراعها فتلقفها وانحنى لها مقبّلا بينما يجلس بجانبها تكاد دموع القهر والألم تتفطّر من عينيه، مدّت كفّها تداعب وجنته الخشنة: شو خلص حجزت وعزمت النيّة على السفر؟!
أمسك عمر كفّيها وقال بصوت متحشرج: سامحيني يا ست الحبايب بس خلص مش قادر، أنا بموت... بموت كلّ ما ألمحها قدامي، أنا قدّامي دراسة ومستقبل، قدّامي كتييير لحتّى أقدر أفتح بيت وأستقرّ، كيف... كيف متزوج ولسّة بمد إيدي إلكم آخد منكم مصروفي... كيف بدّي أكون زوج وأنا ما معي أأمنلها أبسط مطالبها...
بكت عندها أم أحمد مشفقة على حال ابنها وآخر العنقود وقالت تحاول ثنيه عن قبول تلك المنحة التي سعى لها ولأشهر طوال: بس يا ماما أنا وإخوانك...
قاطعها عمر قائلا: بعرف... والله بعرف إنكم مش مقصرين ولا راح تقصروا... بس وين احترامها إلي راح يكون ولا حتّى احترامي أنا لنفسي... صعب... صعب كتير... بعدين أنا... أنا طول عمري عندي طموح علمي بدّي أحققه وإنتي ماما أعلم الناس بهالإشي... الله يخليكي لا تزعلي مني وسامحيني... بعدين شو نسيتي إنّه يوسف لاحقني أوّل ما تزبط الفيزا تبعته؟!
هزّت أم أحمد رأسها تندب حالها وأولادها عفاريت الهجرة تلاحقهم وكأنّها قدر كتب على كلّ أولاد أبو كرم... احتضنته أمّه بشوق مبكّر وأجهشت بالبكاء فوصايه أبيه قد كبر وقرّر مفارقة السرب وقطع الحبل السريّ الذي استطال بينهما حتّى بلغ من الطول ثمانية عشر عاما....
شارك عمر أمّه البكاء وعقل حاله بتمتم "الله يسامحك يا أبوفيّاض... الله يسامحك يا أبو فيّاض"
وفيما كلاهما مشتاقان قبل الفراق كلٌ في حضن الآخر كانت روح أخرى ترقبهما تائهة تبكي والذنب يثقل قلبها لكنّها لا تدري أيّ خطأ ذاك الذي ارتكبته
.................................................. .................................................. .................تتزايد نبضات قلبها ارتفاعا مع كلّ رنّة تصدر من هاتفها القابع في حقيبتها الفضية الصغيرة المرمية بإهمال على سرير زوجيّتها الجديد، تخشى إخراجه من مكمنه فيخرج لها عفريت صاحب المكالمة الذي ينبئها حدس قلبها أنّه هو...
بيدين مرتجفتين بدأت بخلع ثوب زفافها بينما تحمد الله أنّها تركت عريسها خارجا لتستعد لليلة عزاءها القادمة وإلّا لكان لاحظ إلحاح الرنين في هاتفها... ذلك الرنين الذي يكاد يخلع قلبها هلعا على نفسها و حزنا على صاحبه
قرّرت مي في لحظة تصميم أن تقتل كلّ مخاوفها وتغلق هاتفها في وجهه معينة نفسها على إخلاص مفروض عليها ابتداءا من الليلة، وبدايته إغلاق كلّ مصاريع ذاكرة قلبها على معتز بكلّ صخبه وجنونه وكلّ ما كان
ولكنّه الجسد الذي لطالما كان مسيّرا بهوى قلبه من عصاها كما اعتاد دوما أن يفعل عند أوّل إشارة منه، فتحرّك أصبعها دون حتّى أن يحذّرها ، فما إن أمسكت الهاتف بيدها حتّى تحرّك أصبعها نحو اللون الأخضر في يسار الشاشة بدلا من ضغظ زر الإغلاق، ولم تدرك ميّ حقا ما فعلت حتى سمعت هدير صوته يكاد يصعق قلبها في جوّ الغرفة المشحون
ارتجفت يدها هلعا ووضعت الجهاز النقال على أذنها تكاد تلصقه وصوت القرع في يسار صدرها يعوّق من عمل جهازها السمعي وما كادت أنفاسها تصله حتّى هدر بصوته قائلا والمعاناة والرجاء تتقطران من صوته: مي... لا تخلّي يلمسك... مي... انتي مرتي انتي الي...
قاطعته بصوت هامس والرعب والألم يتنازعان بينهما أيّهما سيحمل الراية أطول مدّة ممكنة: معتز يا مجنون... شو بدّك منّي... إنت بدّك تخرب بيتي؟!!
انتفض معتز هائجا يقاوم تلك اليدين اللتين تكبّلانه بقوّة فيضعفهما: بيتك بيتي... بيتك أنا... اطلعي... مي اطلعي حبيبتي من بيته... أنا هيني برة واقف بستناكي قبال البناية... اطلعي ولا تخافي
شهقت مي بصدمة وامتصّ الخوف منها دماءها كلّها دفعة واحدة وركضت إلى حيث النافذة الوحيدة بالغرفة لتجد معتز يقف أمام سيّارته مهتاجا يتحرّك بعشوائية عنيفة بينما يحاول يوسف تكبيله والحدّ من جنونه والتي هي أدرى الناس بمدى استحالة ذلك
نفضت مي عنها صمتها الشاحب وهمست بإرتعاش: معتز مش وقت جنونك هلأ... وين بدّك إيّاني أطلع؟ بيت شو اللي بيتي... أنا من اليوم صار هون بيتي وفادي جوزي... أمّا إنت... إنت الحرمة بيني وبينك صارت أبدية...
شاهدته يتحرّك بخطوات هائجة ويلوّح بذراعيه بعنف بينما نظراته تمسح نوافذ الطابق الثاني بجنون علّه يلمح ظلّا لها فيثور لها قلبه: راح ألاقيلها فتوة بس ميّ الله يخليكي اطلعي... لا تخلّي يلمسك إنتي إلي...
شهقت مي وقطرات المرارة باتت تدغدغ طرفيها تهدّد بالإنفلات والإعلان عن فضيحة: أي فتوة معتز أي فتوة... ما ملّيت من كتر الفتاوي اللي طلّعتها خلال سنة ونص زواج... معتز... طلاقنا المرة هاي كان باااائن بينونة كبرى فاهم شو يعني بينونة كبرى؟ بعدين فتوة شو وإنت ناوي تتزوج وبتدور على عرو...
انتفضت مي قاطعة جملتها وانتفض معها قلب ذلك الواقف بالأسفل يتتبع ظلّا لها على اثر فتح باب الغرفة بشكل عنيف ومن بين نبضات قلبها المتقافزة خوفا بفعل اقتراب خطوات زوجها المهدّدة سمعت ذلك الصوت يأتيها من بعيد صارخا: مي... لا تخلّي يلمسك... مي... اتركها يا حقيير
صرخ بها معتز بينما يسمع الصوت الرجولي الآخر الخشن يهدر فيها ببرود قبل أن يرى ظلّها ينتزع بعنف من خلف الستائر تحجب عنه الرؤيا تماما وطبقة جديدة كثيفة تنسدل على النافذة ليبدأ الصراخ بألم وتخيّل ما يحصل داخلا تقمع كلّ ما لديه من تعقل أو شبه تعقل... اتجه بخطواته المجنونة نحو البناية ليقوفه يوسف بعنف وويباغته بضربة على معدته علّها توقف جنونه بينما يصرخ به: حلّ عنها اتقي الله فيها وخلّيها تعيش حياتها زي الخلق مش بكفي إنت جنّنتها
شدّه معتز من قميصه بعنف وقال بعيون محمرّة متفجرة: مرتي يا يوسف حرام عليكم مرتي
أبعد يوسف ذراعيه عنه بعنف وصرخ به: جاي هسة تحكي مرتي بعد تلات طلقات... مي هسة عذمة زلمة تاني برضاك أو غصب عنّك حلّ عنها وخليها تعيش حياتها بعيد عنك وعن جنونك
اهتاج معتز اكثر وبدأ بضرب يوسف بشكل عشوائي ويصرخ به قائلا: تحكيش عذمة زلمة تاني... هاي مرتي مرتي... غصبن عنكم كلكم مرتي... مي... مي!!
لطمه هذه المرة يوسف على وجهه ليخرجه من أزمة الجنون التي حلّت به ويتوقف عن فضح مي في مكان سكنها الجديد وقبل أن يردّ له معتز الضربة كانت سيّارة الشرطة قد توقفت عندهما وسألت: مين فيكم معتز؟
نظر له كلاهما وقال معتز: أنا خير شو في... شو صار مشتكي عليّ الـ***
نظر لهما الشرطيّ يحاول تقدير الأمور بينهما وقال: لا والله طليقتك اتصلت واشتكت عليك
طعنة شقّت صدره توغّلت فيه لينظر للأرض لا يرى منها شيئا وتشوّش يمنع عنه الرؤية...
نظر له يوسف بأسى وبتعاطف فهو خير من يفهمه فلا أقسى من زواج فتاة داعبت أحلامك يوما فكيف إن كانت زوجة عشقتها حدّ الألم وامتلكتها حدّ الجنون وخسرتها حدّ التمزق قهرا... مدّ يوسف كفّه وشدّ على كتف معتز وقال ناظرا للشرطة: طيب شو بتستنوا عشان توخدونا؟
نظر له الشرطيّ وقال: ليش إنت شو دخلك الشكوى عليه هو لحاله؟!
أجابهم يوسف بابتسامة بينما التقطيبة تزداد رغما عنه على جبينه وغصّات الألم تتوالى على قلبه مع الذكرى... ذكرى دموعها التي دوما ما تزوره مباغتة في أحلك الأوقات وأكثرها تعرجا: ضربته... صح أنا ضربتك يا معتز وبدّك تشتكي عليّ؟
ابتسم معتز ومعه الشرطي وقال: طيّب إذا هيك تفضلوا انتوا التنين شرفونا عالنضارة
ضحك من بعدها معتز... بل قهقه... ودموع القهر تنزف من عيونه رغما عن أنف كبريائه، فيتجاهلها كلاهما ويدّعيان العمى... يوسف والشرطي!
.................................................. .................................................. .................بعد أعوام
تجولوا ثلاثتهم في أروقة مطار الملكة علياء الدولي يبتسمون في هدوء يتمزقون في جنون ينهون معاملات دخولهم إلى حيث الوطن... الأم والأهل و... الحبيب
خرجوا متفرقين بالأعوام وإن اجتمعوا في ميعاد الرجوع، لكنها سبعة من حيث بدأ كلّ شئ... سبعة من الأعوام مذ عاد صغيرهم يمسك في يده دمية... بل زوجة... سبعة منذ اجتمع بميّ برباط مقدّس واكتشف أنّه لم يكن حقّا وطيدا كما يظنّون... سبعة منذ تركها على طاولة المقهى تبكي لتبكيه من بعدها دما يتجرّعه في أقداح الندم المريرة...وفي ذات الوقت... في مطار مختلف بذات البلد... فاتنة بشعرها القمحيّ وعيونها السماوية، تجرّ في يدها طفلا يبلغ من العمر ست... ومن بوابتة خرجت تلفحها شمس العقبة الحارقة المحملة بنسائم البحر المالحة... بذات هدوءهم وذات الصخب... لا عجب... فهذا ما يحدث... عندما يعشقون صغار!!
.................................................. .................................................. .................قراءة ممتعة..
يتبع...
أنت تقرأ
عندما يعشقون صغاراً(الجزء الثاني من سلسلة مغتربون في الحب)مكتملة
Romanceرواية بقلم الكاتبة المتألقة نيفين أبو غنيم.. الجزء الثاني من سلسلة مغتربون في الحب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة نيفين ابو غنيم..