الفصل الأول

6.4K 139 4
                                    

الفصل الأول

جرس الباب قاطع عملهما المنهك في إعداد الفطور لا سيّما في هذا الحرّ الذي يكاد بستنفذ كلّ ما يملكنه في أجسادهنّ الرقيقة من طاقة متبقية لم يستهلكها الصيام حتّى الآن بالفعل
أسبوع قد مضى من شهر رمضان الفضيل وأسبوع مذ عاد الغائبون المغتربون، لا زالت غزل تذكر ذلك اليوم الذي فاجؤوهم فيه بعودتهم بعد أذان المغرب بقليل وقد كانوا لا يزالون يرتشفون من أطباق الحساء التي لا تستوي سفرة الطعام إلّا بها في رمضان حين فاجأتهم طرقات قويّة عنيفة على باب البيت تنخلع لشدّتها القلوب...
وما هي إلا دقائق حتّى كان الهرج والمرج يعمّ البيت احتفاءا بصغارها العائدون من غربتهم الاختيارية فيكون وجودهم كما السحر ناثرا البهجة على وجوههم لا سيّما وجه أمّهم الذي بات الحزن جزءا من صفاتها التي يكاد يخالها من لا يعرفها قبل سبع من السنوات جزءا من ملامح تكوينها التي جبلت عليها
عاود القرع إزعاجه فبادرت للطلب من رحيق فتح الباب، نظرت لها رحيق باستغراب قبل أن تتجه بسرعة منفذة طلبها لا سيّما أنّ غزل بالعادة تفضل أن تفتح هي لزوجها الباب دون غيرها
دخل كرم المطبخ وحيدا وقد تأخرت رحيق من بعده تتلاهى بعمل ما كي لا تتطفل عليهما، كانت إمارات الإنهاك تبدوا واضحة عليه بوجهه المحمرّ وجبينه المتعرق من شدّة حرارة الجو الخانقة في الخارج
نظرت له غزل بشفقه وكادت تتناسى مشاجرتهم التي حصلت في الصباح لكنّها سرعان ما قرّرت أنّ الصمت أسلم فبعد سنوات من الزواج باتت تعلم أنّ مزاج زوجها غير موثوق دائما أثناء الصيام
تناولت من بين يديه أكياس عصائر التمر الهندي والليمون التي لا شئ يسعدهم كما ارتشافها من بعد ساعات الظمأ الطويلة وكيس "القطايف" ومكونات حشواته المختلفة من الجوز والزبيب والقشطة والذي لا تستغني عنه أيّ أسرة في الأردن كتحلية طوال الشهر الفضيل
وضعت غزل الأكياس على الطاولة خلفها وقبل أن تدخلها البراد كما كانت تنتوي، اختطفتها يد زوجها يسحبها معيدا إيّاها واقفة أمامه ليحاوطها بذراعه الآخر قائلا: شو ما في يعطيك العافية حبيبي... يسلّم ايديك حياتي... اشتقتلك كرومتي؟!!
نظرت له غزل بعتب وبعض العجب فهي وإن كانت تتوقع منه بعض الندم على صراخه غير المبرر بها صباحا سوى لافتقاده لسيجارته الصباحية، إلّا أنّها لم تتوقعه الآن وقبل الإفطار وقبل التشبع بكميات مهولة من سمّ النيكوتين والذي لا غنى له عنه
قاومت اشتياق عينيها وهربت بنظراتها منه خوفا من أن تضيّع على نفسها متعة التمنّع والتدلّل، أمّا هو فقد كان بداخله يلوم نفسه على انفلاتات أعصابه التي لا سيطرة له عليها فهو وكما تقول زوجته حينما يغضب يعود الغول النازق من جديد وتكون أعصابه رهنا لعفاريته: حبيبتي والله آسف ما كان قصدي أعصب عليكي بس والله الفترة هاي مرهق جدا وتعبان من السهر وقلة النوم واللف الطويل بالسيارة تحت الشمس
نظرت له رغما عن إرادتها تتبع الإرهاق يترك آثاره العميقة على ملامح وجهه الحبيب وتتبعت بعض حبّات العرق تلتمع على جبينه المتغضن فرفعت يدها تلقائيا تمسح عليه ليتلقف يدها سريعا ويضغها على فمه ويقبلها بعمق وامتنان وبقول: يسعدلي الحنوون أنا!!
ثمّ غمزها بوقاحته المعتادة وسأل: هلأ بدي أسألك... البوسة بتفطر برمضان؟
ابتسمت غزل رغما عنها وقالت: يعني النا سبع سنين متزوجين ما في يوم من أيّام رمضان مرّ من دون ما تسألني هالسؤال وبكلّ مرة بقولك على حسب النية
ضحك وقال لها بخبث: وكل مرة خلال السبع سنين كنت أجاوبك نفس الجواب "نيتي من ناحيتك مش ممكن أبدا في يوم تكون سليمة"
قهقهت غزل وقالت بدلال لتلهيه عن قبلته المشتهاة: يعني ما سألتني عن دلع اليوم
أجابها ونظرة الخبث لم تفارق محيّاه: شو بدّي بدلع وإم الدلع كلله هون عندي وبين إيداي!!
تضرجت خدودها ببعض الخجل وقبل أن تجيبه بشئ كانت رحيق تصدر تمتمات اعتذار بينما تغادر المطبخ الذي كانت قد دخلته توّاً
نادتها غزل حالا وقالت: تعالي لوين رايحة
قالت رحيق بابتسامة خجل واعتذار: آسفة والله بس فكرت عمو طلع
حاولت غزل كتم ابتسامتها فكلمة "عمو" والتي كانت تطلقها رحيق على كرم وأحمد مذ دخلت بيتهم منذ سبع سنوات حين كانت ابنة الأربعة عشر ربيعا كانت تبدوا لهما مقبولة حتّى جاء يوسف ليسخر منهما فقد شابا حسب كلامه وأصبحا عجوزين لتدعوهما شابة مثلها بذلك لا سيما وأنّها زوجة لأخيهما... ربما حينها فقط انتبهوا أنها فعلا لم تعد طفلة وأصبحت شابة تضج أنوثة!!
أجابتها غزل بينما تلكز كرم: هو فعلا طالع يتحمم لأنه ما بقي لوقت الأدان اشي وصار لازم نستعجل بتحضير السفرة
ثمّ نظرت لكرم لتكمل بحزم: وأنت يلا تفضل اطلع اتحمم وجهز حالك للفطور
ما إن خرج كرم من المطبخ حتّى سُمع صوت انصفاق باب آخر من إحدى غرف البيت تلاه سعلة زائفة يريد بها عمر دوما التنبيه لخروجه
نظرت غزل ذاهلة لرحيق التي رمت كلّ ما بيدها وركضت لتخرج من المطبخ إلى حيث هو... ذهولها لم يكن لذات الفعل وإنّما لمداومة فعله فها هي رحيق ومنذ سبع سنوات تلهث خلف رضاه وكأنه أمر برمجت على فعله رغم عدم مبالاة عمر المتزايدة حول محاولاتها الحثيثة
أما هو فما إن خرج من غرفته متجها ناحية الحمام حتّى لاح له خيالها متسارعا... يلهث... "بدّك شي"... سؤال كاد يسمعه في عقله منطوقا رغم عدم نطقها به... بعد!!
"بدّك شي؟"
زفر بملل قبل أن يستغفر بهمس حانق ليقول ببرود دون حتّى أن ينظر إليها: لأ شكرا
إجابة انتظرتها وتوقعتها هي أيضا ليدخل هو بعدها إلى الحمام وتعود هي إلى المطبخ بضمير مؤرّق ووغير مرتاح!
.................................................. .................................................. .................

عندما يعشقون صغاراً(الجزء الثاني من سلسلة مغتربون في الحب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن