الفصل الخامس

5K 112 3
                                    

الفصل الخامس

صوت تكبيرات العيد وتهليلاته كما دوما أيقظت بداخلها تلك الطفلة التي دوما ما كانت تستيقظ منذ ما قبل بزوغ الفجر توقظ والديها بضوضائها مهدية إيّاهما باقة ضخمة من القبل وأخرى من المعايدات والتبريكات لتذهب بعدها فتقف أمام نافذة غرفتها تراقب الأفق تترقب بزوغ الشمس وما إن تطلّ عليها بثوبها الذهبيّ المحمرّ حتّى تدخل بنوبة أخرى من التجهيزات وتدخل والديها بها ولا يهنأ لها حال إلّا وقد وصلوا إلى حيث يتجمع من الناس زمرا لأداء صلاة العيد
الحقيقة هي أن ليس صباحاتها فقط في العيد هي ما كانت صاخبة إنّما كل ساعاته وفي كلّ أيّامه... العيد كان بهجة قصوى لها حيث كانت تشعر أنّها ليست سوى أميرة وما عليها سوى أن تطلب لتطاع... خروجات وزيارات وألعاب ومطاعم ونزهات... سعادة في سعادة
تنهدت رحيق بينما تتقلب في فراشها تسمع صخب الصغار في الخارج جاؤوا ليعايدوا جدّتهم قبل الذهاب لصلاة العيد وربما أيضا ليستلموا أولى "عيدياتهم" فتبتسم في شجن..
محتاجة... مشتاقة... مفجوعة... مسحت رحيق دمعة استقرّت على خدّها فيما تتنهد من جديد... بألم... دوما دوما في صباحات العيد خاصة تتذكر أنّها يتيمة... لو كانت تعلم فقط... لزادت من قبلها والصخب... رحم الله والديها... وأنار قبورا تحتضنهم
أغمضت عينيها تعتصر ذاكرتها تحاول استرجاع ملامحهما التي تشعر أحيانا بخشية أنّها قد تكون ضيّعت بعضا من تفاصيلها... فإن نسيت فمن أين لها أن تتذكر ولا صورة معها لتذكّرها فالصور قد كانت آخر همهم عندما كانت الأرواح على المحكّ
لم تكن رحيق تدرك في خضم بؤسها وتحسّرها على صورة أنّها قد تكون أكثر حظا من غيرها فغيرها وإن ملك ألبوما من الصور فلا ذكريات يؤسف عليها لكي يستعيدها... بالضبط، كحال تلك الأخرى التي استيقظت منذ ما قبل الفجر وشعور عارم بالفراغ يلفّها... شعور بالانفصال، وكأنّ تلك البهجة وذلك الجنون اللذين ينتابان الناس من حولها في خضم تحضيراتهم للعيد بل واستقبالهم له غير مفهومين بالنسبة لها
في كلّ عيد تأخذ بمراقبة بيت عمها، سراب وأولادها ومجد وأطفاله فتستغرب وتسأل ما الشئ المختلف بالعيد كي يكون يوما مميزا... في كلّ مرة تشاهدهم يحييون بعضهم في يوم العيد بحفاوة شديدة وكأنّهم لم يروا بعضهم منذ يوم أو يومين تكاد تضحك عليهم تكاد ولا تفعلها فطفلة متوارية بزاوية باردة مظلمة ومهجورة داخل قلبها تراقبهم أيضا بعين دامعة وبعض الحسد!
لطالما كان العيد بالنسبة لها وللميس إجازة مدرسية، مسرحيات تلفزيونية، وملابس جديدة... الكثير منها... وعيدية مالية لا فائدة منها توضع في حصالاتهم فبم سيصرفونها إن كان الخروج شبه معدوم... عيدية حرموا منها أيضا ما إن كبرن قليلا ليستعاض عنها بكثير من الهدايا فكثرة المال ليست إلا مفسدة أخلاقية!!
ما كان يخفف عنهن وطأة الكآبة في العيد أنّ والديهما كانا يعلنانه كهدنة فيما بينهما فيتوقفان عن الشجار إلّا بالطبع إذا قرّر والدهم التفريج عليهم وإخراجهم لتناول وجبة طعام خارج البيت في مطعم ما حينها فقط تنتهي تلك الهدنة كلّها وكأنّها لم تكن فاتهامات والدها وشكوكه وتأويله لكلّ حركة ونظرة وهمسة من والدتها كانت تعيد اشعال فتيل الحرب بينهما من جديد، ولهذا السبب بعد أن كبرن قليلا بتن هنّ بأنفسهنّ يرفضن ذلك الإمتياز بالخروج فلا هنّ على استعداد لاهدار تلك الهدنة السلمية ولا راغبات بالخروج كما العساكر خلف ضابط فلا همسة ولا ابتسامة ولا نظرة، فإن كان الهدف من الخروج هو الأكل فقط فخدمات التوصيل للمنازل أكثر من كافية... أما والدهنّ فقد وجد باعفاءهنّ هذا له فرصة في بعض الأحيان لزيارة الأردن حيث أهله ووالدته فيقضي بعضا من أيام إجازة العيد معها... جدّتها... "زاكية" !!
آآآه كم تكره هذا الاسم... سامح الله والدها الذي اختاره لها ارضاءا لوالدته التي غضبت منه بعد أن تجاهل تسمية لميس بذلك الاسم ليكون من نصيبها هي، وما ذنبها هي لتحمله طيلة حياتها فتمضي سنينها في المدرسة متعرضة لاستهزاء زميلاتها فهناك لقب "زوزو" لم ينفعها لا سيما أنّها كانت دوما من المتميزات في المدرسة واسمها كثيرا ما كان يتردد على ألسنة المعلمات
تذكر جيّدا أول دخولها للجامعة كم كان الأمر محرجا عندما ترى نظرة الصدمة على وجوه زملاءها والاحراج الشديد الذي يربك ألسنتهم عندما يودون مخاطبتها ولكنّهم ولله الحمد مع الوقت اعتادوا الأمر فما عاد الأمر مربكا لها ولهم ولكنّ تلك اليافطة التي ستعلقها يوما على باب عيادتها لا زالت تؤرقها "الدكتورة زاكية" يا للسخرية!!
تغضن جبين زوزو بينما تذكر صوتا لضحكة لازال يتردد في ذهنها باستفزاز منهك لكلّ تجاهل وبرود تدربت عليه عند مواجهة أي سخرية أو ردة فعل تلاقيها عند ذكر اسمها لكن الحقيقة أنّ كلمات الاحراج كلّها والسخرية والصدمات التي مرّت عليها عبر سنوات حياتها كانت لاشئ وتلاشت تماما في ذلك اليوم عندما تعالت ضحكات ذلك المغرور تملأ المكان حولها ساخرا مستهزءا منها!
تذكر جيّدا استغراقه التام بالضحك ما إن نطق ابن أخيه الكريه اسمها فتثور بداخلها براكين من الغضب فتنهال عليه بمجموعة ضخمة من الاهانات التي على الأغلب لم تطرق أبواب سمعه ولا حتى شبابيكها فكيف ستفعل وصوت ضحكته كاد يصمّ آذانها
ما ان انتهت جعبتها من جميع كلمات الـ" سخيف صفيق كريه وقح تافه" وكلمات أخرى مشابهة حتّى أحسّت بكمية هائلة من الدموع تتكاتف وتهدد بالانهمار لتتركه لسخافته وتتحرّك مبتعدة عنه تداري ضعفها ودموعها، سمعته ينادي عليها يطلب منها الانتظار ولكنها ببساطة تجاهلته وانطلقت بسرعة طلقة تبحث عن مخبأ ما ومن حسن حظها أنّ ابنة أخيه استوقفته لتطلب منه شيئا ما!
كان بعض الوقت قبل أن تخرج من الحمّام بعد أن تأكّدت من أنّ وجهها قد أصبح على ما يرام ولا آثار لدموع ضعف كريهة تبدوا واضحة في عينيها ولكنّها ولسوء حظها ما ان خرجت حتّى وجدته واقفا مرتكزا على الجدار أمام باب الحمام في انتظارها
التقت عيناهما لثوان قبل تستدير عنه بوجهها بسرعة تدّعي التجاهل قبل أن تتصدّع بعض من أسوارها المزججة العالية أمام نظرات عينيه الـ... الماذا هي حقا لا تفهم
ما إن مشت بشبه خطوة حتّى أحسّت به بجانبها: أنا آسف
نظرت له بطرف عينها واستمرّت بالسير دون حتّى أن تعبّره بنصف كلمة لكنّه وللأسف لم يبادلها الصمت: والله ما كان قصدي أجرحك ولا حتّى أحرجك... بس الموضوع... الفكرة إنّه... كتير فكرت شو ممكن يكون اسمك بس أبدا أبدا ما خطرلي هالاسم.. هو غريب بصراحة بس...
توقفت خطواتها رغما عنها تحاول السيطرة على انفعالاتها وجعله يصمت فرشقته بنظرات ثلجية ممتلئة حقدا ولكنّه ببساطة تابع بينما نظرات عينيه يتمازج فيها التلاعب مع الأسف حتّى يطغى عليه ويخفيه: بس... لابقلك... يعني شو بدّي أحكي الاسم مفصّل تفصيل الك!!
بينما كانت زوزو تقنع النيران التي بداخلها أن تخمد قليلا نظرت إليه وقالت ببرود: بما إنّك خلصت... عن إذنك!!
مشت بخطوات متسارعة لتسمعه من وراءها ينادي: زاكية!
"زاااكية"!!!!!
راقب خطواتها المنفعلة تتجمّد بشكل مفاجئ لتستدير إليه وتعاود خطواتها حيث هو ونظرات عينيها ترسل نحوه كراتها الثلجية الملتهبة كمن مسّها ضرب من الجنون اثر انسكاب دلو من الماء المثلج على جسدها، توقفت أمامه مباشرة وقالت بينما ترفع يدها في وجهه وتشير فيها بتساؤل وتهديد: شو قلت؟
استمتاع هائل ملأه وبارادة من حديد حاول السيطرة على اندفاع الأدرينالين في دمه وقال بادعاء ثعلبي أصفر: اووبس... آسف... قصدي الدكتورة زاكية!!
كزّت زوزو على أسنانها وقالت بغيظ شديد بينما تحاول السيطرة على انفعالاتها فلا تفقد هيبتها أمامه اكثر من ذلك: سيّد يوسف... الرجاء التعامل بيني وبينك يحافظ على المسافة المفروضة بينا واللي ما بيلطفها غير علاقة القرابة غير المباشرة واللي بتفرضها علينا علاقتنا المشتركة مع بيت عمي أبو مجد
كان يوسف في هذه الأثناء صامتا يتأمل كلماتها بل يتأمل ما وراءها وما وراء صاحبتها من خفايا وأسرار وفي خضم تعمقه ذاك غادرته بخطوات واثقة أكثر هدوءا وسيطرة لا سيما وقد ظنت أنّها قد وضعته عند حدّه ولكن ذلك بالطبع كان قبل أن ينادي عليها هذه المرة قائلا بتأكيد: دكتورة... الاسم اسمك وأنا مش مضطر أدلعك... لا سيّما والعلاقة بينا شبه رسمية والمسافة بينا من المفروض نحافظ عليها!!
وهذا ما كان فقد حافظ طوال تلك السهرة على المسافة وعلى الاسم أيضا... فمرّة "الكبّة كانت اليوم كتييير زاكية" ومرة "جربوا الكنافة عندهم هون زاكية" ومن مثل هذا كان هناك الكثير!
تأففت زوزو بقهر لادراكها أنّ يوسف بات فعليا يشغل أو بالأحرى "عاد" يشغل الكثير من أفكارها فقامت عن السرير تريد غسل جسدها وأفكارها أيضا مما بهما من تلوثات والتركيز على أهم ما في حياتها وما بذلت لأجله الكثير... دراسة الطب!
.................................................. .................................................. .................





عندما يعشقون صغاراً(الجزء الثاني من سلسلة مغتربون في الحب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن