الفصل الثالث

4.9K 114 2
                                    

الفصل الثالث

"أين الطفل آنجلا" سأل عماد بينما يبحث بعينيه بأرجاء الشقة علّه يجد له أثرا يخبره أنّ بضعته موجودة حقّا وليست مجرّد وهم
تأملته آنجلا بينما هو لاهٍ عنها وإحساس غريب بالانقسام والفقد أحاطها، لقد كانت سبعة من السنوات آنجلا... سبعة... ألم تكن كافية لك لتدركي أنّكما ما عدتما كيانا واحدا وأنّ كلّ ظنونك ما كانت إلّا أوهاما وكلّ جهودك ما كانت إلّا للاشئ، والآن بتّ تعلمين جيدا أنّ هذا الرجل ما عاد لك... أوشكت دموع أخرى أن تنسكب من مقلتيها ولكنّها نهرتها أن اجمدي أما بكيتيه كفاية وما كانت آخر دموعك عليه سوى منذ أيّام عندما تيقنت أنّه أصبح لأخرى!!
رأته ينهي جولة عينيه السريعة حول الشقة البسيطة المتواضعة التي لم تهتم حقّا بتفاصيلها وخاصة أن لا نية لديها للبقاء طويلا فكلّ ما تمتلكه هو شهر ونصف... ستة أسابيع فقط لا أكثر
قاطعت تساؤل عينيه وأجابته: يصلّي
بوغت عماد وسألها هامسا: هل هو حقا مسلم؟
أجابته بقهر والغبن يطرق شغاف قلبها الذي قدّسه يوما: ألست كذلك؟
لم يمتلك عماد إلّا أن يتأملها هذه المرة ونظرة امتنان ترتسم واضحة في عمق عينيه يتسائل بينه وبين نفسه كيف جرؤ يوما أن يعتبرها جزءا من فترة انتقالية قهرية كان عليه أن يمرّ بها ليعود بعدها لأهله متشوقا نادما راميا إيّاها مع كلّ ما فات... ما فات لم يكن حقّا خوفا قضاه خارج حدود الوطن... خوفا من سجن ينتظره هنا بالأردنّ... ما فات كان xxxxا للنسيان... فيتامينات ومقوّيات تمدّه بالقدرة على المواصلة، وما إن تمّ الشفاء حتّى كان لزاما عليه أن يوقف كلّ العقاقير وكانت هي احداها... هي فرضت عليه أن تكون... أو هكذا كان يظنّ
آنجلا كانت فعلا نوعا من المهدّئات... المسكرات... فقد كان لها ذات التأثير... نهارا... أمّا ليلا فلم تكن لها تلك القدرة للتسلل إلى أحلامه... هدهدة كوابيسه... مطاردة أشباحه هناك بالوطن لذلك كانت هي دوما خارج حدود الوطن... حيث روح معلقة برقبته وشرف حبيبة توعّد بستره وبكلّ نذالة تخاذل عندما انهار بعدها مريضا بضعف تاركا لغيره مهمة تحمل ذلك العبء ليفرّ بعدها بطيش خائفا من حبل مشنقة لن يكون دونه وإيّاه سوى اعترافات بفضيحة ستنالها وليكمل بعدها الفرار من الذكريات فهناك في ألمانيا كلّ شئ كان يبدو مشوّشا... بعيدا جدا... منسيّا إلى حدٍّ ما حتّى جاء كرم ليذكّره من يكون... وكان من بعدها ما كان
لكنّه بوقتها ما كان يعلم أنّ الربط ما بين عماد و"إيماد" ممكنا وأنّ بين البلدين وصل إن لم يكن أرضا ففي السماء... وأنّ بذرته قد تغرس بل وتزهر في أرضهم الباردة ولكن لا عجب ودفيئة ملائكية كانت تحتضنها
"دلّيني عليه آنجلا... نادي لي ابني؟"
قالها ودفءٌ غريب يتسلّل لقلبه ظهر واضحا بصوته أسال دمعة من طارف عينها حاولت مداراتها عن عينيه اللماحتين بالتحرّك هربا إلى داخل الشقّة بينما تجيبه ببحّة مرتجفة: لقد قلت لك... "آبد الله" ليس هنا، لقد ذهب إلى الصلاة
بذهول وتقطيبة حاجبين أجابها بينما يكتم بقلبه ضحكة على طريقة نطقها للاسم: الصلاة!
التفتت إليه تستغرب الذهول البادي عليه لتبتسم بعدها بفخر وإدراك: نعم صلاة "تراويه"
ازدادت تقطيبة عماد وقال: التراويح؟!! كيف؟ لم أر مسجدا قريبا كفاية لطفل في عمره هنا؟ أين بالضبط أخذته ليصلّي؟
هزّت آنجلا كتفيها بلامبالاة وقالت: لا أعرف أين مكان المسجد بالضبط
جميع خلايا جسده استنفرت بينما يحاول أن لا يحافظ على هدوءه ويبقي صوته منخفضا وقال: كيف لا تعرفين آنجلا؟ كيف تركته يذهب وحيدا؟
نظرت له آنجلا ببعض الغضب والهزء فهل أصبح مهتما الآن؟ هل بدأ يقلّل من قدرتها على العناية بالطفل؟ هل بدأ يتهمها بعدم المسؤولية؟ لقد كانوا على حقّ عندما حذروها من اخباره... لقد حذّرها الجميع من أخذه لوالده، لقد قالوا لها بالضبط أنّ لا قانون يسمح لأم مسيحية بحضانة طفل مسلم وأنّها ما إن تخبره به حتّى يأخذه منها لا سيّما وأن لا قانون في المانيا سيضمن لها حقا بالاحتفاظ به وقد تزوجها عماد زواجا شرعيا إسلاميا لا تطاله القوانين الالمانية... لكنّها كانت مضطرة... كان عليها القدوم الآن... فعبد الله كان محتاجا... بشدّة... أن يرااااه
"أجيبيني آنجلا، هل أنت مجنونة؟ كيف تتركين الطفل يخرج وحيدا بمكان لا يعرفه؟"
ابتسمت هذه المرة باستهزاء وقالت: ماذا إيماااد هل تحرّكت عواطفك الأبوية بهذه السرعة؟ حسب ما أعرف فقد أخذت هذه المشاعر أسبوعا كاملا كي تطالبك بالتحرّك بحثا عن ابنك، أم أنّك قرّرت أنّ خير وسيلة للدفاع هي الهجوم وأنّ خير ما تبدأ به هو البحث عن أخطاء في سلوكي مع الولد؟!!
احمرّ وجه عماد الأبيض يكظم غيظه وقال: آنجلا لا وقت الآن لتقلباتك العاطفية غير المفهومة فقد اكتفيت منها قبل سبع سنوات، هل تخالين نفسك في مدينة للملائكة حتّى تتركي الولد يذهب وحيدا؟!
نظرت له آنجلا بكلّ برود وجلست ببرود أكبر وقالت: لم لا... ألسنا في بلاد للمسلمين؟ أما كنت تقول لي أنّ المسلم يخشى الله؟ أما كنت تقول لي أنّ في بلادكم يعمّ الأمن والأمان؟
ألجمت لسانه وعقله... لا ينكر ذلك، لكنّه سرعان ما استعدّ لاخبارها أن لا وقت لهذه المناقشات التي لا بدّ ستطول وأنّ "عبد الله" أهم من كلّ ذلك الآن لكنّها أوقفته حالا وقد قالت: لا تقلق عماد أنا لست ساذجة لأصدّق أنّ الناس هنا من الملائكة وأنّ كلّ المسلمين إمّا طيبين أو سيّئين.. أنا لم أنس ما علّمتني إيّاه ايماااد.. أما عن "آبد الله" فاطمئن هو لم يذهب وحيدا... هو في أيدٍ أمينة أنا واثقة
قطّب عماد وصدمة كلماتها تعبث بأفكاره: أيد أمينة؟! من؟ ومن أين تعرفينها هذه الأيدي الأمينة؟ ثمّ ألا تعلمين أنّ صلاة التراويح قد انتهت منذ ما يقارب النصف ساعة وعبد الله لم يظهر بعد؟
نظرت له آنجلا بلامبالاة قبل أن تقوم وتتجه صوب ماكنة صنع القهوة السريعة: بل أعلم ايماد ولا أهتم فـ"آبد الله" لن يكون أكثر أمنا مع أيّ شخص آخر كما هو الآن
اقترب منها عماد بغيظ وقال: تتلاعبين بي آنجلا... لا يهم... لا تخبريني بشئ... سأذهب للبحث عنه في كل المساجد القريبة
حينها فقط قرع جرس الباب لتشع ابتسامة آنجلا من جديد وتركض نحو الباب وكلّها لهفة لتقول: لا داعي لذلك هاقد عادا!
جميع الخلايا في جسد عماد تحفزت بينما آنجلا تفتح الباب ولا إراديا توجّهت نظراته أولا نحو الصغير... صغيره هو... شعور غريب دافئ سرى في جميع حنايا جسده ليصبّ أخيرا في مكان واحد حيث يسار صدره ليشعر به يغلي ويغلي حتّى لكأنّه بدأ بالتبخر ليتصاعد إلى حيث اللاحدود فيتساقط شوقا غزيرا وحنانا هادرا واحتياج... لم يعتقد يوما أنّه يحتاج ابنا حتّى رآه متجسدا حقيقة أمامه الآن
دموعه التي أوشكت على التساقط سرعان ما تبخّرت ما إن سمع صوتها من بعيد يقول: هل استمتعت بوقتك حبيبي؟ أرجو أن لا يكون قد أتعبك بكثرة أسئلته وفضوله الذي لا ينتهي
لكن من توجهت له بالسؤال، لم يكن ينظر اليها... بل هناك... إلى حيث ولده الذي كان في هذه اللحظة بالذات يرفع بصره بحدّته وفضوله وغضبه من الصغير.. إليه... يودّ معرفة صاحب الأيدي الأمينة، لتتبدل نظراته وبعد لحظة ادراك.. من الفضول إلى ذهول
"أبوي"!
.................................................. .................................................. .................




عندما يعشقون صغاراً(الجزء الثاني من سلسلة مغتربون في الحب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن